}

ذكرى رحيل صادق جلال العظم.. عقلانيات الفكر العربي

كمال عبد اللطيف كمال عبد اللطيف 2 يناير 2020
آراء ذكرى رحيل صادق جلال العظم.. عقلانيات الفكر العربي
صادق جلال العظم (1934-2016)
حَلَّت في شهر كانون الأول/ديسمبر 2019 الذكرى الثالثة لوفاة صاحب نقد الفكر الديني (1969)، المفكر العربي السوري صادق جلال العظم (1934-2016)، الذي تصدَّى طيلة حياته لمراجعة ونقد بعض أوليات الفكر الديني السائد في المجتمعات العربية، وذلك بالطريقة التي تصدَّى بها أيضاً لنقد الهزيمة العربية (1967)، حيث نقف في مصنفيه المذكورين، على طريقة في التفكير وسَمَت أغلب كتاباته الصادرة بعد ذلك. يتعلق الأمر بموقف جذري من بنية الثقافة العربية التقليدية المهيمنة، موقف يتَّسم بكثير من الجرأة والشجاعة وتؤسِّسه منهجية تحرص كما أشرنا، على مواجهة كثير من مظاهر وتجليات التقاليد المهيمنة على الفكر العربي المعاصر.

تُفْهَم نصوص وجهود العظم الفكرية، عندما نربطها بطبيعة الصراعات التي سادت المجال الثقافي العربي، خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والتي تتواصل اليوم متخذة مظاهر جديدة، تعكس جوانب من جدليات الصراع المتواصلة بين ثقافة الحداثة وبين التصورات السلفية المحافظة، وما يُدْرَج داخلها من توجُّهات سياسية وثقافية، لا علاقة لها بمكاسب العلم والتاريخ في عصرنا. نكتشف ذلك بين ثنايا نصوصه، حيث نتبين الملامح الكبرى لمشروعه الحداثي، المناهض لتيارات الفكر المحافظ ولأنظمة التسلط العربية، الأنظمة التي تسند تسلُّطها بالمواقف والمعتقدات المطلقة، لتمارس تزييف الواقع والتاريخ العربيين.


ترتبط أعمال صادق جلال العظم بستينيات القرن الماضي، بكل ما حملته من إرهاصات عامة في باب تأسيس عقلانيات الفكر العربي، الهادفة إلى تجاوز الثقافة التقليدية. كما أن نصوصه الصادرة بعد ذلك، في موضوع الدفاع عن حرية الفكر والتعبير، اتجهت الوجهة نفسِها، حيث عمل في نقده لذهنية التحريم، سليمان رشدي ونظرية الأدب (1992)، ودفاعاً عن المادية والتاريخ (1990)، وكذا في مواقفه الأخيرة من الثورات العربية، على مواصلة جهوده الهادفة إلى إبراز أهمية الفكر العقلاني، ومزايا النقد الذاتي في ثقافتنا ومجتمعنا.
لا يملك المتأمل لنصوص صادق جلال العظم، إلاّ أن يُدرجها ضمن الوعي الطلائعي، الذي كانت تمثله نخبة من المثقفين في مشرق الوطن العربي ومغربه، حيث بدأت تتبلور الملامح الكبرى لثقافة نقدية جديدة، تشكل في روحها العامة امتداداً متقدماً لفكر النهضة العربية، ثقافة تتوخى تعزيز كل ما يسمح ببناء ثقافة عربية، متفاعلة مع عصرنا ومكاسبه الكبرى في مختلف مجالات المعرفة. نحن هنا نشير إلى جهود باحثين آخرين وضعوا بدورهم بصمات قوية في ثقافتنا المعاصرة، في الزمن الذي تبلورت فيه الجهود الأولى لصادق جلال العظم، ونشير بالذات إلى أعمال ياسين الحافظ (1930-1978) وعبد الله العروي وغيرهما، فقد التقت جهود من ذكرنا على سبيل التمثيل لا الحصر، سواء في إشكاليتها العامة أو في الآفاق الفكرية والتاريخية التي حملت. صحيح أنه يمكن أن نعثر على اختلافات وتباعدات بين نصوص هؤلاء، ولكننا نفترض أنه لا أحد يُجادل في كونهم واجهوا جميعاً إشكالية التأخر التاريخي العربي، وحاولوا كل بطريقته الخاصة، نقد الثقافة العربية السائدة، بهدف التصدِّي للثقافة المحافظة والدولة التسلطية وتركيب البدائل والخيارات التي تسمح بتجاوز الهزيمة العربية.
يمكن أن نُدْرِج مختلف أعمال الرجل، في إطار مساعيه الرامية إلى تعزيز وتوسيع مساحة العقلانية في الفكر العربي المعاصر، وضمن هذا السياق، نقرأ أعماله داخل دائرة المنزع العقلاني النقدي في فكرنا، حيث عمل بنزوعه الفلسفي المادي وخياراته السياسية العلمانية على مواصلة الوفاء لقيم التاريخ، ومختلف مكاسب الإنسانية في المعرفة دون تردد أو انكفاء. كما يمكن أن نقرأه بالصورة التي تبرز المناحي الوضعية التي تستدعيها أعماله، حيث عمل العظم على توظيف التحقيب الوضعي للتاريخ ولتاريخ الفكر بالذات، بهدف محاصرة أنظمة الفكر اللاهوتي في أبعادها المختلفة. إضافة إلى ذلك نلاحظ أن بعض أعماله تستوعب الروح الوضعية في أبعادها التجريبية والاختبارية، سواء في مجال مقاربة الظواهر الطبيعية أو الإنسانية، حيث استند إلى بعض المرجعيات المؤسسة للنَّزعات العلمية، المدافعة عن رؤية جديدة للطبيعة والتاريخ والإنسان.

 الأنظمة العربية تسند تسلُّطها بالمواقف والمعتقدات المطلقة، لتمارس تزييف الواقع والتاريخ العربيين


















نعثر في أعمال زكي نجيب محمود وقسطنطين زريق وأنور عبد الملك وفؤاد زكريا على بعض عناصر هذه الرؤية، حيث يمكننا أن نعثر على خيوط من الوصل بين الجهود المذكورة وبعض أعمال صادق جلال العظم. ففي أعمال مَن ذكرنا، وغيرهم ممن لم نذكر من أعلام الفكر العربي، نجد أنفسنا أمام درجة عالية من تمثُّل المفاهيم والأطروحات الكبرى في الفلسفة الوضعية، ونجد إرادة واعية في التوظيف المعرفي والتاريخي لهذه المفاهيم، وذلك ضمن محاولة للإجابة عن أسئلة تخص واقعاً محدداً، واقع الوطن العربي والفكر العربي في العقود الأخيرة من القرن العشرين.
لا يمكن أن تُفهم جهود العظم في الفكر العربي المعاصر، إلا بوضعها في سياق تطور المنزع النهضوي والروح الوضعية، كما تبلورت وتطورت في فكرنا. أما نتائج أبحاثه في مجال نقده للفكر الديني، فيمكن أن تُقرأ من جهة أخرى، باعتبارها التمهيد المباشر للمباحث التي تبلورت بعد عقد من الزمن في ثقافتنا العربية، حيث نشأت إسهامات نقدية هامة في مجال نقد التراث الإسلامي، ونحن نشير هنا إلى جهود كل من محمد أركون ( 1928-2010) ومحمد عابد الجابري (1939-2010)، في نقد التراث الإسلامي والخطابات السلفية. يُقرأ نص نقد الفكر الديني كتمهيد لخيار نقد التراث في ثقافتنا، فقد تبلورت في ثمانينات القرن الماضي نصوص اعتنى أصحابها بنقد العقل التراثي، وقد أعادتنا هذه النصوص إلى نص صادق جلال العظم في نقد الفكر الديني، صحيح أن صاحب المؤلَّف الأول، لم يكن متخصصاً لا في الإسلاميات ولا في التراث، إلا أنه كان يعرف الكوابح التي تمارسها الذهنية التراثية في الثقافة العربية، ويمارسها الفكر المحافظ في مجتمعاتنا

تتخذ المقاربة في تيار نقد العقل في أعمال محمد أركون ومحمد عابد الجابري طابعاً مركَّباً، يتمثَّل في نقد المنتوج التراثي وكشف محدوديته النظرية والتاريخية، ونقد آليات عمله المشروطة بطبيعة المعارف والمناهج في أزمنة تشكُّله، والعمل في الوقت نفسه، على إعداد السبل المساعدة في عملية تخطي نتائج استمرار حضور تأويل محافظ للمكوِّن التراثي في الحاضر العربي، وهنا بالذات تلتقي هذه الأعمال مع الأفق الذي رسمته الخطوط العامة لحدوس صاحب نقد الفكر الديني، المتسمة كما أشرنا بكثير من الشجاعة والجرأة.
لا يتعلق الأمر في مشروع نقد العقل التراثي بأبحاث معنية بالرصيد التراثي الإسلامي في بنياته النصية لذاتها، كما لا تتعلق محتويات نص نقد الفكر الديني بمباحث تراثية خالصة. نواجه في النصوص الأولى والثانية، مقاربات يهمها الانخراط في فهم الواقع العربي، ويوجهها الهاجس النهضوي التاريخي، وهو هاجس سياسي بالدرجة الأولى، لبناء أعمال تتوخَّى تفكيك المبادئ والمرجعيات، التي لا تزال تحدُّ من قدرات الفكر العربي على الانطلاق في التفكير والإبداع، استناداً إلى مستجدات المعرفة وبناء على أسئلة متصلة بتحدِّيات التقليد، التي تمثِّلها في فكرنا اليوم، تركة العقائد والنصوص المطلقة، التي لم يستطع الذين يقومون اليوم بمواصلة الترويج لها، إِدْرَاكَ نتائج الهزات التاريخية والمعرفية والسياسية، التي صنعت وتصنع اليوم الملامح العامة للفكر الإنساني في عالمنا.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.