وقد بدأت كتابة القصيدة النثرية على يدّ جبران خليل جبران، ولكنّ الذين تميزوا بها، هم: محمد الماغوط، جماعة مجلة شعر، وسوف نضيف إليهم بشير البكر ورياض الصالح الحسين. ومن يقرأ أشعارهما المنثورة يجد حميمية التجربة ودفئها وإخلاصها وعمقها، فواحد منهما، بشير البكر، قدم من الحسكة السورية، وأصبح طالباً في كلية الزراعة، وعمل في مؤسسة الأمالي الجامعية، وفيها التقى برياض الصالح الحسين، وعاشا شبه أخوين لا يفترقان إلا للنوم، في الصباح يلتقيان في العمل، تراهما يجمعان الورق المطبوع، لينتهي على يديهما إلى "نوطة" يقرأها الطلاب، ويحفظونها ويقدمون فحصاً بها، نظراً لأن الكتاب الجامعي لم يتوفر بعد.
في الطابق الأوّل من الزاوية الشرقية وأمام جامع العبارة تجدهما يعملان كالنحل بسحب

"عبد الكريم كاصد: رياض من أصدق الشعراء الذين قرأت لهم، ومن أكثرهم تلقائية، وتشعر بأن الشعر بالنسبة إليه مثل التنفس"

الأوراق وتحويلها إلى نوط جامعية، ثم يتناولان الطعام سوية، وتكون استراحة في مقهى القصر، الذي كان يرتاده الأدباء والفنانون، ومن لفّ لفهم من الشعراء، والقاصين الشبان، بالإضافة إلى باقي فئات الشعب الذين يجلسون في المقاعد الخلفية، وعند المساء يذهبان إلى مطعم الشاب، ليقضيا بعض الوقت ويسمعا بعض الشعر، أو ليتكلما ماذا سيفعلان غداً.
رياض كان يجلب دائماً كتباً، يحملها تحت إبطه، ويتركها على الطاولة، ويقول لنا: اسمعوا هذه القصيدة، ويبدأ يقول بصوت يخرج من القلب، صوت قادم من عالم النسيان، بعيد ومتقطع، فيه بحة حزن وألم، فيه صوت الزهور والأنهار، وفيه صوت الخيول وصوت كلّ شيء يكاد أن ينفجر. وعلمنا في حينه أن رياض قد أصيب عام 1967 بالتهاب المجاري البولية، الذي أدى إلى التهاب كلوي حاد، وأجرى جراحة لكليته فقد على أثرها النطق، كان يكتب إلينا كلّ ما يريد على ورق الجرائد، وعلى الورق الموضوع على طرف الطاولة.
وُلِدَ رياض الصالح الحسين في درعا عام 1954، ودرس في مدارسها حتى الصف السابع، وترك المدرسة بسبب المرض، والده كان متطوعاً في الجيش فكان على أسرته أن تتنقل من مكان إلى آخر، بحسب عمل الوالد وتنقلاته، والأب أصله من مارع شمال غربي سورية، تزوج من اثنتين، وكانت أم رياض هي الثانية، وأنجب منها تسعة أفراد، ستة ذكور، وثلاث بنات، بالإضافة إلى شقيقين من الزوجة الأولى.
انتقل رياض إلى حلب، وسكن مع أخوته الكبار في حي الصاخور الشعبي، والتقى بشير البكر في مؤسسة الأمالي، ومنها بدأت صناعته كشاعر للقصيدة النثرية، وفي تلك الأيام تعرف على فتاة في أمسية أدبية في بيت الروائي والناقد نبيل سليمان، جلس بجانبها وتعرفا على بعضهما بواسطة الكتابة على ورق الجرائد التي كان يحملها معه، وخرجا من الأمسية وتمشيا قليلاً، وانتهى التعارف بينهما على أحد الأسطحة، وكان يرمز لها بالحرف "س"، وفي ذلك يقول:

          أحلم بشيء واحد

          أو أكثر قليلاً

          أن ألف ذراعي اليسرى حول كتفك

          واليمنى حول كتف العالم

          وأقول للقمر: صوّرنا

كانا يتحدثان عن الحبّ، وعن بيت له سقف وأربعة حيطان، يغلقان الباب على نفسيهما ويلفان بعضهما حتى الصباح.
ترك رياض العمل في المؤسسة وسافر هو وبشير إلى دمشق، وهناك سكن أيضاً في حي شعبي هو حي "الديوانية"، وعمل في منظمة التحرير الفلسطينية، وتعرف على الكتاب والأدباء والفنانين والشعراء، وصار يشارك في نشر قصائد في "الكراس الأدبي" التي اعتقل أغلب الذين يكتبون بها، كما نشر في مجلات المعرفة والطليعة الأدبية وجيل الثورة، وازدادت تجربته غنى، وتميّز ببساطته المرهفة، ووضوحه العميق، وإخلاصه للقصيدة.

كتب معرفاً بنفسه ما يلي:

          أنا رياض الصالح الحسين

          عمري اثنان وعشرون برتقالة

          قاحلة

          وللمرة الألف يداي مبادتان

          كشجرتي فرح في صحراء

ثم جاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وعلى ذلك انطلق بشير البكر لينضم إلى المقاومة، وانخرط في صفوفها مقاتلاً، وعندما تم وقف إطلاق النار، خرج مع الذين خرجوا من بيروت إلى تونس، ثم ذهب بعد ذلك إلى فرنسا، ثم إلى إنكلترا.
في هذه الأثناء تعرف رياض على امرأة عراقية وهي أرملة وأمّ لطفلين، كان يتردد عليها، وقد طلب يدها للزواج، ولكنها رفضت ذلك لأنه ذهب مع صديقة إلى بحر اللاذقية. حين عاد تدهورت صحته، وجلس في غرفته وأغلق الباب على نفسه، وانكفأ.

          أمس لم يسأل أحد عني

          زارني الموت ولم يكن

          على الرفّ قهوة

          ولأن الموت يحبّ القهوة

          مثل جميع الناس

          فلقد قلب شفتيه وصفق الباب وراءه

          ومضى في قطار العتمة

زاره اثنان من الشعراء، ورأيا حالته، فقرّرا أن يذهبا به إلى مستشفى المواساة، وهناك أجري له عمل جراحي خاطئ، وتوفي الشاعر عن عمر يناهز التاسعة والعشرين عاماً، في عام 1982 عصر يوم الحادي والعشرين من شهر تشرين الأوّل/أكتوبر، ونقل جثمانه إلى حلب ومن ثم إلى مارع حيث دفن هناك، وذهبنا أنا والأستاذ جمال باروت والكاتب وليد إخلاصي والشاعر سعيد رجو إلى مارع في سيارة خاصة باتحاد الكتاب العرب، وزرنا قبره، بعد قراءة الفاتحة له.
أصدر رياض ثلاث مجموعات شعرية تعتبر هي الأبرز بين شعراء أواخر السبعينيات، وهذه المجموعات هي: خراب الدورة الدموية – أساطير يومية – بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس. وبعد وفاته صدرت له مجموعة شعرية هي: وعل في الغابة.
يقول عنه أمجد ناصر: "لم يكن رياض الصالح الحسين ممن يتزلفون إلى الزمن، وهو ممن لم يحتاجوا إلى رأفته، قصيدته جاهزة وبصمته حاضرة منذ توقيعه الأوّل".
وقال عنه صديقه عبد الكريم كاصد: "رياض من أصدق الشعراء الذين قرأت لهم، ومن أكثرهم تلقائية، تشعر بأن الشعر بالنسبة إليه مثل التنفس، يكتب ما يخطر على باله ويدور في عقله ويثقل قلبه".

ويقول هو:

"أيتها البلاد المصفحة بالقمر والرغبة والأشجار أما أن لك آن تجيئي؟.

أيتها البلاد المعبأة بالدمار والعملات الصعبة، الممتلئة بالجثث والشحاذين أما آن لك أن ترحلي؟".

رياض لم يحبّ سوى "س"، كلّنا نعرف "س"، وكانا يلتقيان معاً منذ الصباح، كان يرسم لها القمر كبرتقالة ويطلب منها أن تضعه في حقيبتها، كان يرسم لها الليل والنجوم والحدائق العامّة، وكانا لا يفترقان إلا في الليل حين يطلب منها أن تذهب إلى بيتها وتعدّ النجوم.
هكذا وُلِدَ شاعر، وعاش ثم مات بخطأ جراحي، لم تحتمله المدرسة بسبب صممه، ثقف نفسه بنفسه، ودائماً كان يحمل الكتب تحت أبطه "لقد حملته الدنيا وزر مواجهتها قسراً، والانصهار بها والخوض في غمارها".  أبدع في قصائد الحبّ الذي كان ينهيه على طريقته، ويقول عن الموت: "كان عليّ أن أموت صغيراً/ قبل أن أعرف المناجم والدروب/ المرأة التي تغسل يديها بالعطور/ والملك الذي يزين رأسه بالجماجم".

انتهى الشاعر جسداً، لكن شعره لا يموت.