}

2020 .. الدخول في عصر البلادة العاطفية؟

صونيا خضر 11 يناير 2020
آراء 2020 .. الدخول في عصر البلادة العاطفية؟
لوحة للرسام الفرنسي لويس ليوبولد بيلي (Getty)
الأول من يناير/كانون الثاني الذي لا أدرك لغاية الآن كيف يكون ثانياً وهو أول شهور السنة، رسائل كثيرة في الصناديق الافتراضية المتعددة، بين الماسنجر والواتس آب والفايبر، مع غياب ملحوظ في الرسائل النصية العادية التي لا تعتمد على الشبكة الإلكترونية. رسائل مغلقة وعلى حالها، دون أن أكلّف نفسي عناء فتحها أو حتى المرور على أسماء مرسليها، أنا التي وقبل أعوام قليلة لا يتعدى عددها أصابع اليد الواحدة، كنت أنتظر تلك المناسبة بشغف وأعدّ الثواني وأنا أحدّق في شاشة هاتفي الذي لم يكن ذكياً قي ذلك الوقت، علّي أتلقّى رسالة ما، من شخص ما يمنحني أولوية التهنئة، في مناسبة كانت تعلق فيها الرسالة النصية، في ذروة الصفر السنوي للرسائل والعواطف والأمنيات الثقيلة على شبكة الاتصالات.

ظلّت هذه الرسائل مغلقة حتى لحظة كتابتي لهذه الخاطرة، التي قد تطول لتصبح مقالاً، وكما توقعت، هي فيديوهات قصيرة ومكررة، لا تتجاوز مدة عرضها الثواني المعدودات،  يخرج منها الرقم 2020 على هيئة تفجير صغير أو مجموعة من النجوم المضيئة مع موسيقى احتفالية، بهذا الرقم الجديد، نسخ لصق وإرسال، دون تدقيق ولا تفكير ولا عاطفة، مجرد إجراء روتيني وعدوى إلكترونية، تحلّ بمن يفتح هذه الرسائل، هذا هو شكل التهنئة الجديد في عصر المجتمعات والمجموعات الرقمية المتمكنة من كل تفاصيل النص والصورة والتوقيت والغافلة عن طبيعة وشكل العلاقة بين المرسل والمرسل اليه، لكنني ومن باب الذوق والأخلاق، لا أتوانى بدوري عن لصق قلب صغير أسفل تلك الرسائل وإعادة إرسالها لأصحابها، بحرص شديد كي لا تصيبني العدوى.
ورغم كل هذا البرد، لم يخل بريدي من رسالة يتيمة، تنطوي على تهنئة من القلب وكلمات تستحق مني الإبقاء على كل الصناديق الافتراضية وعدم مغادرة البيت الافتراضي، رسالة تضيء بين كل تلك الرسائل المعتمة، تجعلني أتنفس الصعداء وأسحب شهيقاً طويلاً يؤجل قرار فتح الرسالة وقراءتها، كونها مثل القطرات الأخيرة في الكأس، التي أتمهل طويلاً في ارتشافها كي لا تنتهي.
"كل عقد وأنت بخير"، هكذا تستهل صديقتي أمل رسالتها، وهذا يكفي لأن أتوقف كثيراً عند هذه العبارة، وأترك لعقلي فضاء التخيّل، ولقلبي متعة التحليق، نعم هنا يكمن الاختلاف بين هذه الرسالة التي كتبت خصيصاً لي، والرسائل الأخرى، وهنا تنجلي الحقيقة، نحن نودع عقداً كاملاً الآن، عقد مختلف عن العقود التي سبقته، ورقم مختلف عن الأرقام التي قبله، أستطيع أن أتخيل الآن ما الذي سيتبادر الى ذهن من يقرأ هذه العبارة ممن يستهترون مثلي بفداحة الأرقام والمبالغات في العناوين، لكنني هنا وفي هذا المقام لا أتحدث عن رقم بعينه بقدر ما أراجع المرحلة التي امتدت بينه وبين العشرية التي سبقته، وأشهد على اختلاف المعنى فيها أو على نحو أدق، اختفاؤه.
قبل عشر سنوات من الآن، وخلال العقد ما بين الألفية الأخيرة والعشرية الأولى، كنا ما زلنا نحن البشر، نندرج تحت بند الأحياء الحقيقيون، كان كل شيء بحسابات جميلة، ساعات النوم، ساعات اليقظة، ساعات الطعام والجسد والأحلام، وكنا نتوعّل في تفاصيل الحياة، والدهشة والعاطفة، ندوّن خواطرنا على الورق، نقرأ الأخبار في الصحف، ونتبادل التهاني والتعازي حضوراً أو هاتفياً، ونحن النساء تحديداً كنا ما زلنا نتبادل الزيارات الصباحية في البيوت، ونحتفظ ونحافظ على كل ما نستطيع الاحتفاظ به، من كتب ومجلات وأسطوانات وشرائط موسيقية وأقراص مدمجة وحتى أجهزة البث الكهربائية من راديوهات وستيريوهات، كنا في حالة أرشفة مستمرة وحثيثة للذكريات، التي مكانها بالرأس والقلب معاً لا في مكان آخر، وتعزيزها بالإشارات والأدلة، من الشذرات العينية الكثيرة التي كنا نحتفظ بها، مثل وردة مجففة بين دفتي كتاب، أو كعب فاتورة قديمة أو برقية أو عقب سيجارة، أو حتى حبة شوكولاتة مضى تاريخ صلاحيتها وبقي فيها أثر من ذلك الوقت، في مراوغات عاطفية للاحتفاظ بذلك الوقت الذي لا نرغب بنسيانه.


نظام عالمي جديد
خلال العقد الذي احتفلنا منذ بعض الأيام بنهايته، واختلفنا على أهمية المنزلة العشرية في تغيير مسار القدر والحياة، انصعنا واستسلمنا لما تريده منا التكنولوجيا، في مقايضة كبيرة وصفقة تفوق أهمية صفقة القرن، على طبيعة الكائن بين أن يكون حياً، أو أن يكون مجرد كائن فحسب، يأكل ويشرب ويتنفس ويتناسل وفق نظام عالمي جديد، يعمل على تفريغه من محتواه العاطفي تدريجياً وسكب وهم الذكاء فيه، الذي ولو دقق جيداً بالأمر لاكتشف وأقصد الإنسان بأن ليس هو الذكي فعلاً بل الأجهزة التي بمتناول يديه، وحوله، والتي بدونها قد لا يستطيع الخروج بحاصل قسمة أو ضرب عددين عشريين، بأفضل الأحوال وقد ينسى طريقه إلى البيت في أسوئها.
إذاً نحن في نهاية هذا العقد أصبحنا كائنات فحسب، في نظام عالمي جديد، نجح في ترسيخ بلادتنا، نظام لا يتطلب منا عناء استعمال العقل ولا القلب، ولا الذاكرة بطبيعة الحال، فكما توفرت بدائل الانفعالات من وجوه وابتسامات وقلوب ودمعات، على شكل أيقونات تقينا شر الانفعال، فقد توفرت الذاكرة وأتيحت للاسترجاع والتصفح في أي وقت، الذاكرة التي يتم فقدانها فور التأكد من حفظها، مخزنة في شرائح وملفات إلكترونية، تتكدّس فيها الصور والمشاعر التي كانت قد تملكتنا في أي وقت خلال هذا العقد، بشكل دقيق لا يترك مجالاً للالتباس حول مصداقيتها أو حصولها، حقائق معروضة لا تمنح للتخيّل فرصة تجميلها أو تبرير حدوثها أو حتى نفيها ونسيانها.
الذاكرة التي كنا نبرع بتخيّل حدوثها بشكل أجمل أو أسوأ حسب مستجدات العلاقة، وتداعياتها، باتت موثقة بشكل يدعو للريبة، فما الجدوى من عرضها أمامنا نحن البشر بكل هذا الوضوح وكل تلك السهولة، وما الغرض من فقد متعة تخيّلها واستعراضها وفق اختلاجات العاطفة والغفران والنكران! ما الجدوى من عرض يومياتنا بشكل سافر ودون انتقاء، نحن من كنا نملك حق إخفاء أو إشهار الصورة حسب مستجدات الحياة وتغيراتها وما الذي تغير فعلاً فينا لننصع لفكرة استهلاكنا عوضاً عن فكرة حياتنا!


عقد البلادة العاطفية
هي البلادة العاطفية التي بفضلها قفزنا عن المجاز والمعنى معاً، لنصبح مجرد موظفين متقاعدين، نتسلى بمشاهدة الحياة عوضاً عن ممارستها، ونتلهى بنتائج المعادلات والحسابات عوضاً عن متعة التفكير والاستنتاج، وهو الوقت الذي هزمت إنسانيتنا فيه الكائنات المجهرية الدقيقة، والإلكترونات والبروتونات، التي كنا نتناول وجودها في حصص العلوم الطبيعية على محمل تفوقنا ونرجسيتنا كبشر اصطفانا الله لنكون أرقى الكائنات وأذكاها.
هو العقد الذي أصبحنا فيه مجرد كائنات متشابهة، تماماً مثل تلك الكائنات التي درسنا تفاصيلها أيام الدراسة، نتنفس ونحيا ونموت في دورة حياة فقدت منها معاني التميّز والتخصص والعاطفة، تتشابه النساء في ثيابهن وأنوفهن وشفاههن ووصلات شعرهن وألوانها، ويتشابه الرجال بكل ذلك أيضاً عدا ما لا يجوز للرجال لغاية الآن، هو العقد الذي اختفت فيه الكثير من الوظائف المثيرة للشجن ومنها الموسيقار وساعي البريد، والذي أتلَفَنا فيه الاستهلاك والتوفر والسهولة، وتلُف فيه العقل.
الأول من يناير/كانون الثاني، طرود كثيرة عابرة للقارات وللمدن تمنح امرأة من رام الله أن ترتدي ذات الفستان الذي ترتديه امرأة في لبنان أو في الصين أو في باريس، أجهزة ذكية في متناول الجميع، تمر الأصابع فوق شاشاتها لتظهر فيها مشاهد الموت والرقص والأزياء والموائد العامرة والفقر والجوع، تباعاً ومعاً ودون توقف كأنها تحدث في كوكب آخر، تنبؤات بكوارث بيئية وحروب طاحنة لا يكترث لإمكانية حدوثها أحد، الى أن تطحنه، وهو مستلق تحت الشمس يلعب كاندي كراش، غارقاً ببلادته، فارغاً من العقل والمعنى.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.