مثل هذه الأسئلة المبهمة عن العلاقة بين الفنان والنقاد والمؤسسة، هذا الثالوث الأكبر اليوم في الفن المعاصر، هي التي ينبغي على النقاد والباحثين المنشغلين بالدرس الفني والجمالي العربي طرحها بجدية، عوض الارتكان وراء النقد الإشهاري والتبشير الدعوي لمعارض فنانين لم نسمع بهم من قبل، عبر لغة تمجيدية (مؤسس، مجدد، رائد) تحتكم إلى الشخص بدل العمل الفني المنجز ومساءلته ونحت مفاهيمه عبر خطاب نقدي يقترب إلى الفكر، حيث التاريخ والفلسفة والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع يشكلان السند الفكري لهذا الخطاب وليس النقد الانطباعي والصحافي، الذي يكتفي بقشرة العمل الفني دون الإقامة في تخومه اللامفكر فيها.
أفق مغاير
مع ذلك فإن أسماء من قبيل موليم العروسي، شربل داغر، فريد الزاهي، أسعد عرابي، عفيف البهنسي، فاروق يوسف، طلال معلا، تمثل أبحاثهم داخل الفن العربي المعاصر أفقا كتابيا مغايرا عن الذي ألفناه، بل تشكل مرجعا مهما لجملة من الباحثين المنشغلين بالدرس الفني العربي، مقارنة مع ما ينشر اليوم داخل بعض الجرائد والمجلات العربية، وما يطبعها من كتابة صحافية لا أساس فني لها. كتابات إخبارية، تخبرك بوجود معرض فني هنا أو هناك، دون التفكير في جوهر هذا العمل المعروض ومرافقته ومصاحبته في لحظات تشكله، وهي مهمة الناقد الفني بالأساس وليس الصحافي.
يقول فريد الزاهي في هذا الصدد إن بعض وظائف النقد أن يكون "في خضم الراهن الفني متيقظا لرهاناته، ضابطا لتحولاته، منصتا لخلجاته ونبضاته. وربما لهذا السبب قد يكتب الناقد أحيانا الشيء وضده، في فترتين مختلفتين وتبعا لإكراهات متباينة. هذه الشروط هي ما يجعل من النقد ممارسة لصيقة بالممارسة الفنية، وهو أمر لا يترك للناقد، في الغالب الأعم، فرصة التفكير في لغته النقدية، ولا في صياغة تصورات نظرية قمينة بترجمة التجربة النقدية إلى تجربة نظرية تفتح آفاق جديدة للتجربة الجمالية"(1).
وعلى الرغم من رصانة هذا الطرح المعرفي، لم أنحُ في كتاباتي إلى هذا الرأي، لأنني اعتبرت منذ بداية مساري الكتابي، أن ما ينبغي أن أقوم به يتجاوز مفهوم النقد ببعده الكلاسيكي، من خلال معانقة فضاء أرحب وهو الفكر. لذلك فإن جل ما كتبته مؤخرا جاء لاحقا وبعيدا عن ضوضاء وزعيق المعرض، حتى تتاح لي إمكانية تأمل العمل الفني عن بعد والتفكير في طرائق تشكله وتلقيه من الجمهور، ولأن العملية النقدية هنا ممارسة فكرية تقوم على ابتداع المفاهيم وبلورتها، فهي عملية لاحقة على نشوء العمل الفني، عكس المقاربة النقدية التي
تصاحب العمل الفني في لحظاته الجنينية. وهذا في نظري مطب بعض القراءات النقدية، التي حاولت الكتابة عن العمل الفني المعروض عن بعد، دون معانقته في لحظات تشكله وبلورته، وهو ما أفضى بجل هذه الكتابات إلى عملية قيصرية في حق العمل الفني وضبابية تأويله. لذلك، فبمجرد أن يضع النقد "مسافة كافية بينه وبين يومي التجربة الفنية وراهنية تحولاتها، حتى يسعى إلى التحول بالضرورة إلى فكر وتفكير وكتابة. آنذاك فقط يمكنه أن يتحدث عن ضرب من الإبداع، وكأن ما نسميه هنا إبداعية النقد رهين بتخلي النقد عن هويته الوسائطية المؤقتة ليصوغ لنفسه هوية مستقلة تجعل منه ندا للإبداع التشكيلي لا كوكبا من كواكبه"(2). ولتحقيق هذه الممارسة الفكرية في الفن، لا يتوقف الأمر عند ترك المسافة فقط، بين الناقد والعمل الفني فقط، بل يتوجب على الناقد أن يكون ملما بجملة من المفاهيم والمعارف المتعلقة بالتاريخ والسوسيولوجيا وعلم النفس والفلسفة، التي تتواشج وتتمازج فيما بينها لتخلق نصا جامحا سبق أن سميته بـ"الخطاب المركب" الذي تلتقي فيه كل العلوم والمناهج، على الرغم من ضراوة استلهام وتحصيل هذه المعارف والمناهج أمام التطور والتغير السريع، داخل خطاب فسيفسائي متعدد الأوضاع والمقاربات والرؤى والمنطلقات العلمية المتباينة قصد تشريح العمل الفني.
التأويل
وعلى الرغم من ذلك، تظل الكتابة داخل الفن (باعتبارها ممارسة فكرية)، قاصرة ومبهمة في تخييل العمل الفني، إذا هي لم تنفتح على عتبة ثانية في التحليل وهي التأويل، إذ أن الصورة "لا تظل سوى أشباح تنتظر أن يغشاها البصر الذي يعيد خلقها ويمنحها هويتها. لقد كان فنانو الحداثة أول من أدرك ذلك بتركهم لأعمالهم الفنية مفتوحة على التأويلات"(3). لكن، هل حقا تعمد فنانو الحداثة ترك أعمالهم الفنية مفتوحة في وجه تأويلات المتلقي؟ أم أن طبيعة وكينونة العمل الفني، هي التي تجعله أشبه بالسديم، مفتوحا على كل التأويلات الممكنة، وأن العالم نفسه أصبح لا نهائيا، وبالتالي، لا نستطيع رفض انفتاحه على لا نهائية من التأويلات؟ الأمر الذي جعل أندريه مالرو على يقين تام في كون النقد الفني مهما بلغت قوته الانشادية وبلاغته المجازية والاستيهامية، يظل مجرد لسان أخرس أمام فتنة ومجهول العمل الفني.
هكذا نرى، أن التأويل يشكل قاطرة منهجية وإجرائية للوصول إلى كنه العمل الفني وإضاءة بعض من عوالمه، سواء تعلق الأمر بالتشكيل أو بالسينما أو حتى داخل الأدب. غير أن الأمر في التشكيل يكون أكثر صعوبة من النص الأدبي. لأننا نكون في حضرة عالم بصري يختزن جملة من الرموز المتواشجة، فيأخذ العمل الفني تعدد معانيه، ليس فقط من استقلاليته عن الذات المنتجة، بل من إمكانية المغامرة والمخاطرة في تأويله عكس العمل الأدبي كما ذهب إلى ذلك رولان بارت في كتابه "درس السيميولوجيا" حول فكرة موت المؤلف. لذلك فإن فعل التأويل يعني أساسا "المخاطرة بالنفس والمراهنة، إذ أن الكائن لا يشبه الفيلسوف المتيقظ الضمير، المنهمك في فك رموز مخطوطة ما، بل هو يرمي بنفسه في التأويل عبر نفس الحركة التي
يبلور بها شهيته في الحياة. فانبثاق الحياة هو بالضبط فعل التأويل"(4).
وحتى لا نستطرد في الحديث عن الممارسة النقدية وما تتطلبه من معارف وخطوات منهجية دقيقة، نخلص انطلاقا مما سبق، أن الأزمة التي يشهدها النقد الفني اليوم تساهم بشكل ضمني في تهميش وتغريب التجارب العربية المتفردة (وما أكثرها)، الأمر الذي يتسبب ببروز تجارب "مفبركة" صنعها بعض المسترزقين من النقد، ما أثر سلبا وبشكل كبير على التشكيل العربي المعاصر، فالحالة المزرية التي يعيشها اليوم من طمس الهوية الفنية والحضارية، تستدعي نوعا آخر من العلاج المستعجل لضخ دماء جديدة في شرايين مؤسساته وفي أوردة نقاده وفي كافة جسده المنخور من فرط تبعية الناقد للمؤسسة الفنية وللفنان والارتكان وراء النقد الإشهاري (حسب تعبير كلود آمي) وما رافقه من تصدع في الكيان الفني والجمالي العربي.
الهوامش:
1 ــ فريد الزاهي، من الصورة إلى البصري: وقائع وتحولات، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء/ المغرب، الطبعة الأولى 2018 ص: 115-116.
2 ــ نفس المرجع، ص: 116.
3 ــ رشيدة التريكي، الصورة كما نراها وكما نتصورها، ترجمة: فريد الزاهي، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي، الرباط/ المغرب، الطبعة الأولى 2017، ص: 13.
4 ــ J.Garnier. le problème de la vérité dans la philosophie de Nietzsche. Seuil. Paris. 1966. P: 318.