}

عن "الانتصارات" في سورية

هيفاء بيطار هيفاء بيطار 2 فبراير 2020
آراء عن "الانتصارات" في سورية
لوحة للفنان البرتغالي فاسكو جرجالو
تنص المادة 42 من الدستور السوري على ما يلي: لكل مواطن الحق في أن يُعرب عن رأيه بحرية وعلنية بالقول أو الكتابة، أو بوسائل التعبير كافة. كل السوريين يدركون أن هذا الكلام حبر على ورق، فيمكن لأي سوري أن يستشهد بمئات الآلاف من الحالات التي شُحط فيها إلى أجهزة الأمن بسبب عبارة كتبها على الفيسبوك، أو بسبب كلام طلع بلحظة غفلة من رقيبه الداخلي منه وكتب أحدهم تقريراً به. أنا منعت من السفر ثلاث مرات بسبب مقالات واستدعيت إلى أجهزة الأمن مراراً بسبب مقالات. ولا أشعر - ككل مواطن سوري- بالأمان على الإطلاق، ورغم مرور تسع سنوات على الثورة السورية (ومجرد نطق كلمة ثورة هو تهمة خطيرة)، فإن الخوف لا يزال يلجم الكثير من السوريين عن الكلام، أو الشكوى أو حتى وضع لايك على كتابة واقعية وبالكاد يُمكن وصفها بالجريئة.

كم هو محزن أن يستوقفني الكثيرون في طرقات وأزقة اللاذقية ويقولون لي: نحب ما تكتبينه على الفيسبوك ونحب مقالاتك لكن لا نجرؤ أن نضع لك لايك!!! يُمكنني أن أعذر الناس البسطاء على خوفهم، فهم يلهثون وراء رغيف الخبز من أجل أولادهم، أما من يدعون الثقافة أي طبقة المثقفين والكتاب (شعراء وكتاب قصة ورواية ومقالات) فلا يمكن أن نبرر لهم ألا يكون لهم موقف واضح مما يجري في وطنهم، ولا أقصد هنا أن يتحدثوا عن استبداد النظام فقط بل أن يفضحوا أيضاً المعارضة الفاشلة المرتهنة لدول عديدة.
بكل بساطة وبدون ذرة خجل تصرح إحدى الكاتبات بأنها لا تتخذ موقفاً مما يجري في سورية وهي سورية أصلاً وتقول بأن الصورة غير واضحة بين أطراف النزاع! وتكتفي بالكتابة عن فلاسفة وفنانين وعن القهوة والوردة وعن الحساد والغيورين منها!!! كتابة كالتطريز، عبارات جميلة شاعرية مبطنة بالتمجيد والإعجاب بالأنا. هي تضمن أنها بموقفها المُخزي هذا لن تُستدعى إلى أجهزة الأمن ولن تُمنع من السفر ولن تعتقل.
يقول ألبير كامو: الكتابة شرف، عبارة بليغة تعني أن من قلة الأخلاق والناموس ألا يجهر الكاتب بالحقيقة، أن يستعمل أسلوباً مُوارباً ضبابياً بأفكار مشوشة لا معنى واضحا لها وأن تكون كتابته من نوع: ضربة على الحافر، ضربة على النافر. تحولت لقاءات معظم المثقفين في سورية إلى نوع من التهريج وسرد النكات الممجوجة، والحذر كل الحذر، والحيطة كل الحيطة من أي كتابة أو عبارة أو وضع لايك يُمكن أن يثير غضب أجهزة الأمن عليهم فتستدعيهم (كما حصل مع أستاذ الرياضيات الخلوق المهذب عالي الضمير إذ اعتقلته أجهزة الأمن أكثر من ثلاثة أشهر بسبب كتاباته الصادقة الجريئة في نقد النظام والفساد في أجهزة الدولة).

كتبت مؤخرا عن موعظة لفخامة البطريرك الراعي الذي قال بتاريخ 17 -1- 2020 في الكنيسة: أقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم!! وتابع بأن كل من يترك لبنان إلى بلد آخر هو خائن!!! يا سبحان الله يا فخامة البطريرك ألا ترى الظلم والقهر والجوع لشعبك اللبناني!!! هل يُمكن أن تترجم عبارتك التي قالها المسيح: أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم سوى كأنك تقول لشعب لبنان المروع من الظلم والقهر أحبوا ناهبي أموالكم والفاسدين (كلن يعني كلن)!!! ألم تجد أنسب من هذه العبارة في الإنجيل لتقولها في ثورة الجوع والكرامة لشعب لبنان!!! لماذا لم تختر موقف المسيح من الفريسيين عندما رفع السوط عليهم في الهيكل لأنهم فاسدون، المسيح الحقيقي هو المسيح الثائر، هو المسيح الذي يقف بجانب المتظاهرين في عز الزمهرير والليل في كل لبنان، وهو الذي يرفع السوط في وجه الفاسدين الفريسيين الذين يطبقون الشريعة لكن ليس في قلبهم ذرة حب أو رحمة للفقراء، كالطبقة الفاسدة في لبنان. حين كتبت بكل تهذيب على صفحتي في الفيس عن موعظة البطريرك الراعي وسألته باحترام كيف يقول عن شباب لبنان الذين لا يجدون عملاً ولا يحسون بكرامة بأنهم خونة لأنهم يهاجرون إلى بلاد الله الواسعة من أجل الحصول على عمل!! جاءتني توبيخات فظيعة ليس من الطوائف المسيحية فقط بل من كل الطوائف، يعني ببساطة وجرأة من كل الشبيحة، وأحدهم الذي كتب ذات يوم بأن أكبر خطأ ارتكبه كريستوفر كولومبوس أنه اكتشف أميركا لامني على كتابتي وبأنني أمس شخصية عظيمة كالبطريرك الراعي.

الخوف من الأعظم، هذا حال السوريين بشكل عام!!! وأنا لا أتخيل أن هناك أعظم بلاء وكارثة مما نحن فيه! لكن مع ذلك يقولون "لسه الأعظم قادم، ويا خوفنا من الأعظم". وحدها السويداء امتلكت الجرأة للتظاهر ضد الغلاء الفاحش رافعة الشعار رغيف الخبز. لم يجرؤ معظم كتاب الداخل السوري خاصة أن يحكي عن السويداء، الخوف هو عدو الحياة، حتى عندما أضع صوراً لأسعار بعض السلع والمأكولات يخاف الكثيرون أن يضعوا إشارة لايك!!! مع أنهم يعانون من هذا الغلاء الفاحش والعاهر. لكن كل شيء في سورية انتصارات، فرغم الانهيار الفظيع لليرة السورية ووصول الدولار إلى 1200 ليرة، يصرح الإعلام السوري بأن الاقتصاد السوري في 2020 أفضل بخمسين مرة مما كان عام 2011 حين كان الدولار لا يزال بخمسين ليرة!!! وقلة تعد على أصابع اليد الواحدة من المثقفين والمحامين والخائفين على مناصبهم وملايينهم وأملاكهم يستنكرون ويبلغ حذرهم ألا يضعوا حتى (لايك) على من ينتقد إعلام النظام. حتى أن الكثيرين يسألونني: "يعني مش خايفة من كتاباتك؟"، وأرد: "والله خايفة فأنا أشعر أنني كحفنة رمل في قبضة النظام"، ولا أنسى قول أحد أهم ضباط الأمن في سورية في التسعينيات (ويومها التقيته بالصدفة) متباهياً وهو يُشير إلى بناية عملاقة (أكثر من عشرين طابقاً وفي كل طابق عدة شقق) بأنه يملك الصلاحية لأن يشحط كل سكان البناية العملاقة إلى فرع المخابرات أو التحقيق المسؤول عنه ويحجزهم ستة أشهر على ذمة التحقيق بتهم خُلبية، مثل إضعاف الشعور القومي!!! ولا أفهم كيف يمكن لشخص واحد أن يضعف الشعور القومي لـ 23 مليون سوري (عدد سكان سورية قبل نزوح ثلث سكانها).

لا يزال السوري يشعر أن حياته وحياة أولاده ومستقبلهم في قبضة الأمن فيلتزم الصمت والصبر خائفاً من القادم الأعظم. المخزي أن العديد من المثقفين جبناء وغير مستعدين أن يخسروا شيئاً وأن يحموا أنفسهم من استدعاء أجهزة الأمن لهم، هم يعتقدون أنهم يخدعون الناس بمواقفهم الجبانة المواربة الضبابية، وكتابة مقالات متنوعة في النقد ومدارس النقد ذات الأسماء الطنانة لكن لا معنى لها، أو يكتبوا أشعاراً في مواضيع مختلفة بحرص شديد ألا يقتربوا من وجع الناس وظروفهم المعيشية المروعة. أشعر بحزن عميق وخيبة أمل حين أجد أن اليأس تملك من قلوب معظم السوريين وأنهم صاروا أكثر ذعراً من أجهزة الأمن لأن القادم أعظم.. ولأن الإعلام السوري يحتفي بكوكبة من الشهداء في جنازات جماعية لمئات شباب سورية وتزغرد أمهاتهم فرحاً وفخراً أن أولادهن ماتوا في سبيل الوطن وبأن تلك الجنازات الجماعية لكوكبة شبان سورية هي انتصارات. بينما يعيش الشعب السوري محروماً من الكهرباء والغاز والمازوت. ومع ذلك كل شيء في سورية انتصار، حتى شروق الشمس.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.