}

عن الصورة بين الرواية والسينما

إلياس فركوح 22 يناير 2020
آراء عن الصورة بين الرواية والسينما
مقعد من التماثيل للشخصيات التي صورها فيلم "العملية ص"(Getty)

 

 

إذا صادقنا على أنَّ القصيدةَ تولدُ من مجموعة كلمات، ذاتَ جَرْسٍ وتنغيمٍ وإيقاعٍ تُلِحُّ على الشاعر، وتترددُ كالصدى في رأسه تلازمه ولا تبارحه حتّى يأتي دورُه، فيستكملها على هيئة صُوَرٍ ومعانٍ ومفارقات، فتُخْلَقُ بعدها "كياناً متكاملاً" بدأت نُطفتُه إيقاعاً منطوقاً غامضاً وانتهَت بياناً مكتوباً جلياً؛ إذا صادقنا على هذا (وإني مَيّالٌ للمصادقة، إذ هذه واحدةٌ من "حالات" ولادة القصائد.. وليست كلّها بالتأكيد)؛ فإني أزعمُ أنَّ عديدةً هي النصوص السرديّة الروائية، والقصصيّة أيضاً، كانت ولادتها قد تأتت عن "صورةٍ ما" لازَمَت الكاتبَ مدّة طويلة، تتراءى له بين حين وآخر، وفي كلِّ مرّةٍ "يراها" في عين خياله، يجدها تتسع وتتعمق وتؤكدُ حضورها وتتغيَّر وتتحرك، وكأنها تستدعيه ليبدأ بمحاولة "تفسيرٍ وشَرْح" لها بواسطة الكلمات! أي: أن يغوصَ في أعماقها مستكشفاً ما تكتنزه من حكايات، وشخصيات، وأماكنَ، وروائح، وأصوات، وصدامات مع عوالم مفتَرَضَة! أي: العمل على "استنطاقها"!

إذَاً، والحالةُ هذه؛ لا رواية تولدُ وتنمو وتتنامى وتتسع وتتعمّق من غير "صورةٍ ما" تكون هي البداية؛ لا رواية من غير تتابعٍ لشريطٍ من الصور المنداحة وراء بعضها بعضاً على نحوٍ استدعائيّ، تمَّ تشكيلها وفقاً لمخيلة الكاتب وما تحفظهُ ذاكرته في "أرشيفها" المستند إلى الحياة وتجاربه معها.. وفيها! ولكن، هل بمقدور كاتبٍ ما إنكارَ أنَّ أطباقاً متراصّة من صور أرشيفه المكتظ بالصور إنما هي ذات مرجعيّة سينمائيّة كان قد التقطتها ذاكرته، لأنها "حَفَرَت" لنفسها موقعاً داخل "محفوظاته"، في تاريخٍ شخصيّ يخصّه هو لا سِواه، وشرعَت بِحَقْنِ تكوينها المرئيّ في نسيج نصوصه المكتوبة؟ من جِهتي، لا أعتقد أنّ أيّاً من الكتّاب لم تكن السينما تشكّلُ جزءاً، وجزءاً حميماً وباقياً وجميلاً ومتصفاً بالشَّجَن والنوستالجيا الدافئة، من تاريخه الخاصّ. وعطفاً على ذلك، لا أعتقد أنَّ كاتباً خَلَت روايةٌ من رواياته من "تمشيحاتٍ" بَصَريَّة كانت السينما، بأفلامها الملوّنة والأخرى بالأبيض والأسود، هي واحدةٌ من مناهله الأساسية، ومَساقيه الرادفة لـ"مياه" نصوصه. وإني، عندما أقول "تمشيحات"، إنما أعني "تداعيات واستكمالات وتعديلات" تلك الصور وقد تراكبَت على نحوٍ جديد ما كانت هي في أصلها الأوّل؛ إذ عملَ خيال الكاتب الإبداعي على ابتداعِ "نُسَخٍ" متغايرة، نُسَخٍ ليست جديدة بمعنى تجديد القديم وتظهيره؛ بل أخرى مختلفة استفادت من الأصل بوصفه باعثاً ومستفزاً ومحركاً، لكنها "رسمت" لنفسها عالمَها الخاصّ، وبَنَت لسياقها الروائي معناه المتسق مع سيرورة الرواية كبناءٍ كُلّي.

الرواية، في هذه الحالة، لا "تقتبس" الصورةَ من السينما وتنسخها، بقدر ما تقوم بتوظيفها بعد إعادة تشكيلها – حَذْفاً وإضافةً، وتلوينها، وموضعتها في زمانٍ ومكانٍ مختلفين تماماً. وضمن حكايات تتحرك داخل مجتمعين متباعدين. وشخصيات بأسماء وملامح أخرى لا تمتّ بأي صِلة بـ"أصحاب" الصورة السينمائية الأولى. وإذا كان للسينما من فَضْل وتأثير؛ فإنهما في "تثقيف" الرواية و"تأثيثها" عبر تزويدها بمرجعيات بَصَريّة في غاية الثراء. مرجعيات غالباً ما تشكِّلُ البؤرةَ الأولى في "عين الخيال" لدى الكاتب، وبعدها يأتي دورُ كُلٍّ من الوعي الفني، والتجربة الحياتية والكتابية، في "إعادة تخليقها" لتمتد على نحوٍ بانوراميّ لا يستقيمُ مُقْنِعاً بمعزلٍ عن كتابةٍ أدبيّة جَماليّة حاذقة: بمعزلٍ عن لُغةٍ يدركُ صاحبُها الاصطفافَ السليم والمناسب للكلمات المُنتقاة البانية لكلِّ جُملةٍ من جُمَل الفقرات المتتابعة، ثم السطور والصفحات المتوالية.
إنها الصورةُ، إذَاً، أولى الصِّلات في علاقة السرد الروائي والقصصي مع السينما.
ومع إقراري بهذه الصلة اللاحمة لهما، إلّا أني أجتهدُ قائلاً: تتحلّى الروايةُ في مسألة الصورة – أكانت ثابتة أو متحركة – بخاصّية الإفلات من التأطير، وبالتالي من الثبات على صعيد المرئيات: المرئيات المحسوسة الممسوكة بالإبصار المباشر. ففي اللحظة التي تُغْلَق الكاميرا منتهيةً من تصوير المشهد في الفيلم السينمائي، تكون، في الحقيقة والواقع، قد أطّرَته داخلَ كادرها على نحوٍ لن يتغيَّر أبداً. ومهما تعددت مشاهدتنا للفيلم، فإنَّ المشهد يبقى كما هو، كما في كلّ مرّة، من دون أيّ تحريفٍ له نُجريه نحن كمشاهدين. لقد "حُبِسْنا" داخل عدسة الكاميرا التي انصاعَت لـ"رؤية" مَن قام بتوجيهها: المخرج، أو مدير التصوير، أو آخرون سواهما.
على النقيض من ذلك، تعمل الروايةُ على "رسم" المشهد و"وصفه" من خلال أبجديات اللغة. واللغةُ في الأدب تستثمر خاصيّة الاستعارة، والمَجاز، والتشبيه، والكِناية، والإحالة، إلخ. وذلك كلّه يشكّل "أدوات" فعّالة في تحريك النصّ وتحفيز خيال القارئ، وإتاحة المجال له لأنْ يشتركَ هو أيضاً ببناء المشهد، وفقاً لمخيلته. وإني عندما أشير إلى "القارئ" إنما أعني كلَّ قارئٍ على حِدَة، ما يستتبع، على صعيد منطق التوالي، مجموعة كبيرة من القُرّاء "يرسمون" المشهدَ الواحدَ بعددهم. هكذا يتكثَّر المشهد فتتعدد تأثيراتُه، وزوايا النظر إليه، والإحساس به، لا بل (وهذا أمرٌ مفصليّ في فهم النصّ الأدبي): .. وفي منح الحريّة لتعدد التأويلات أيضاً! فالمشهد الروائي يعتمد اللغةَ الكاتبة المكتوبة، واللغةُ في أصلها "تجريدٌ" للخارج المُجَسَّم نستخدمها للتعبير عمّا هو ليس من مادتها. "نقولُ" بها أفكاراً، و"نُصوِّر" بكلماتها أماكنَ ووجوهاً ومرئيات، غير أنَّ البقيةَ من هذه العمليات تُترَك لقارئٍ ما ليستكملها بحسبه هو. كما تجدر الإشارة إلى أنَّ الكتابةَ في اللحظة التي تُكتب بها، تكون حاملةً لكثيرٍ من مشاعر ورؤى وأحاسيس كاتبها. وإنها لمسألة تنبّه لها غاستون باشلار؛ حيث سَجَّلَ في كتابه "جماليات المكان":
" إنّ الصورة تصبح وجوداً جديداً في لغتي، تعبّر عني بتحويلي أنا إلى ما تعبّر عنه. هنا يخلقُ التعبيرُ الوجودَ".
وزاد في إيضاحاته عن الخيال وقدراته:
"إنّ المكان الذي ينجذبُ نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكاناً لامبالياً، ذا أبعادٍ هندسيّة وحسب. فهو مكانٌ قد عاشَ فيه بَشَرٌ ليس بشكلٍ موضوعي فقط؛ بل بكل ما في الخيال من تحيُّز".
وهذا يؤدي بي إلى نتيجةٍ مفادها:
* المشهد السينمائيّ يَحبسُ خيالَ المُشاهد الرائي بحاسة البَصَر ويَحِدُّ منه، بتحديده داخل الإطار أو الكادر، ولن يتغيّر مهما تغيّرت أوقات مشاهدته أو تغيّرَ مشاهدوه! المشهدُ يُبْصَر!
* المشهد الروائي يُحرّر خيالَ القارئ الرائي بحيوية المخيلة وتخصيبها، اتساقاً مع حريته في "المعاينة" وإعادتها في كلّ قراءة جديدة لكلمات المشهد الواحد.. فما بالنا إذا كنا بصدد آلاف القرّاء! المشهدُ يُتَخَيَّل!
لقد تمَّ "تكييف" عددٍ من الروايات، لإنتاجها أفلاماً سينمائية نالت نجاحاً جماهيرياً في معظمها. لكنها، رغم محاولات الالتزام بها وعدم "خيانتها"؛ فإنَّ كثيراً من النقص، والتحريف، والابتسار، والتلخيص، والحذف، إلخ كان أن اعتورها (*). حدثَ هذا رغم الإمكانيات والمؤثرات المتوفرة لصناعة السينما وجمالياتها الإبهاريّة كـ: الألوان المتغيّرة بحسب التأثير المُراد إحداثه – إشعاعاً وإعتاماً وبلا ألوان أحياناً، والمشاهد المتحركة بحساب – تسريعاً وإبطاءً، والإضاءة المدروسة لخلق الظلال أو طمسها، والموسيقى المرافقة أو التمهيدية – صعوداً وهبوطاً، والتصوير الساحر وفقاً لزاوية اللقطات، إلخ. كانت الأفلام "ناجحة" بالمفهوم السينمائي التِّقني؛ إذ أُخْرِجَت وفق أحدث التجهيزات، وأشهر المخرجين، وكُتّاب سيناريو على وعي أدبي. وإذا نحن أجرينا استفتاءً عشوائياً يتمثّل سؤالُه في أيهما تُفَضِّل، الرواية أم الفيلم؟ فإنَّ جوابَ غالبية مَن قرأوا الرواية قبل مشاهدة الفيلم، أو بَعده (إنْ لم يكن جميعهم) هو: الرواية! أما السبب، فهو نفسه: الرواية أرْحَب، الروايةُ أعْمَق، الروايةُ أقْرَب وأكثر حميمية وتَماسّاً بنا!
هذا صحيح، إلّا أنَّ السببَ وراء هذه الأسباب جميعاً يكمن في أنَّ قارئاً واحداً فقط، في زمن قراءة واحدة، صنعَ هذا الفيلم، وسيظل يتكرر هكذا بلا نهاية دون أي تغيير على الإطلاق. إنه مخرج الفيلم، وإنها قراءته هو وفقاً لرؤيته واجتهاده. ولو خضعت هذه الرواية، أو سِواها، لقراءة سينمائية ثانية لمخرجٍ آخر.. لصرنا حيال فيلمين مختلفين قائمين على رواية واحدة ليست، في أعماقها، حاضرة في أيٍّ منهما.
ولعلّ كلمة "مخيلة شخصيّة حُرَّة" غير مشروطة بقراءة مملاة مسبقاً، هي كلمة السِّر بين قارئ الرواية في كتاب.. ومشاهدتها في فيلم سينمائي. قارئ الكتاب يخلق الصورةَ بحسب مكوناته الجمالية، والفكرية، ووعيه الأدبي، وطَلاقة مخيلته. أما مُشاهد الفيلم؛ فمُلْزَم بالصورة المعروضة / المفروضة عليه، ولا دور له في تكييفها!


مداخلة على السياق من داخله
نحن في زمن الصورة، كما يُقال، أو نحن نعيش "ثقافة الصورة"، وهذا صحيح. محاطون بالصوَر أينما تحركنا: في الفضاء العام الذي تحتله الإعلانات العملاقة عن شتّى الأغراض والسِّلَع، التي نحتاجها فعلاً والأخرى المكملة لنَمَط حياةٍ لا نعرفها! أو داخل منازلنا؛ إذ باتت شاشة التلفاز الكبيرة المتصدرة غرفة معيشتنا تُشعُّ وترتعش طوال النهار وأجزاء من الليل، باثّةً آلاف الصور عن كلّ شيء وأيّ شيء!

كما حُشِدَت أجهزة هواتفنا الذكية وغير الذكية بِطَفْحِ صور السيلفي والابتسامات المصطنعة، وملامح وجوه وهيئات جَمّلَتْها تقنية الفوتوشوب! وحين نخلو لأنفسنا بعد انقضاء يومنا كاملاً، وندعُ لِمْا مررنا به من أشياء أن يُستعاد، نجدُ أننا، في الحقيقة، كُنّا "الشيء" الذي مَرَّت به.. وعليه.. وفيه كلُّ تلك الصور. كُنّا الكائنات التي تعرَّضَت لضربٍ من "الغزو والاقتحامات" لاحتلالنا بدَفْقٍ مدروس وفوضوي من الصُّور لا ينقطع. أما إذا أردتُ قراءةً أبعد لهذه الحالة؛ فإني أرانا مجرد "موضوعات" خُطِفَت "الذاتُ" منها – أو هذا ما يُراد أن يكون، بينما تحوّلَت الأشياءُ / الصورُ والمرئياتُ إلى "ذواتٍ" تعايننا بدلاً من أن نعاينها. تُحْدِقُ بنا وتُطيلُ التحديق لاستفزازنا وإثارة انتباهنا! تطالبنا بإلحاحٍ بوصفها "ضرورة"، بدلاً من أن نطلبها كحاجة. باختصار: نصبحُ أهدافاً في مرمى الصورة الداعية لنا لأن نصدّق ونصادق على كُلٍّ من: العروض، والسِّلَع، والرموز، والأقوال، والشخصيات، والأخبار، والتحليلات السياسية، والأحكام القطعية.. لا لشيء إلّا لأننا (في ظَنِّ صُنّاع الصورة) قيد التحوّل إلى قطيع!

*   *   *

الصورةُ تُستعادُ صامتةً غالباً، رغمَ أنّ بعضاً منها لا يخلو من صوت أو أصوات. غير أنّ المخيلة قادرةٌ على رسم الأصوات أيضاً مع انتفاء الصورة!
كيف؟
كانت التمثيليات الإذاعية، إحدى وسائل الترفيه والتسلية في جميع الإذاعات العربية، قبل دخول التلفزيون حياةَ منازلنا. والتمثيلية في الواقع مسلسلٌ مسموع، مسلسلٌ نسمعه ولا نراه. ولأنه هكذا؛ صار أن تحررت مخيلتنا لتكون قادرةً على رسم ملامح شخصياته، من خلال أصوات مؤديها ومؤدياتها، كما على تخيُّل الشارع والنافذة والبيت من الداخل وأغراضه وحركة سُكّانه، إلخ! وإنَّ ما أشرتُ إليه عن الرواية في كتابٍ مقروء، ينطبق إلى حدٍّ كبير على التمثيلية الإذاعية في بثٍّ مسموع، وبذلك نستطيع فهمَ العبارة التي أطلقها د. ثروت عكاشة على كلّ أجزاء مشروعه الخاصّ بالفنون على مرّ العصور والثقافات، والقائلة: "العين تسمع، والأذن ترى!"

(12/1/2020)

 

(*) حين سُئلَت الروائية روث براور- جهابفالا، الحاصلة عام 1975 على جائزة بوكر عن روايتها "قيظ وغبار Heat and Dust"- والتي عملت على تكييف روايتي هنري جيمس: غرفة مع منظر، ونهاية هواردز للسينما، فحصدت عليهما جائزة الأوسكار، عام 1985 عن الأولى، و1992 عن الثانية، لأفضل فيلم تم تكييف أصله الأدبي للسينما -  إذا ما كانت توافق على تصريح المخرج الفرنسي جاك ريفيت Jacques Rivette بأنّ هنري جيمس واحد من الكتّاب غير القابلة أعمالهم لأن تتحوّل إلى أفلام، وبأنه "من الممكن فعل ذلك على نحوٍ تحريفي، وأن نأخذ بموضوعاتهم إنما ليس على نحوٍ أدبـي"، أجـابت: "نعم أوافقه. إنّ أي تكييف لا يتم إلّا على نحوٍ تحريفي. فبإمكانك تناول الموضوعة لكن ليس بإمكانك أبداً، أبداً أن تتناولها على نحوٍ أدبي. إنك إنْ حاولتَ تأويل وتفسير أي شيء على نحو أدبي فلن تخرج إلّا بضربٍ من صورة زائفة" (من كتاب "نساء وأكثر: السيرة تكشف، والحوار يقول"، حوارات مع كاتبات، ترجمة إلياس فركوح، دار أزمنة، 2008)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.