Print
محمد بنعزيز

فيلم "وليلي" لفوزي بنسعيدي: التراجيديا في السينما

2 نوفمبر 2017
سينما

فوزي بنسعيدي يلمع في افتتاح الدورة الثانية والعشرين لمهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف بقاعة مسرح محمد الخامس، المهرجان الذي يجري بين 27 أكتوبر/ تشرين الأول ولغاية 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017. فبنسعيدي هو رئيس لجنة التحكيم، وقد كرمه المهرجان وقدمه للجمهور كمدير سابق للمعهد العالي للفن المسرحي الذي درس به المخرج قبل أن ينتقل إلى السينما.

وقد كان الافتتاح مناسبة لتقديم العرض الأول بالمغرب لفيلم بنسعيدي "وليلي" 2017 الذي سماه على اسم مدينة رومانية عمرها ثلاثة وعشرون قرنا تقع وسط المغرب.

بدأ الفيلم بلقطة مسح الزجاج من أجل رؤية أفضل وأبعد، وفي جل لقطات الفيلم يقدم بنسعيدي مشهدين، أحدهما في مقدمة الكادر والآخر في عمق الكادر المفتوح على الأفق.

كادر في كادر، من نافذة منزل، من نافذة سيارة، من ثقب في جدار مكسور، من انعكاس المباني على الماء، "فيترينات" السوبر ماركت حيث يظهر الشارع في عمق الكادر. للالتصاق بلحظة الحدث هناك برويتاج (صوت ينتج عن الحدث) أقوى من الموسيقى التصويرية التي يستغني عنها المخرج كثيرا. في الفيلم اقتصاد في اللقطات وبحث مستمر عن لقطة المشهد التي لا تحتاج إلى مونتاج، فالمسرحي لا يحب المونتاج.

في كل لقطة هناك جهد في التأطير، وفي الإطار قصة عادية يومية، ما هي؟

يتجنب هذا المقال تلخيص قصة الفيلم ويعمل على إستراتيجية بديلة هي تعرية الحيل الفنية الحاكمة للسرد.

بداية هناك خطاطة سردية متماسكة. بطل لديه مهنة صارت ورطة جلبت له عدوا. كل شيء يحصل أمام أعيننا لا شيء جاهز مسبقا، نتتبع تصاعدا تدريجيا للعنف، إنه الصعود خطوة خطوة نحو الهاوية، ومن خلال هذا التدرج تم بناء الشخصيات بشكل متماسك.

يبدأ الفيلم وعلاقة الحب في أوجها، حكاية مليكة وعبد القادر، حكاية روميو وجولييت مغربية. حب بدأ فوق هضبة وليلي ويتدحرج نحو حفرة، ومع كل حفرة ضغط يفكك العلاقات، تتكسر العلاقة إلى شظايا، في التراجيديا تنعدم النهايات السعيدة.

ومع التفكك يتمكن المخرج من التقاط الخواء والتيه الذي تعيشه الشخصيات بحس مرهف. حين يبكي عبد القادر لاكتشاف مستوى بلاهته أكثر من بكائه بسبب ألم جسده، وحين يفهم أنه لا هو حي ولا هو ميت.

كان بطلا الفيلم هنا قد اكتشفا المرارة وهذا أحد معاني كلمة وليلي. فاسم المدينة مشتق من الكلمة الأمازيغية أليلي وهو نبات مزهر لكنه مرّ الطعم. نبات هو الدفلى وهو نبات له ورد مسموم. يقول المثل المغربي "الزين في الدفلى وحارة" (أي مُرة). تُشبّه الحياة والجميلات جدا بالدفلى. منظرهن جميل وطعمهن مر.

في النصف الثاني من الفيلم، تذوقت الشخصيات الدفلى وصار وعيها شقيّا بعد أن فقدت وعيها السعيد الذي حجب عنها الواقع، تتشبع هذه الشخصيات بوعي شقي جارح يفتح عيونها، لذلك فهو وعي شقي إيجابي يدفعها ليس للعدم بل للخلاص.


حبكة التراجيديا الخماسية

يروى الفيلم من وجهة نظر شابة تتدحرج في هضاب وليلي، ويتم السرد بإيجاز خاصة حين يقدم المخرج الشخصيات الثانوية. ثلاثون ثانية كافية لكشف قصة خيانة، وهذا الإيجاز يقلص تماما الوقت الميت من الفيلم. شخصيات ثانوية وظيفتها الأساسية دفع الحبكة الرئيسية إلى الأمام. الفيلم مبني وفق مراحل هرم غوستاف فريتاج عن بنية الحبكة في التراجيديا. فبعد العرض والتعقيد جاءت الذروة التي تسببت في انقلاب العلاقات، وأخيرا جاء كشف فيديو الإهانة للحسم.

اتبع الفيلم هذه الخطاطة السردية الخماسية دون الوقوع في الميكانيكية. وتقع نقطة التحول حين يتخطى البطل حدوده مع من يعتبرون أنفسهم أسياده ويتولون تأديبه وتربيته من جديد. والرسالة هي أيها الفقراء لا تقتربوا من الأغنياء وإلا سيسحقونكم.

هكذا يعلن المخرج موقفه من هذا الصراع اللامتكافئ تقنيا. فالفقراء دائما في مقدمة اللقطة. لا تزيد المسافة بين الكاميرا والفقراء على متر، إنهما ملتصقان يتزاحمان. بينما تفصل بين الكاميرا والأغنياء أمتار كثيرة، البؤس في مقدمة الكادر والاحتفالات والشهب المضيئة في عمقه.

الفقر عار. فكيف يصير الفقر إذلالا؟ وكيف يُولّد الإذلال حقدا يسحق الأمل؟ فوزي بنسعيدي يعرض وصفة حصول ذلك. إنها التراجيديا في السينما... تراجيديا البسطاء لا تراجيديا الأبطال وأنصاف الآلهة.

تمثيل تلقائي

و"ليلي" هو الفيلم الطويل الرابع لبنسعيدي بعد "ألف شهر" 2003 و"ياله من عالم جميل" 2006 و"موت للبيع" 2011. الفيلم من بطولة محسن مالزي (عبد القادر) وناديا كوندة (مليكة) التي حصلت على جائزة أفضل ممثلة في مهرجان الجونة السينمائي... أداء منى فتو كان مميزا وقد أدى المخرج بنسعيدي دور زوجها.

جل الممثلين عملوا مع المخرج أكثر من مرة في أفلامه. وهو يعتبر أن التعارف المسبق للممثلين سمح باندماجهم. ويزيد هذا عندما يمثل معهم. فبنسعيدي ممثل مسرحي أولا. وهو يقول "عندما أمثل فأنا أدير المشهد من الداخل" من هذا الموقع يمنح ثقة أكثر لممثليه لأن الكاميرا لا تفصل بين الممثل والمخرج.

صناعة الصورة صعبة

يقول بنسعيدي "يوجد الممثل في أصل المسرح، بينما ظهر المخرج في القرن العشرين فقط. في أثناء التصوير يتبع أربعون شخصا المخرج. قد يتبعونه في الإبداع وقد يتبعونه في الأخطاء". ويعتبر بنسعيدي أنه ولد يوم صار مخرجا، له ميلاد مزدوج. ميلاد بيولوجي وميلاد فني يوم صور أول لقطة سينمائية.

وهو يعترف بأن صناعة الصورة صعبة. وبسبب هذه الصعوبة تعود أن يصور نهايتين لأفلامه. واحدة تعيسة والثانية أشد تعاسة.

المنطلقات الفنية للمخرج

يصور بنسعيدي نهايتين لأنه يريد أن يمدد خياله لما بعد السيناريو. وقد أصبح هذا سهلا بفضل التصوير الرقمي. وفي المونتاج يقرر أي النهايات أنسب لفيلمه. غالبا يختار نهاية مأساوية مع انبعاث صغير من الرماد.

وكشف بنسعيدي منطلقاته الفنية قائلا إن بنية الإيقاع الموسيقي قريبة من بنية الإيقاع الفيلمي. وأضاف أنه لا يجب أن نصل لموقع التمرين والتصوير ونحن نحمل أجوبة بل يجب أن نتجه للإبداع ونحن محملون بالأسئلة لنجرب لأنه "في الفوضى هناك دائما شيء أجمل من النظام"... وأضاف "نعيش في عالم جد مسيس لكن الفن الحالي غير مسيس وهناك فن متحرر من الالتزام بشكل قوي. هناك هدفي شخصي للمبدع. يبدع الفنان ليصير مشهورا... لكن لا يمكن إبداع أفلام لا يراها أحد ووظيفة السينما هي أن تربي الإنسان لا أن تغير العالم".
 
تجدر الإشارة أن فوزي بنسعيدي مخرج سينمائي بدأ نشاطه الفني في المسرح. يقول: "بدأت علاقتي بالفن والمسرح معتقدا أن المسرح هو الأقرب للسينما. قبل الثمانينات كان العمل في السينما مغامرة. في نهاية الثمانينات صار فقط من الصعب الاشتغال بالسينما لذا بدأت بالمسرح...". 

كما تحدث عن أوجه الشبه بين السينما والمسرح وهي: القصة والحوار والإضاءة والممثلون والجمهور. في المقارنة قال "في المسرح يصير الممثل هو ملك الخشبة. المسرح فن تجري فيه الدماء. لحظة العرض المسرحي متحركة. كل عرض لا يتكرر بينما الفيلم ثابت مسجل".

خلص بنسعيدي من مقارنته إلى أنه لا علاقة للسينما بالمسرح. لكن بالنظر لفيلم بنسعيدي القصير الأول "الحافة" يبدو أن هناك صلة بين المسرح والسينما. أما في فيلمه "الحيط الحيط" فالقصة مسرحية فيها وحدة الحدث والمكان والزمان. حتى الإخراج مسرحي بدليل أن هناك ديكورا واحدا وكادرا واحدا من موقع الجدار الرابع المرفوع. أما في فيلم "وليلي" فيبدو أن المخرج ابتعد عن المسرح واقترب من السينما أكثر وإن احتفظ بالحبكة الخماسية.