}

مُتَّحَدات الأطراف: أين هي من الفنّ الحقيقيّ والجمهور الذوّاق؟

نغم عرنوق 26 أغسطس 2019
آراء مُتَّحَدات الأطراف: أين هي من الفنّ الحقيقيّ والجمهور الذوّاق؟
الحكواتي أحمد اللحام في أحد مقاهي دمشق(19/6/2017/فرانس برس)
هناك ظاهرة تفشّت في السنوات الأخيرة في أوساطنا الثقافية الفنّية عند عدد من (الفنّانين) في شتّى مجالات الفنون، وفي عمل المؤسّسات والجمعيات والهيئات المدنية والأهلية التي تهتم بالشأن الثقافي والفني، لدرجة أن صار لا بدّ من الإشارة إليها وإلى مدى خطورتها وتأثيرها، على المدى الطويل، في تشكيل الذائقة الفنّية في المجتمع، خصوصاً في مُتّحدات الأطراف البعيدة عن العاصمة ونشاطاتها، والتي تفتقر إلى نشاطات وتظاهرات وفعاليات فنّية، أو تلك التي ما زالت في بداية تفتّحها على تلقّي وتذوّق الفنون بأنواعها. وتتلخّص هذه الظاهرة بالتعامل مع الفنون وتقديمها على أنّها أنشطة ترفيهية، غايتها التسلية وتمضية الوقت! فَبدلاً من أن يكون الفنُّ تعبيراً إنسانياً إبداعياً يحمل قيماً جمالية وإنسانية، بل وفكرية، ليكون محرِّكاً للخيال، وملهِماً للفكر، ومحرِّضاً لبناء ذائقة جمالية وفنّية عند الجمهور المتلقّي؛ تحوّل إلى مجرّد وسيلة لإقامة (نشاط) اجتماعي يكون مناسَبة للتجمهر، ومدعاة للتفاخر، بل ومورداً للكسب المادّي في كثير من الأحيان، من دون تحقيق أدنى شروط احترامه كفنّ من الفنون، واحترام جمهوره ومتذوّقيه، والتعامل معه بما يستحقّ من اهتمام واحتفاء وتذوّق وتفاعل يغني المبدع والمتلقّي معاً.
غالباً ما نجد، في متّحدات الأطراف التي تفتقر إلى نشاط وحيوية العاصمة، كما في كلّ
الأنظمة المركزية، أو تلك المنفتحة حديثاً على تلقّي هذه الفنون بشكل خاص، مثل طرطوس كنموذج؛ أنّ الجمهور عموماً هو جمهور خام، فطري، ليس لديه النظرة النقدية العميقة لشتّى أنواع الفنون، من الأدب، إلى المسرح، إلى الفنّ التشكيلي من رسم ونحت، إلى الموسيقى والغناء الفردي أو الجماعي، إلى الرقص. بل هو جمهور عفوي يتعامل مع هذه الفنون ببساطة وتعطّش وتقبُّل مُسبق. وهذا ما يعطيه خاصّية هامّة، فهو جمهور ذو ذائقة فطرية قابلة للتشكّل والتطوّر من خلال تواصله مع هذه الفنون وفهم جمالياتها ومقارنة سويّاتها المختلفة بين غثّ وثمين.
وبدلاً من أن تكون هذه الخاصّية دافعاً للمبدع، أو للمنتج الفنّي، لكي يعمل بجدّية أكبر من أجل المساهمة في تشكيل هذه الذائقة وتطويرها وبنائها بما يتواءم مع ما وصلت إليه الفنون اليوم في العالم، نجد أنّه سرعان ما يبدأ باستسهال العمل لجمهور خام؛ فيبدأ هذا الفنّان، أو الجهة المنظّمة للنشاط الفنّي، بتقديم التنازلات بدءاً من سويّة العمل ودقّته وحرفيته وفنّيته، وانتهاءً بشروط تقديمه وعرضه وإيصاله إلى المتلقّي، ممّا يؤدّي إلى نتائج كارثية على صعيد الوسط الفنّي والثقافي وبالتالي الاجتماعي.
ولو حاولنا تحديد مسؤولية كلّ طرف من أطراف هذه المعادلة، سنجد أنّ الكلّ مسؤول بشكل أو بآخر، وعلى كلّ طرف من هذه العلاقة أن يقوم بدورٍ ما من أجل أن تتكامل هذه العلاقة، ونصل إلى إبداع فنّ حقيقي أصيل، وجمهور ذوّاق.
أمّا الأطراف الأربعة لهذه المعادلة، فهي:


أوّلاً: الفنّان
من الخطير جدّاً انسحاب هذه الظاهرة على المبدعين، أو من يدّعون الإبداع، إذ "كيف يمكن لك أن تبتكرَ جمالاً جديداً بلغة تجهلُ جمالياتها وتاريخها الجمالي!" كما يقول أدونيس.
فَكَم من (فنّان) لم يتجاوز الصفوف الأولى في تعلّمه لفنّ ما، تراه قد طرح نفسه (أستاذاً) في هذا الفن، وكم من (شاعر) يتنطّح للمنابر وهو يجهل أبسط قواعد اللغة التي يكتب بها، وكم

من (مسرحي) يقدّم العمل تلو العمل وهو يجهل أولى أساسيات العرض المسرحي. فمَن خضع لورشة مسرح يريد في اليوم التالي أن يصبح مُخرِجاً، ومن خضع لدورة عزف على آلة ما يباشر على الفور بتأسيس فرقة موسيقية هو قائدها، ولربّما افتتح معهداً. الكلّ مستعجل للوصول إلى النجومية، والكلّ يستسهل هذه الطريق ولا يدرك أنها لا تؤدّي إلّا إلى التردّي الفنّي والثقافي في المتّحد ككلّ.
فإذا كان المتلقّي بحاجة لأن يسعى لتثقيف نفسه وتشذيب ذائقته للتفاعل والتواصل مع فنّ ما، فكيف بمن يسعى لأن يبدع في هذا الفن؟ مكتفياً بموهبة مزعومة! مقتنعاً بعدم حاجته للدرس والتثقيف في جماليات هذا الفن وتاريخه الجمالي!! فأي فنّ وأيّ إبداع سينتجه هذا المدّعي؟
إنّ استسهال العمل لا يقدّم فنّاً حقيقياً، والاستخفاف بالجمهور وذوقه يضلّله ويخدعه حيناً، ويصدمه وينفّره حيناً آخر. وهنا تقع المسؤولية الأكبر على من درس تاريخ فنّ ما، وتعمّق في لغته وجمالياتها، إذ لا يجوز له التخلّي عن سويّة عمله الفنّي من أجل تسهيل العمل فحسب، أو مراعاة لظروف ما، وتحت ذريعة أنّ الجمهور فطري ويتقبّل مسبقاً كلّ ما يُقَدّم له. مع أنّه لا بدّ من الإشارة إلى أنّ دراسة تاريخ وجماليات فنّ ما، لا يجعل من الدارس فنّاناً بالضرورة، بل هناك شروط أخرى لا بدّ من أن تتحقّق ليصبح التعبير فنّاً.
وهنا لا بدّ من مقاربة تعريف بسيط، وشامل في الوقت نفسه، للفن عموماً، على أنه:

  • تعبير حر وصادق عن مكنونات النفس؛
  • تعبير إبداعي يقدّم الجديد والمُبتكر؛
  • تعبير جمالي يحمل قيمة جمالية.

ولا بدّ من اجتماع هذه العناصر الثلاثة ليكون العمل فنّياً، مهما اختلفت وسائل التعبير، وأساليبه ومضامينه. ومهما اختلفت المقاييس الجمالية أو الإبداعية بين مكان وآخر، وبين زمن وسواه.
إذاً، كلّ عمل حِرَفي تقني يتوخّى غاية ما، غير التعبير الحرّ والصادق، يخرج عن كونه فنّاً.
وكلّ عمل لا يكتنز جماليات لغته التعبيرية، أدبية كانت، أم تشكيلية، أم موسيقية، أم مسرحية، أم سينمائية، ولا يبني عليها إبداعاً، يخرج عن كونه فنّاً.
وكلّ فنّان يجترّ قديمه دون تقديم الجديد والمبتكر باستمرار، يعلن أمرين: أوّلاً إفلاسه الإبداعي، وثانياً عدم احترامه للجمهور.
فكيف إذا كان من يدّعي الإبداع لا ينطلق من حاجته الملحّة إلى التعبير، بل يراه مجرّد وسيلة للوصول إلى غاية أخرى، مادّية كانت، أو معنويةً تغذّي نرجسيته وتَمَحوُرِه حول ذاته والرغبة في الظهور والشهرة؟ ثمّ تجده بعد هذا، يضع اللوم على (المجتمع) الذي لا يقدّر الفنّ والفنّان حقّ قدره. دون أن يدرك أنّ الجمهور، وإن كان فطرياً وغير متمرّس في تذوّق الفنون، إلّا أنّه يتحسّس صدق الفنّان من عدمه. وينفضُّ عنه وعن أعماله غير النابضة بالحياة والجمال.


ثانياً: المنتج، أو الجهة المنظّمة
للنشاطات والفعاليات الفنّية
يفترض بالجهة المنظّمة لأيّ نشاط فنّي، أن تكون على علاقة وطيدة بهذا الفن، وبشروط تقديمه وظروف عرضه، وأن تدرك أنّ أيّ تقاعس في تحقيق شروط العرض إنّما يسيء إلى العرض، ويشوّش الجمهور، كما يسيء إلى مصداقية الجهة المنظّمة. لكن بعض هذه الجهات، ولاعتقادها بأنّ الجمهور خام وفطري، تستهتر بأدنى الشروط اللازمة لنجاح العمل، ولا تضع باعتبارها الجمهور وراحته وجودةَ تلقّيه للعمل. ولا يدرك هذا المنتج أو المنظّم أنّه على المدى الطويل سيفقد متابعيه الذوّاقين، وسيتضاءل جمهوره ليقتصر على الجَهَلة والمصفّقين.
فما الجدوى من إقامة نشاط فنّي أو ثقافي ما؟ أليست الغاية والجدوى هي الوصول إلى الناس؟ وتقديم الفنون الراقية بالشكل الراقي والمنظّم لجمهور يتذوّق هذا الفنّ أو ذاك؟ أليس الهدف المفترض الأوّل لهذه الأنشطة هو تقديم فائدة ومتعة للجمهور من خلال هذه الأنشطة؟ أمّ أنّ المهم زيادة عدد الأنشطة في السيرة الذاتية (الـ CV) للناشطين، وظهورهم في وسائل الإعلام

ووسائل التواصل الاجتماعي، مهما كانت درجة نجاح العمل، أو فشله، في الوصول إلى الناس؟ ومهما كانت معاناة المتلقّي من سوء التنظيم أو من عدم ملاءمة مكان النشاط وظروف تقديمه؟
فهل إقامة مهرجان ثقافي ما، على سبيل المثال، يتمّ عبر استحضار عدد من الفنون والفنّانين في يومين أو ثلاثة، وصبّها كيفما اتّفق فوق رأس المتلقّي، دون أدنى اهتمام بهندسة صوت رديئة، أو بتكييف غير فعّال، أو بمقاعد غير مريحة تُصدر عند تحريكها أصواتاً مزعجة، أو بمجال رؤية محدود وغير مناسب، أو بإنارة غير مدروسة وغير كافية، أو بتداخل بين النشاطات في المكان والزمان ممّا يؤدّي إلى التشويش والضجيج؟ فكيف إذا اجتمعت كل هذه السلبيات مع بعضها البعض؟ وبعد كلّ هذا نجد القائمين على نشاط كهذا يصرّون على إدراجه ضمن الفعاليات (الناجحة)، والتبجّح بإنجازه.
إنّ نشاطاً لا يحترم جمهوره، ولا يحترم الفنون التي يقدّمها، هو نشاط فاشل بكلّ المقاييس.
أمّا بخصوص ظاهرة مقاهي (الفنون)، أو فنون المقاهي، التي انتشرت مؤّخراً، فهي تستحق الوقوف عندها قليلاً لتفحّصها وتقييمها. فهناك مقاهٍ تقدّم الفنون كوسيلة ترفيه وترويح عن النفس على هامش نشاط المقهى. فتكون النارجيلة التي يشوّش صوت قرقرتها على صوت الفيلم، ودخانها على صورته، هي الأساس في عمل المقهى، وكأس الشراب الذي يقعقع بقطع الجليد، أَوْلى بالسماع من أصوات آلات الموسيقيين الذين يقدّمون عزفاً حياً لسُمّار المقهى، وفنجان الشاي الذي تدندن فيه ملعقة السكّر، أهم وأجدى ممّا يتفوّه به الشاعر أو المؤدّي لفنٍ من فنون العرض، على منبر المقهى. فهذا النمط من المقاهي لا يمكن اعتباره طرفاً في المعادلة التي وردت سابقاً، وهو لا يعتبر مُنتجاً أو جهة منظّمة لنشاط ثقافي، بل هو مقهى يوسّع دائرة روّاده باستقطاب هواة بعض الفنون من خلال إدراجها في برنامجه الترفيهي.
أمّا المقهى الثقافي، الذي ينظّم نشاطاً فنّياً ما، مع تفهّمٍ واحترامٍ لشروط عرضه، فهو حالة مختلفة كلّ الاختلاف، ينزوي فيه المقهى أثناء النشاط لصالح العمل الفنّي، فتُرتّب المقاعد للمشاهدة و/أو السماع، دون الطاولات، ويُوقَف التدخين والمشروب إلى أن ينتهي العرض الفنّي، ليعود المقهى بعد انتهاء النشاط إلى حالته كمكان التقاء وتفاعل لمتذوّقي الفنون التي قُدّمت. وهذا النمط من المقاهي يمكن إدراجه، بالتأكيد، طرفاً في المعادلة السابقة، كمنتج ومنظّم ناجح للأنشطة الثقافية الفنّية.
أيضاً لا بدّ من الإشارة إلى الداعمين والرعاة للنشاطات الثقافية الفنّية، إذ نجد الكثير ممّن يقدّمون الدعم والرعاية لهذه الأنشطة، يقومون بهذا من أجل أهداف وغايات شخصية، بعيدة كلّ البعد عن أهداف وغايات هذه الأنشطة بنشر الفنون وتطوير الذائقة الفنّية.. إذْ من الممكن جدّاً أن ترى، مثلاً، أحد هؤلاء الرعاة، لا يتوانى عن الردّ على هاتفه والتحدّث بصوت عالٍ، مراراً وتكراراً، داخل صالة تُقدَّم فيها أمسية موسيقية أو عرض مسرحي. فكيف يقنعني هذا المدّعي بأنّه راعٍ للثقافة والفنون وهو يستخّف بهذه الفنون نفسها، ويظهر علناً، عدم احترامه لها ولجمهورها، ضارباً بعرض الحائط أبسط قواعد الذوق الاجتماعي؟؟
إنّ من يريد أن يدعم أو يقدّم فنّاً ما، عليه أن يحترم هذا الفنّ ومتذوّقيه، وإلا فإنّ التضخّم الذاتي، أو المالي، هو دافعه ومبتغاه، وليس له علاقة، لا من قريب ولا من بعيد، بالثقافة والفنون. بل على العكس، هو يساهم في نشر صورة مشوَّشة ومشوَّهة عن الفنون وجمالياتها.


ثالثاً: المتلقّي
من أجل تبسيط البحث نرى أنّ هناك ثلاث سويّات من المتلقّين:
1 ــ المتلقّي الذوّاق، وهو الباحث المجتهد في تذوّقه لأيّ فنّ من الفنون، والذي بذل جهداً، ممتعاً دون شكّ، للتعرّف على هذا الفنّ أو ذاك، وعلى تاريخه وتاريخ جمالياته. والذي سرعان ما يكشف زيف مدّعيّ الإبداع ممّن يطرحون أنفسهم كفنّانين! ومدّعيّ التنظيم والإعداد لشتّى الأنشطة والفعاليات الثقافية والفنّية، الذين يطرحون أنفسهم كناشطين ثقافيين! فيبتعد عنهم محصّناً نفسه وذائقته من التشويه والاستهتار بها. وهذا النمط من المتلقّين هو الأقل عدداً في وسطنا الفنّي الثقافي.
2 ــ المتلقّي الشَغوف بالاطّلاع والمعرفة ومن ثمّ بتذوّق الجمال، وهذا قد يبقى لفترة منخدعاً بالذي يُقدّم له على أنّه فن وإبداع أو نشاط ثقافي معرفي، فينشأ وهو يحمل صوراً خاطئة ومشوّشة عن الفن وجماليات الفنون. إلى أن يتاح له مشاهدة وسماع وحضور فنّ حقيقي راقٍ، أو يدفعه شغفه بتذوّق الجمال - وهذا ما يحصل غالباً مع هذا النمط من المتلقّين - إلى السير على خطى النمط الأول بالبحث والتقصّي للتعرّف أكثر فأكثر على فنّ من الفنون، وعلى تاريخه وأسس جمالياته. وحينها يكتشف زيف من كان يدّعي أنّه فنّان، أو ناشط ثقافي. وينقذ، إذ ذاك، ذائقته من التشويه.
3 ــ المتلقّي المحبّ للتميّز، والمدفوع، فقط، برغبة التواجد ضمن الوسط الثقافي كشكل من أشكال الظهور الاجتماعي، أو كنوع من التقليد السطحي للمتابعين، والذي يتابع أنشطة كهذه لدافع وحيد، هو حب الظهور في هذه الأوساط، والحصول على (البريستيج) الذي يضفيه حضور أنشطة وفعاليات فنّية وثقافية، دون أدنى اهتمام بالتواصل مع الفنون الحقيقية الخلاّقة واستيعابها وإدراكها ومحاورتها وصولاً إلى تطوير فكره وذائقته ورؤيته للحياة والكون والفن.
وهذا النوع من المتلقّين هو الغالب في أوساطنا، وهو الأسوأ، وهو في الآن نفسه ضرورة للمدّعين، فنّانين أم ناشطين، فهو الذي يصفّق لكلّ ما يقدّم له، موهماً ذاك المدّعي أن له جمهوره..!!
ولكن، مهما كانت سويّة المتلقّي، يفترض به أن يحترم الفنّ الذي هو بصدد تلقّيه، وأن يحترم

رغبة غيره من الجمهور الذوّاق بالسماع أو بالمشاهدة أو بالحضور، وأن يلتزم بأدبيات السماع والمشاهدة، فلا يتكلّم بصوت مرتفع، ولا يتحرّك مثيراً ضجة وبلبلة بين الحضور، ولا يسمح لهاتفه النقّال بالرنين أثناء العرض المسموع أو المرئي، محاضرة كانت، أم أمسية شعرية، أم موسيقية، أم مسرحية، أم غيرها من فنون المشاهدة. فكيف إذا كان هذا المشاغب من منظّمي النشاط؟ ألا يفضح نفسه بأنّه جاهل بالفنون وبأسلوب تقديمها؟؟ وكيف إن كان من يصفّق استحساناً في نهاية العمل، هو نفسه من كان يشوّش أثناء العرض أو الأمسية؟
وهنا يبرز سؤال مهمّ، يطرح نفسه: كيف للجمهور المهتمّ أن يميّز الغثّ من الثمين، وهو يرى أنّ هناك من يستحسن كلّ ما يُقدَّم؟
هنا يأتي دور الطرف الرابع في هذه المعادلة.


رابعاً: الناقد والإعلامي
للأسف، نحن كمجتمع، وكأوساط ثقافية فنّية، نعاني من فقر كبير في مجال النقد، فلا نكاد نجد نقداً حقيقياً إلا فيما ندر، مع العلم أنّ للنقد دوراً في غاية الأهمّية، فهو المحرّك للحوار حول أيّ عمل فنّي، ممّا يُغْنيه ويغني ذائقة متابعيه، وهو المحرّض للبحث والاطّلاع في شتّى مجالات الفنون والإبداع. والنقد الحقيقي البنّاء هو الذي يمسك بيد الفنّان والمتلقّي معاً، يقرّب المسافة بينهما، يضيء على جماليات العمل الفنّي، ويشير إلى هناته إن وُجدتْ. يكشف زيف المدّعين، ويساعد الجمهور في تذوّق الفن، وبناء ذائقة نقدية خاصّة تتفاعل مع ما يقدّم لها من إبداع، ويضع الفنّان أمّام مسؤولية ابتكار الجديد، وإبداع الجمال، والتعبير الحر الصادق عمّا يعتمل في نفسه ونفوس معاصريه ومشاركيه في الهمّ الإنساني.
ومع غياب النقد، تتضخّم مشكلة الإعلام، فالإعلامي غير المثقّف فنّياً يكون قاصراً عن تقييمٍ صحيح للعمل الفنّي، تشكيلياً كان أم موسيقياً أم مسرحياً أم أدبياً. ويكون، كذلك الأمر، قاصراً عن تقييم أيّ نشاط ثقافي فنّي، وعاجزاً عن الإشارة إلى سلبياته أو إيجابياته. فوسائل الإعلام غير الاحترافية، والخالية من نظرة نقدية مبنية على ثقافة بهذه الفنون، تكرّس كلّ من يدّعي الفن، مهما كان عمله ضحلاً أو غير أصيل، بل وتكرّس منتجيه و(مبدعيه). وتحتفي بأي نشاط يقام مهما كان مزيّفاً، أو مشوّشاً وغوغائياً وغير منظّمٍ.

***

نحن إذاً أمام حالة ثقافية فنّية يرثى لها. فمع عدد كبير من مدّعي الفن، ومع عدد متزايد من الناشطين الجهلة بالفنون، أو المتمحورين حول ذواتهم ومنافعهم الشخصية، ومع جمهور فطري

بغالبيته وما زال بعيداً عن تذوّق الفنون على اختلافها، يستحسنُ ويستسيغ كلّ ما يُقدّم له، ومع غياب مريع للنقد الحقيقي البنّاء؛ نجد أنفسنا أمام وسط يضجّ بتظاهرات فارغة غير أصيلة وغير منظّمة، وغير محقِّقة للحد الأدنى من التواصل الفعّال المفترض بين فنّان حقيقي، ومنتج مثقّف، وجمهور ذوّاق.
وفي النهاية، نسأل أنفسنا، هل غاب الفن الحقيقي، والنشاط الفنّي الفعّال والمتفاعل، عن ساحتنا الثقافية الفنّية تماماً؟ والجواب برأيي هو: بالتأكيد لا.. فَبِعين وأُذُن المتذوّق الباحث عن الجمال، وبإحساس الشَغوف الباحث عن صدق التعبير وعن سموّ الغايات المترفّعة عن المنفعة الشخصية، نجد بعض الفنّانين الحقيقيين، والناشطين الصادقين المُجدّين الفاعلين، ما زالوا يصارعون التسطّح السائد، ويسيرون بخطى حثيثة لتثبيت وجودهم وفنّهم ونشر الجمال ضمن هذا الخواء الغالب على وسطنا. والبعض منهم أثبت جدارته وفاعليته في ترويج الجمال ونشر مختلف الفنون والتعريف بها وخلق مساحات للتفاعل الحقيقي معها، لكّنهم وضمن هذا الخواء الطاغي، ما زال أمامهم طريق طويل وصعب من أجل الوصول إلى تطوير ذائقة فنّية اجتماعية عامّة ترفض المبتذل وتنأى بنفسها عن المدّعين والخائبين.


*كاتب من طرطوس، سورية. خرّيج كلّية الفنون الجميلة - جامعة دمشق، 1984.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.