}

الثقافة والموجة الثانية من الثورات العربية.. حالات انتقالية

نزار السهلي نزار السهلي 4 يناير 2020
آراء الثقافة والموجة الثانية من الثورات العربية.. حالات انتقالية
"المثقف بانتمائه لطبقة المجتمع الثائر يفتح الأفق لتحرر مجتمع"(Getty)
تعتبر الموجة الثانية من الثورات العربية أكثر تأثيراً على مواقف المثقفين والنخب السياسية في العالم العربي، مواقف كانت في الموجة الأولى للثورات بمثابة قاض نصب نفسه على سواه، يبارك ويثني على ثورة هناك، وينكر وينفي ثورات هنا، ويخلع عنها ألقابها المأخوذة من جدلية أنتجت مفاهيم أدبيات الثقافة والمثقفين، مواقف ظالمة في بعض الأحيان، وخائنة عند احتضانها لمفردات السلطة الحاكمة، بحيث ظهرت مواقف بعض النخب الثقافية والسياسية في الموجة الثانية شكلانية عالية.

الحيرة والتساؤل

في البداية شرع العديد من المثقفين والنخب بالانسحاب نحو ربواتهم لرصد حركة مجتمعاتهم التي ظهرت عليها أعراض الثورة، فالعقد الماضي حفل بسلسلة من الأحداث والانهيارات هزت المشهد الثقافي كله، وقلبت وجه الاستراتيجيات الأدبية، من الثناء والمديح للثورتين المصرية والتونسية، ثم الانقلاب عليهما حين حطت الثورة رحالها في سورية، والمشهد الثقافي وجد نفسه في زوبعة الثورات، مناهضاً كلياً لها وممتعضاً من عقلية الشارع، الذي تسلح من أولئك الذين قذفوه بأعتى الشعارات والأدبيات، التي مارست الاستعلاء والفرز والتخلي عن الجماهير.
نعيش اليوم حالات انتقالية، أكثر من تغييرات حقيقية على صعيد الثقافة والكتابة، ومن خلال العودة الكابوسية لطقوس الماضي، مع اجترار المتاريس بعضها فوق بعض، لتجديد حيوية حركة بعض المثقفين المناهضين "للاحتلال وللعولمة وللإمبريالية والتطبيع"، وللرجعية العربية في أروقة منابر إعلام الأسد والسيسي، وذلك ما تقره حركة كتابات تتخذ من منابر "إعلامية" مطيتها في التنكر والتلون.


الحديث عن ثورة الشعب السوري وتضحياته الكبرى باعتبارها "أزمة"، وعن انقلاب السيسي وحالة القمع في مصر كـ"أزمة" وحالة تدافع سياسي، والثورة في العراق ولبنان كتدبير خارجي، أما فلسطين فكل ما يدور حولها من ثورات مؤامرة مدبرة.. مواقف عديدة صدرت من نخب ثقافية وسياسية في دمشق وعمان والقاهرة وبيروت وعمان وتونس ورام الله، أفضت في أحيان كثيرة، إلى انتهازية مشفوعة بدوغمائية سافرة، لا تحترم حرية الفرد والتعبير والتنظيم والتفكير المغاير.


لوبيات الثقافة المساندة للطغاة
قد يكون المثقف حزبياً يُبخر للسلطة القمعية، أو ماركسياً معاديا للثورة، وقد يكون غير ذلك، ولا علاقة له بكل الأيديولوجيا، لكنه في أفعاله وممارساته مدافع عن الثورة، ومنخرط فيها بامتياز سبق ادعاءات الثقافة عند ترجمتها على أرض الواقع.


ويعطي مسار المثقفين في الثورات العربية، بعد عقد على انطلاقتها،  درساً عن الفرق بين المثقف داخل صومعة إنتاجه، وبين الثوري الذي وجد في الثورة أداة فاعلة للتغيير، لكن الدهشة ومن ثم الامتعاض والاستعلاء، وأخيرا الاصطفاف الذي مارسته لوبيات الثقافة المساندة للطغاة والعسكر، بعثرت الأشياء بعثرة  لم تكن بالحسبان، فالثورات أصابتهم  بإغماء في البداية وبحالة دهشة ورعب مشحونة بتساؤلات شملت حتى تلك الأحلام والأمنيات التي طالما نادوا بها من قبل وناضلوا من أجلها، من أجل الاقتراب من مجتمعات لا استغلال فيها ولا اضطهاد، ولسعي دؤوب نحو حرية ومواطنة، وبناء عدالة اجتماعية  واقتصادية وسياسية.
تآكل في الفهم يليه تكلس وعزل عن كل الأبعاد الإنسانية والأخلاقية، هي مصائر المواقف والممارسات المتبلورة في عقد الثورات المنصرم، ولا شيء يمحو هذه البشاعة التي اكتسبها اللوبي القومجي والثورجي من نقلته الكبرى والنوعية في إرضاء الطاغية والسفاح وقطع حباله مع الشارع بشكل مطلق، وتنجح اللوبيات الداعمة للسفاح في اجترار عمل لوبيات كانت تشتكي يوما ما من سلوكها وممارستها في تبني دعاية الاحتلال، وحشد الطاقات لنصرته، لتجد اليوم أفضل الأساليب في نسخ الوظيفة التي تؤديها اليوم حماية الطاغية وتأمينه بكثرة المتاريس من الشعارات والأعلام، متناسية أن حركة الشعوب تفرض قوانين فعلها وتطورها على الأرض.


طعنات المثقف الخنجرية
مفهوم الثورة، الذي صاغه المثقفون على صورة مصالحهم  في الموجة الأولى من الثورات، كان كارثياً، وشكل طعنات خنجرية للإنسان المضطهد في وطنه، واللاجئ منه، وأخذ المثقف مع نخب سياسية وثورية محسوبة على حركات تحرر وطني، مسافات متصاعدة عن مجتمعاتهم وعن الشوارع العربية، وبدأ خلط بين المصطلحات الشائعة عن العمالة والامبريالية والخيانة والإرهاب، مع بدء تحرك الثورات ضد أنظمة وسلطات تقوم على القمع والقتل المنظم لشعوبها، تناسى معها وفيها المثقف معنى الثورة، من حيث هي سيرورة تعيد الاعتبار لصياغة معنى الإنسان وحقه بالحياة الحرة والكريمة، ومن حيث هي ممارسة تضمن عدم كهولة المجتمعات.


المعرفة المتخلفة
وإذا كان المثقف هو الذي يوحد بين المعرفة النظرية العميقة، وقراءة الواقع اليومي المتجدد، فإن ما حدث أثناء الثورات في موجتيها الأولى والثانية بدد الى حد بعيد هذه الصورة عن المثقف الحقيقي، والمفارقة الحزينة هنا أن المعرفة الحية لم تعد تستند لمقولات النخب السياسية التي بدت متخلفة جداً عن الوقائع اليومية في البدايات الأولى لثورات العالم العربي، لتصبح بيانات السلطات الحاكمة وحلول أبواقها الإعلامية محل التنظيرات الفلسفية والحزبية الثورية، مرجعاً كلياً لمواقف المثقفين المتحالف بعضهم مع الماكينة الحزبية للنظام العربي وأجهزته الأمنية،  لتحديد معنى المعرفة والحياة والفلسفة من مرجعيات أمنية.


وغدا كل مثقف ونخبوي سياسي ناطقا رسميا، يدافع عن أنظمة تمارس جرائم حرب وقمع أوصلت صورة المثقف الى حدود الكاريكاتور، ولذلك يمكن القول إن المثقف بانتمائه لطبقة المجتمع الثائر أو المضطهد فقط هو الذي يفتح الأفق لتحرر مجتمع كامل، ويتبدى واضحاً معنى ممارسة الثقافة والأخلاق بشكلها المختلف عن التنظير والحيرة والارتباك من شوارع هزت شرانق المثقفين وصوامعهم.
إن قراءة مسار المثقف، من حيرة موقفه من الثورات، إلى دعوته ضحايا الطاغية والمستبد للتطبيع مع قاهر أحلامهم وأمانيهم، ليست بحاجة الى لحظة معرفية غايتها الوضوح الموضوعي فقط لدور المثقف، فالثقافة ليست رومانسية أخلاقية، ولا تذاك تنظيري، بل كشف متعاقب على العقل والأخلاق والضمير، من غير الامتثال لهما تسقط التسمية المتصلة بالثقافة وتأخذ مسميات جديدة تشكلت مع بداية الثورات. ولا شيء يمنع العقل والفكر من الحرية والحركة المستمرة ومن التساؤل المشروع: ماذا يفيد الشعر والرواية والمسرح والفن بكل أنواعه؟ وماذا يفيد نخب حركات تحرر والأيديولوجيا إذا اجتمعت كلها مع إنتاجها الأدبي لتردد هلوسات وتلعثم حاكم مجرم؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.