}

مصر ومعرضها وحزنها المقيم

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 10 فبراير 2020
آراء مصر ومعرضها وحزنها المقيم
جانب من ندوة "سمات أدب المهجر بعد العولمة"
أتيح لي أن أكون في مصر أيام إقامة الدورة 51 من معرض الكتاب فيها، حيث انحصرت أيام وجودي هناك في الأيام الأخيرة من المعرض، موقعاً روايتي الثانية "نهاوند" الصادرة عن دار نشر مصرية، ومشاركاً في ندوة حملت عنوان "سمات أدب المهجر بعد العولمة" نظمتها لعدد من كتابها، دار النشر التي أصدرت روايتي.

ولعل جملة من الملاحظات، اتفقت في بعضها مع كثير من الأصدقاء العرب الذين كانوا هناك أيام المعرض، ولا يخلو الأمر من كتّاب مصريين يتفقون حول بعض التفاصيل المتعلقة بالمعرض بعد نقل موقعه من مدينة نصر إلى التجمع الخامس (القاهرة الجديدة) الذي يبعد عن القاهرة عشرات الكيلومترات، ويفتقد للروح، ويحتاج الوصول إليه إلى مواصلات صعبة ومكلفة جداً، علماً أن بعض المعنيين أخبروني أن ثمة حافلات تنقل الناس مجاناً، ولكن معظم الناس لا يعرفون أين موقع انطلاق هذه الحافلات التي أشك في وجودها.
تستعيض إدارة المعرض والقوات المسلحة (للقوات المسلحة المصرية دور في إدارة المعرض ومتابعة شؤون صالاته، علماً أنها من شيّد هذا الصرح الضخم المهول الشاسع الممتد، المجاور لبعض المواقع الحساسة والقصور ومسجد المشير الطنطاوي وما إلى ذلك)، أقول تستعيض هذه وتلك، في حالة عزوف كتّاب وشعراء ومعنيين عن زيارة المعرض، بإحضار وفود مدرسية وجامعية، وتسيير من يملكون دالة عليهم ليملأوا الساحات والصالات ومرافق المعرض من مطاعم وزوايا غناء وما إلى ذلك، بمجاميع معظمها شابة، قلة منهم يشترون، وأكثر من باع على وجه العموم، أجنحة الكتب الدينية (السلفية على وجه الخصوص).
ميدان التحرير يخضع لورشة معظم ساعات النهار وبعض ساعات الليل، يقال إن خلاصتها ستتمخض عن مسلة لرمسيس الثاني!

الورشة والميدان وما حولهما وصولاً إلى طلعت حرب وباب اللوق، وربما أبعد من ذلك كثيراً أو قليلاً، تخضع جميعها بدورها، لحراسة مشددة، بعضها ظاهر للعيان، وبعضها متوارٍ خلف الأعين جميعها.
الانطباع العام، ولعله الأهم، أن معرض الكتاب في القاهرة هو للمصريين، وللمصريين فقط، ما عدا ذلك يخضع الأمر (لاحظوا تكرار مفردة الخضوع)، لمصالح بعض أصحاب دور النشر المصرية، ولحسابات (أدعوني أستجب لك وأدعوك بدوري إلى مصر)، ولمقتضيات أخرى، قد تكون الثقافة والمعرفة في ذيل أولوياتها.
بعيداً عن أجواء المعرض، فلست بصدد إجراء تغطية حوله، وقد قام زملاء لي هنا بهذه المهمة على أحسن وجه، فإن مظاهر العدم زادت بشكل مُقلقٍ في مصر؛ العدم من العدمية، والعدم من قلّة ذات اليد وشح الزيت في القنديل، والعدم من استفحال التسطيح، وانكفاء العمق، وتراجع الجدل، وغياب النباهة.
الأمر لا يعدم إضاءة هنا، وبارقة هناك، ولكنها الاستثناءات التي تعزز الأمر وتؤكد عليه.
النوم على الأرصفة يكاد يتحول إلى ظاهرة، التسوّل في مناطق نشاطه مثل الأزهر والحسين والسيدة زينب وخان الخليلي وصولاً إلى العتبة وحتى داخل مترو الأنفاق، وصل حدوداً مؤسفة جداً، غير مقبولة بأي شكل من الأشكال، لا تمضي دقيقة إلا ويمرّ عليك بائع أو بائعة، وما هي إلا برهة ليتبيّن أن الأمر ليس بيعاً ولا ما يحزنون: إنه تسوّل يا سادة، يدمي الروح، ويعدم أي فرصة للاستمتاع بجلسة مقهى الفيشاوي، أو التبتّل داخل حضرة مقام الحسين.
لفت انتباهي بشكل مفرحٍ أن القطط والكلاب وحتى العِرَس (نوع من الفئران كبير الحجم) ولوفة (أليفة) في مصر جداً، لا تخشى المارّة في الشوارع، ولا تصدر حين مرورهم قربها مواء أو نباحاً أو صريراً، وهي تشاركهم يومياتهم.
على كل حال، من وحي زيارتي إلى مصر (القاهرة والجيزة وسقارى والاسكندرية)، كتبتُ منشوراً على صفحتي على موقع فيسبوك، وأود أن أشارككم إياه:

"منشورٌ ليليٌّ

ليلاً، لأعطي نفسي فرصة العدول عنه وشطبه قبل أن يطلع عليه صباح محبتكم وصعود تفاعلكم نحو حروفه. ليلاً، حيث قلبي وحده هنا، وصفاء ذهني، وتواصل تفكيري في المنشور، حتى لحظة إفراغه فوق الحائط الأزرق. ليلاً، لأن عشاق الليل لا ينامون، ولأن (الأوضة المنسية) تتعربش السلّم الأخير في مقامات الزهو وأسطح المعرفة. ليلاً، وحدي أمام (لابتوبي) القديم، أكتب عن مصر التي في البال، عن ميدان التحرير وطلعت حرب وباب اللوق وميرامار وعمارة يعقوبيان و(جريون) و(البستان) و(الحرية). عن حادثٍ عابرٍ على طريق الحياة. عن أصدقاء جدد يشع من بينهم، على سبيل المثال، الروائي الليبي محمد الأصفر. عن أحبة لم تكتب لي رؤيتهم. عن تعزيزٍ عميقٍ لفكرة تتلبّسني منذ ألف عام: أن المعضلة ليست في الشعوب العربية، بل في أنظمتها، وطغاتها المنسلّين في ليل الغفلة الدامية. عن "نهاوند" وقد جرت هناك في معرض القاهرة على ألسنة الناس وزاد عدد أصابع العزف فيها. أكتب عن صفاء ومنى ومحمد والكاتبة والإعلامية د. سهير المصادفة، والضيافة المصرية الطالعة من عبق الحكايات النبيلة، عن أسرة صديقي الغالي خلدون الحياري الكرام. عن أبو توفيق يصلني قبل أن يكبر الشرخ بيني وبين المحروسة. عن ميلاد يجالس ندماء (الحرية) فيصير جعبة أخرى في مجد (ستيلا). عن محمد عثمان يمد يده بالسلام على بحر اسكندرية، ويدّلني على لون عيون سيد درويش. عن هرمٍ مسكوب في سقارى من حجارة الزمان البعيد، تمتد الطريق إليه بواحات النخل والزهو البديع. عن جاردن سيتي ما تزال محتفظة ببعض مجدها الآفل. عن نيلٍ لا يشبه صديقي الذي صاحبته كثيراً وأقمت حواراً مجدياً بيني وبينه من عام 1999 وحتى عام 2008. أكتب عمّن خان الخليلي وألقى بعض تراب الكآبة فوق خدود (الفيشاوي)، وسوّر (العتبة) بأوجاع النائمين على الأرصفة، وحنّط الشعب بدل أن يحنّط الفراعنة. أأكتب يا ليل عن أدب المهجر بعد العولمة، أم أكتفي بصرخة كبرى ضد النفاق والركاكة في حفلات توقيع (مروّعة) ينبري المدعوون وغير المدعوين فيها للحديث عن روعة (الست) وعظمة (الست) وفخامة (الست) التي تريد أن تدخل (عنوة) رحاب (العالمية) منذ خرابيشها الأولى، وربما هي (خرابيش) صديقها الكريم في مناسبة لا كرام فيها؟

ليلاً، حيث الليل في مصر لا يشبه غيره، أكتب عن كنانة الروح، وعن جموع تركض نحو مترو الأنفاق، وعن ثقافة تسوّل تحزن القلوب، وعن غضب دفين، وترقّب حذر، وتيه يملأ الطرقات، وعن التجمع الخامس حيث لا يزور المعرض إلا المضطر أو المغصوب أو المشارك في رحلة جماعية لمدرسة/ جامعة حكومية، أو الباحث عن مكان ممكن تحت شمسٍ مواربة.
طويلاً كان الغياب عنك يا ربيبة المعز، طويلاً ومتعباً وحائراً وغير منضبط العناوين، ولكن السؤال الذي يكاد يفجّر رأسي: هل كان عليّ أن أصبر أكثر بعد كل هذا الصيام عن مصر التي في خاطري؟؟؟".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.