}

هل الهولوكوست جزء من ذاكرة فلسطين؟

فيصل درّاج 23 سبتمبر 2019
آراء هل الهولوكوست جزء من ذاكرة فلسطين؟
نصب برلين والمحرقة، تصوير أندريا رونشيني (Getty)

في كتاباته المدافعة عن حقوق الفلسطينيين، تحدث إدوارد سعيد عن: "لوم الضحايا"، قاصداً صهاينة يرون لاجئين أشراراً يهددون الأمن الإسرائيلي، جديرين بالعقاب و"اللوم"، يرفضون حق "الضحية اليهودية" في العودة إلى أرض أجدادها. فلو قنع هؤلاء اللاجئون بمآلهم، أو اختفوا على سبيل المثال، لعاش الجميع بسلام وسعادة، علماً أن كلمة "الجميع" تردّ إلى مجهول. صدر عن كلمة الضحية تعبير: ضحية الضحية، الذي يشير إلى فلسطينيين اقتلعهم الصهاينة، بالمعنى الواسع، من أرضهم وأجبروهم على منفى طويل الأمد. وقد يصل عشّاق الكلمات الفارغة إلى "حوار الضحايا"، قاصدين كلمة فارغة أخرى: الغفران المتبادل بين الضحيتين، فإن أضافوا السياسة إلى الكلمة المجردة قالوا: الاعتراف المتبادل، الذي إن شطّت أحلام القائلين به وصلوا إلى "حل الدولتين".
ومع أن لكلمة الضحية أزقّتها المتعددة، فالأكثر نظافة بينها ماثل في المساواة بين الضحيتين، إذ المظلوم الفلسطيني وصل إلى المنفى بسبب قدر سيء ضرب "اليهودي التائه" بظلم بعظيم، ألزمه مكر التاريخ بأن يظلم الفلسطيني، ويحتل أرضه. كان اليهودي المظلوم، حين وفد إلى فلسطين بأعداد كبيرة، في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي مدفوعاً بالفاشية الهتلرية، التي أوقعت باليهود مجارز كبرى عنوانها الأكبر: الهولوكوست، الكلمة المرعبة التي جرت على لسان العالم ووصلت إلى الفلسطينيين. وهو ما تشهد عليه روايات كتبها فلسطينيون، وآخرون قريبون منهم.
في روايته الأخيرة المتميزة كتب أكرم مسلم، في "بنت من شاتيلا"، وفي صفحاتها الأخيرة، عن ناجية فلسطينية من مجزرة صبرا وشاتيلا، سكنت في هامبورغ في ألمانيا في بيت يهودية لم تنج من مجازر النازيين، لكأن الضحيتين تقاسمتا قدراً واحداً، وإن كانت الفلسطينية أحسن حظاً، لأنها نجت مما لم تنجُ منه الضحية اليهودية. والسؤال: لماذا لامس الروائي الفلسطيني، الذي أنجز، ربما، العمل الأكثر تكاملاً عن مأساة شعبه هذه، قضية ليست من اختصاص شعبه، ولماذا هذه الغفلة التي جعلت وطنياً نبيهاً، لا يساوم على حق شعبه، يقترب، دون إرادة منه، من خطاب الصهيوني الفرنسي كلود لانزمان، الذي قدّم الفيلم السينمائي الأطول عن الهولوكوست؟
قبل رواية أكرم بفترة قصيرة كان ربعي المدهون في روايته "سيدة من تل أبيب" قد أوغل في "تعاطفه الإنساني" وأعلنه على غلاف روايته، قبل أن يعيده في روايته الثانية: "مصائر: كونشيرتو الهولوكوست والنكبة"، حيث العنوان "براءة ذمة"، ونفياً قاطعاً لما يدعى: "اللاسامية"، ومساواة مضمرة بين الضحايا، الذين قد يقع "لوم" على بعضهم، ويخرج البعض الآخر من اللوم سليماً..
أما الروائي اللبناني إلياس خوري، فقد جعل من الهولوكوست موضوعاً أساسياً من روايته الجديدة التي تلت "أولاد الغيتو"، المحدثة عن مجزرة اللد الرهيبة، التي أوقعها "جيش الدفاع" بأهل المدينة الفلسطينية في صيف 1948. ولكي لا يبدو الكلام سائباً يقتضي الحديث عن إلياس بالتذكير بأمور قليلة: فهو الصوت الأعلى، ربما، في الرواية العربية اليوم، شهير بنثر عربي أنيق تسعفه ثقافة عالية، بدأ متميزاً من روايته الأولى "الجبل الصغير"، مدافع حاسم عن القضية الفلسطينية، دافع عن الفلسطينيين بشجاعة نادرة بعد خروجهم من بيروت 1982، حين كان الدفاع عنهم يهدّد حياة صاحبه، وبادر إلى "تنظيف" مقابر الفلسطينيين وأضاءها، مع غيره، بالشموع.
يظل السؤال الأول قائماً: لماذا "التورّط"، بالمعنى الذي قصده جان بول سارتر، في الدفاع عن قضية لا شأن للفلسطينيين فيها، فهي من شؤون الذين أشرفوا على توزيعهم على مناف قريبة وبعيدة، تبدأ ببيروت ولا تنتهي بتشيلي في أميركا اللاتينية؟ ما علاقة الفلسطينيين الذين كانوا يرزحون تحت الانتداب البريطاني، حين كانت آلة هتلر القمعية تقتل اليهود وغيرهم منتهية إلى الاسم الكبير: الهولوكوست؟


لماذا هذا الشعور بالإثم؟
إذا كانت التعاطف الإنساني مع اليهودي المقتول ظلماً واجباً إنسانياً، يدركه الضحايا قبل غيرهم، فلماذا هذا الشعور بالإثم إزاء جريمة صنعها التاريخ الأوروبي الحديث؟ كان هتلر اتجاهاً ثقافياً ـــ سياسياً، لم يكن فرداً وحيداً يهوى إراقة الدماء، وخاصة دماء اليهود، ولم تكن اللاسامية شأناً ألمانياً خاصاً، كان قد سبقها أكثر من "بوغروم" في "روسيا وأوروبا الشرقية، وكان الفرنسيون يتحدثون عن قضية "دريفوس" في مطلع القرن العشرين. وكان العرب في ذاك الزمان جماعات خاضعة للاستعمارين الفرنسي والإنكليزي.
والأرجح أن "الاعتراف الضروري بالهولوكوست" عنوان لفتنة المنتصر، إذ على الأضعف أن يحاكي الأقوى، وعلى الفقير في بلدان الأطراف الخاضعة أن يبرهن عن "تحضّره" بترديد ما تقوله أطراف متحضّرة، حتى لو كانت هذه الأطراف هي التي قتلت العرب واليهود معاً. فلولا الطائرات الإنكليزية لما هُزم الفلسطينيون في ثورة 1936 ـــ 1939، ولولا الصناديق المحملة بالمواد المتفجرة التي كانت تلقيها الطائرات على القرى لما وصل الفلسطينيون إلى هزيمة 1948، ولولا الإنكليز، بعامة، لما قامت إسرائيل.

والأرجح أيضاً أن الهولوكوست، الصادر عن فتنة الأقوى، محصلة لصناعة متينة الأطراف دعاها اليهودي الأميركي نورمان فنكلشتاين "صناعة الهولوكوست" ـــ نشرته دار الآداب اللبنانية ــــ ترجمتها كتب لا متناهية وجوائز أكاديمية لدراسات كاذبة- "بيترز وكتابه: منذ زمن سحيق"- وسينما هوليوودية ورأس مال هائل وكفاءة في الإعلان والتسويق ودعاية وترهيب متواتر، بل إن الفيلسوف الشهير ثيودور أدورنو كتب "ماذا ما بعد أوشفيتس؟"، كما لو كان التقويم الإنساني يحتاج إلى ميلاد المسيح، بداية، وإلى الهولوكوست كبداية جديدة. لذا حاول الصهاينة اختصار الشر الإنساني الجذري في "الهولوكوست"، واحتكار الاضطهاد والضحية، ونسوا أن الحرب العالمية الثانية حسمت حياة خمسين مليون من البشر، من بينهم ثلاثة ملايين أو أربعة من اليهود ـــ استلمت الصهيونية مقابل حياتهم ملايين الملايين من الليرات، كما لو كانوا مشروعاً تجارياً مزدهراً، واجب الاستمرار.
وإذا كان لليهود "ضحاياهم" التي زهقت أرواحها في فترة محددة، فإن مجازر الفلسطينيين مستمرة منذ وعد بلفور ـــ 1917 ـــ إلى اليوم، عرف منها الفلسطينيون عشرات قبل 1948، ومنها مجازر الطنطورة واللد ودير ياسين وغيرها، وعرفوا ما يوازيها في منافيهم، أشهرها تل الزعتر وصبرا وشاتيلا، التي دفعت باللاجئين إلى جهات العالم الأربع. ولا تزال مجازر الفلسطينيين مستمرة حتى اليوم، تشهد على ذلك غزة العظيمة قبل غيرها، وتشهد عليها فلسطين أرضاً وتاريخاً وآثاراً ومكتبات وبيوتاً ومزارع وآمالاً متمادية.
هل الهولوكوست جزء من الذاكرة الفلسطينية؟ وإذا كانت الذاكرة توقظ التاريخ وتلوذ به، فما علاقة صناعة الذاكرة الصهيونية بذاكرة الفلاحين الفلسطينيين وبهؤلاء الذين ماتوا اختناقاً في "رجال في الشمس"؟ وإذا كان غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وحسين البرغوثي توقفوا أمام الصهيوني، كنقيض لصاحب الحق الفلسطيني، فما ضرورة أن "يتبارك" روائيو جيل آخر بنقيض تصادر آلته القمعية حياة الفلسطينيين كل يوم؟ لم تبدأ الصناعة الصهيونية الإعلامية الخاصة بفلسطين مع الظاهرة النازية، ولا مع وعد بلفور، بل إنها متواترة وعريضة المنكبين منذ زار الأديب الأميركي مارك توين فلسطين في القرن التاسع عشر، وصولاً إلى كاتب بولوني هامشي، ذكره فنكلشتاين في كتابه، انتسب، زوراً، إلى زمن الهولوكوست كي يحظى بجائزة أكاديمية. بداهة أن كل أدب حقيقي يدافع عن قيمة الإنسان في كل مكان، ولا ينسى السياق، الذي يفضي نسيانه إلى تقديم الإجابات على الأسئلة.

كان إدوارد سعيد "المثقف اليهودي الأخير"، كما قال عن نفسه، قد طرح "المسألة الفلسطينية"، في سياق أميركي يعرفه ويجتهد في أخباره معنى الحقيقة، دون أن يفلح في جهده العظيم كثيراً في بلد ألزم اللغوي اليهودي الشهير ناحوم تشومسكي بنشر مقالاته المدافعة عن الحق الفلسطيني في بريطانيا، ذلك أن "الأوساط الأميركية الأكاديمية المتنفذة" لا تقتنع من دون برهان ملموس، لا يتوفر في حالة اللاجئين الفلسطينيين!!!.
قال الفيلسوف الفرنسي جيل ديلوز الذي قضى منتحراً: "ظُلم الفلسطينيون حين أخرجوا من بلادهم، وظلموا في المنفى، وظلمتهم من جديد اقتراحات سياسية تجردهم من حقوقهم..". وتحدّث ديلوز عن الظلم والحق، ولم يأتِ على ذكر الهولوكوست!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.