}

نحو الذكرى الأولى للحراك الجزائري.. ما بين مدّ وجزر

بوعلام رمضاني 5 فبراير 2020
آراء نحو الذكرى الأولى للحراك الجزائري.. ما بين مدّ وجزر
حراك الجزائر يبقى استثنائيا في العالم العربي (رويترز)
الجميل في حراك الجزائر ارتباطه جدليا بإشكال ما تبقى من دور المثقف ليس في الجزائر والعالم العربي فحسب ولكن في العالم بوجه عام، حيال التحولات المتعددة المستويات والمسارات التي أصبحت تحدث في غياب لمستهم وفعاليتهم كما كان يحدث من قبل. والأجمل في حراك الجزائر، الذي انطلق دون مثقفين تجاوزهم وعي الشعب بتواطؤ الكثير منهم ضد مطالبه، استعداده للاحتفال بذكراه الأولى على خلفية ضجات وخصومات ورهانات وآمال وآلام وسلوكات ومواقف تصب في صلب الثقافة بمعنييها العام والخاص.

خلال أربعة أشهر قضيتها متنقلا بين عدة أماكن من الوطن والجزائر العاصمة، عشت يوميات ثقافية مشرعة على الإيجاب والسلب، والمد والجزر، وعلى الأخذ والرد، على النحو الذي يجعل من الأمل أمرا ممكنا ومباحا رغم استكانة واستقالة وصمت مثقفين منشغلين أكثر بإبداعهم وبمصالحهم داخل وخارج الجزائر أو واقعين في أزمة نفسية ووجودية بسبب ضياع بوصلتهم الفكرية في سياق أبطل مفعول الأيديولوجيات العتيقة بكافة ضروبها.


العياشي.. من الحراك إلى وزارة الثقافة
الأيديولوجية والبراغماتية والحرية المسؤولة والحدود الأخلاقية والرفض القاطع للغة التخوين لمجرد الانتقال من صف المعارضة إلى الدولة هي بعض العناوين العريضة التي طغت ثقافيا في ساحة الحراك إثر قبول أحميدة العياشي، الإعلامي المعروف، منصب مستشار في ديوان مليكة بن دودة، وزيرة الثقافة الجديدة. بن دودة المتخصصة في فكر حنة آرندت والباحثة السابقة في مركز البحوث حول الأنثربولوجيا الاجتماعية والثقافية، تعد في نظر البعض يسارية وتقدمية مثل مستشارها الجديد، وأمضت شهورا مثله وسط حراك الشعب تعبيرا على رفض سلطة الأمر الواقع، إلا أنها غيرت الجناح مؤمنة بتغيير في الأفق وقبلت بمنصب وزاري لا يتناقض مع مطالب الشعب في الثقافة وفي غيرها من المجالات كما تعتقد. القارئ لبيان مستشارها في صفحته الفيسبوكية، يكتشف قناعة الوزيرة التي ستعمل على "خلق جو وشروط جديدة للممارسة الثقافية تقوم على الشفافية ومحاربة الرداءة وأخلقة القطاع الثقافي والفني وبعث روح خلاقة وثورية في المشهد الثقافي وتأسيس تقاليد جديدة في ممارسة العمل الثقافي والانفتاح على المجتمع بفتح حوار حقيقي وجاد مع الفاعلين الثقافيين على المستوى المحلي والوطني والإصغاء للمطالب العميقة لممثلي الجزائر الثقافية".
أحدث قبول العياشي بمسؤوليته الجديدة في سلطة ندد بها مرارا، ضجة غير مسبوقة داخل وخارج الحراك، ورد على زملاء الماضي ومنهم على الذين اعتبروه خائنا، أن قبوله المهمة يفسر بحس وطني براغماتي يرفض صاحبه السلبية والتباكي دون تحمل مسؤولية التغيير الممكن من الداخل اعتمادا على معرفة بالقطاع. العياشي لم يكن الوحيد الذي قبل من الإعلاميين المعروفين مسؤوليات في الحكومة الجديدة ولا يعد الوحيد الذي صدم الكثيرين من مثقفي الحساسيات اليسارية وغير اليسارية المستمرة في معارضة السلطة. واعتبر البعض الآخر قبول الإعلامي والأستاذ القانوني المتميز عمار بلحيمر منصب وزير الاتصال صعقا أكثر قوة، وهو الرجل المثقف الذي قاد حركة الصحافيين من أجل حرية التعبير في السبعينيات، وكما استعانت وزيرة الثقافة بإعلامي ثقافي كمستشار استعان وزير الاتصال بنور الدين خلاصي كمستشار أيضا، ويكمن الفرق بين الاثنين على المستوى اللغوي بحكم ازدواجه عند الثاني وأحاديته عند الأول المعرب القح.


الحرية لفضيل بومالة
حراك الجزائر يبقى استثنائيا في العالم العربي وفي العالم لأن استمراره ليس سياسيا خالصا، وتحوله وربما انقسامه وضرورة عقلنته وتوجيهه وترشيده ووضع حد لعدمييه هي حقائق تحفظ ما تبقى من دور المثقف عند الرافضين للتدجين والانتهازية والمحاباة باسم البراغماتية والواقعية. وسجن مثقف مهم وشجاع مثل فضيل بومالة حتى ساعة كتابة هذه السطور والمطالبة بإطلاق سراحه أسوة بمعتقلي الرأي هي أيضا من الحقائق المناقضة من جهة لمواقف المعترفين بالأمر الواقع لأسباب يرون أنها تقي الوطن من الفتنة، والمغذية من جهة أخرى لحيوية ديالكتيكية محتشمة لكن غير مسبوقة في تاريخ كتاب وأساتذة وإعلاميين ومثقفين قلائل ما زالوا صامدين في وجه الإغراءات التي قبل بها البعض الآخر "والتي سيندمون عليها"، حسب الإعلامي البارز نصر الدين السعدي الذي تبرأ أمام "ضفة ثالثة" من "الذين أصبحوا يعملون ضد الشعب الذي خرجوا منه مدعين تبصرا ثقافيا متقدما وواقعيا لأزمة وطنهم".
الأستاذ والكاتب بومالة يقرأ ويكتب في السجن، حسب المعلومات التي وردتنا، مثله مثل كريم طابو، في الوقت الذي يستمر فيه مثقفون من النوع الرصين والهادئ والواقع في قفص التوفيق بين أطراف فكرية ولغوية وجهوية متناقضة ومتصارعة. المؤرخ محمد أرزقي فراد، صاحب الكتب المرجعية الهامة حول التراث الأمازيغي باللغة العربية والمسلم الذي يصوم ويصلي خلافا لأمازيغيين علمانيين وفرنكفونيين لا يتفق مع طرحهم الإقصائي، يعد منارة فكرية متميزة على خلفية حراك الجزائر ودليل تنوع يدعو صاحبه إلى الوحدة والتعايش في ظل الاختلاف الصحي في كنف ديمقراطية غير فئوية لا تعكس مصالح أقلية ترفض ثوابت الذاكرة الثقافية المشتركة باسم محاربة الظلامية الدينية. والمحلل الإجتماعي البارز ناصر جابي علامة بارزة هو الآخر في المشهد الثقافي الجزائري على خلفية حراك يراه مبرر تفاؤل مطلق من منظور سوسيولوجي عميق بعد أن أصبح يؤمن أن وعي الشعب قد تجاوز مثيله عند متعلمين صنفوا أنفسهم في خانة المثقفين، وجابي يحلل الحراك ويوثق له يوميا ويتظاهر ويشرح في شوارع العاصمة محاطا بمعجبيه الكثر مثله مثل الحقوقي الكبير مصطفى بوشاشي ومحمد أرزقي فراد والمحامي إسماعيل معراف والمجاهدة المسنة إيغيل أحريز صاحبة كتاب "ثائرة" التي حكت فيه التعذيب الذي تعرضت له في السجون الفرنسية مثلها مثل البطلة جميلة بوحيرد التي خلدها الراحل يوسف شاهين.


الثقافة بين بيتي بورقعة والإبراهيمي
جمع بينهما التاريخ الثوري والثقافي والحب والإخلاص للوطن، كما جمعت بينهما الشيخوخة التي مكنتهما من معايشة حراك شعبهما والانخراط فيه بدرجات مختلفة ومتفاوتة بشهادة مثقفين وعامة ناس ما زالوا يتوافدون على بيتيهما طمعا في جلسة تاريخية بكل المعايير.
الذين يزورون المجاهد الأخضر بورقعة في بيته الذي يعد متحفاً صغيراً، يحلمون بالتحدث لصاحب كتاب "شاهد على اغتيال الثورة" ولعدو الرئيس الراحل القديم هواري بومدين الذي سجنه قبل الراحل الحديث رئيس الأركان أحمد قايد صالح، كما أنهم الضيوف الذين لا يملون من الاستماع لرجل ينطق بثقافة عصامية تسمح له بتوظيف غاندي وابن خلدون وهنري علاق وديغول ومحمد حربي ومحمد يزيد للربط بين ماضي وحاضر الجزائر بسلاسة لافتة وبذكاء وقاد. بورقعة العجوز غير الأكاديمي، يعترف بمحدوديته الفكرية وهو محاط بزواره من المثقفين والإعلاميين والجامعيين والمحامين والحقوقيين والمجاهدين، ولولا حركة الدخول والخروج التي لا تنقطع طيلة المساء في بيته لشعر المرء أنه في بيت ولي صالح يزار طلبا للحكمة في زمن الجنوح والجنون.
الثاني مثقف وليس عصاميا مثل الأول وأحب ومجد بومدين، وبيته يعد متحفا أيضا لكن ليس متحف صور كبيت المجاهد بورقعة وهو شاب يواجه الاستعمار، ولكن متحف كتب غطت جدران مكتبه الضخم الذي يجلس فيه وسط مثقفين وإعلاميين وسياسيين يأتون إليه من كل فج عميق. إنه بيت أحمد طالب الإبراهيمي، إبن العلامة البشير الإبراهيمي، ووزير الثقافة والإعلام والخارجية السابق، الذي ما زال وفيا لمثله الأعلى بومدين ببرنوسه البني الأصيل وبسيجاره الكوبي رغم اقترابه من الآخرة على حد قوله لكاتب هذه السطور وهو يهديه نسخة من كتابه "أحب وطني رغم أنفكم... يوميات صحافي وسط الحراك". مثله مثل الحكيم المجاهد بورقعة، عرف الإبراهيمي كيف يصغي باهتمام للنقاش الذي دار بين ضيوفه حول واقع الكتاب والنشر والقراءة على خلفية الصراعات والرهانات الأيديولوجية واللغوية التي عاشها وتورط فيها على طريقته بالشكل الذي جلب له إعجاب الكثيرين من المثقفين العروبيين وعداء الكثيرين من اليساريين العلمانيين. مهما كبرت الاختلافات بين رجلين دخلا تاريخ الثورة والثقافة والنضال من بابه الواسع، سيذكر كل من زارهما أنه خرج بدرجة متقدمة من الثقافة والحكمة والتبصر والنظر الفكري الحذر بشكليه النخبوي الضيق والشعبي الواسع.

من رسومات الفنّان الجزائري عبد الحميد أمين، المعروف باسم "نيم" 

















عبق الأندلس بين بقطاش ونسيمة
عبد العزيز رحابي، وزير الإعلام السابق، الذي دفع ثمن خلافه مع الرئيس بوتفليقة، شخصية أخرى تركت بصمتها في حراك الجزائر بطريقة قبل بها البعض ورفضها البعض الآخر، والجلوس إليه محاطا بلوحات فنية أصيلة حقيقة تعكس رهافة حس أدبي وحضاري رفيع.
أما مرزاق بقطاش روائي ذاكرة البحر والصامت المتصوف والمتيم بالفنون والموسيقى، فقد قام بحراكه بشكل بديع في رواية "نهاوند" التي أضحت تحفة روائية صالحة لكل زمان ومكان على خلفية المصير المأساوي الذي آلت إليه أندلس حضارة النفس والنفيس. ونسيمة ابنة مدينة الورود البليدة الأندلسية كرمت بقطاش وكل عشاق الفن الأندلسي في برنامج "جمهورية الفنون" الإذاعي وأسعدتني بحراك وجداني وأنا وراء مقود سيارتي أتمتع بصوتها الشجي الذي يطرب الآذان.
أخيرا وليس آخرا، وخلافا لما يعتقد الكثيرون فإن ساحة البريد المركزي ليست هي الساحة التي أصبحت مرتبطة في أذهان عامة وخاصة الناس بالحراك السياسي الذي يهزها كل يوم جمعة لأنها أيضا ساحة باعة الكتب القديمة التي قرأها جيل عاصر كبار الرواية الفرنسية وعلى رأسهم كامو الذي ما زال يتجول بروحه الإبداعية في جزائر أحبها حتى الموت في حلة فرنسية ما زال الكثير من مثقفينا يعملون على تسويقها من تحت الطاولة وفوقها.     

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.