تحمل المفردة، في أغلب الاستعمالات المشار إليها، دلالة السكون المرتبطة بأصولها المنطقية، حيث تتجه لتعيين جنس الأشياء ونوعها. إلا أن نقلها من مستوى الإشارة المحدِّدة لطبيعة الأشياء في لحظة بعينها، إلى مستوى الإحاطة بدلالاتها على وجه الإطلاق، ساهم في تركيب تصورات لا علاقة لها بتحولات موضوعاتها ومختلف صور تطورها. وتتضح هذه المسألة بصورة قوية، عندما نستعمل المفردة ونحن نفكر في قضايا التاريخ والإنسان والمجتمع والثقافة، حيث تتحول هذه الموضوعات إلى وحدات وأقانيم مغلقة.
يعتبر مفهوم الهوية في أغلب صوره المتداولة مفهوماً حربياً بامتياز؛ إنه يُنْجِزُ توصيفات تضع حدوداً للتخندقات والمواقع، خدمة لأهداف سياسية محدَّدة. وتقدم معطيات التاريخ القديم والمعاصر، أمثلة دالة في باب التنميط الهوياتي المستخدم في لحظات الحروب والأزمات في تاريخ المجتمعات البشرية. إننا أمام آلية من آليات التجييش الحربي، حيث تمثل كل هوية فضاء مغلقاً في مواجهة فضاءات أخرى مماثلة، الأمر الذي يعني انتفاء التواصل والحوار، بل إن لغة الحرب في السجالات الهوياتية داخل مجتمعات الطوائف والملل، تتجه أحياناً لإنجاز تنميطات تحصر فيها ثقافة أو مجتمعاً في قالب محدد، مغفلةً النظر إلى تحولاته الفعلية،
لا علاقة لمفهوم الهوية بالموضوعات التي ترتبط مسارات تشكلها بالحركة والتحوُّل، ذلك أن المفردة تشير إلى المعطى المكتمل، في الوقت الذي نجد فيه أن الثقافات في التاريخ مفتوحة على أزمنة ومرجعيات لا حصر لها، ومفتوحة أيضاً، على فضاءات لا يمكن إغلاقها، إضافة إلى أنها تتحدَّد في سياق صور تحولها المتواصلة. فعندما نتحدث مثلاً عن الهوية الإسلامية للمشروع الثقافي العربي في عصورنا الوسطى، فإننا نكون أمام مركَّب تختزله الكلمات دون أن تشير إليه في كليته، أو تحيط بمختلف أبعاده ومكوناته، ففي هذا المركَّب عناصر كثيرة متداخلة. وتقدم المنتوجات الفكرية المتبلورة في دائرة الفكر العربي الإسلامي طيلة عصور التاريخ المتلاحقة وإلى يومنا هذا، الدليل القوي على عمليات في المثاقفة وديناميات في التحول تَشُدُّهَا جوامع فكرية مشتركة.
يدافع التيار السياسي المحافظ في حاضرنا عن الهوية الثقافية، مفترضاً وجود نقاء هوياتي، في الوقت الذي نعرف أن ثقافتنا انخرطت منذ منتصف القرن التاسع عشر في عمليات مثاقفة مع العديد من المرجعيات الثقافية الغربية، وقد أثمرت هذه العمليات كيفيات محددة في استيعاب عناصر فكرية جديدة، مستمدة من المرجعيات المؤسسة لأصول ومبادئ الثقافة الحديثة والمعاصرة. وبناء عليه، لم يعد بإمكاننا أن ننظر إلى الغرب الأوروبي وثقافته، باعتبارهما خارجاً مطلقاً، فقد أصبح الغرب يشكل منذ ما يقرب من مئتي سنة جزءاً من ذواتنا المتحولة في الزمان، وساهمت مكاسبه في المعرفة وفي التقنية، في إغناء وتطوير جوانب عديدة في ثقافتنا.
لا يمكننا أن نتحدث في قضايا الثقافة والتاريخ بلغة الهوية، بحكم أن المفهوم لا يعبر عن
انتبه كثير من المثقفين العرب إلى مخاطر الحروب الهوياتية، وحاولوا الاقتراب من دوائرها بطرق نقدية وتاريخية. نتبيّن ذلك بصورة واضحة في أعمال كل من عبد الله العروي وهشام جعيط، حيث أبرز العروي في العديد من أعماله أنه لا يمكن أن ننظر إلى الذات العربية كهوية دائرية مغلقة ومكتملة. إنها ذات مفتوحة على أزمنة لا حصر لها، وهي اليوم مفتوحة في معارك أزمنتها الجديدة، المتمثلة في مظاهر تأخرها التاريخي وعوائق نهضتها المحاصرة، على ضرورة الانخراط في عمليات إعادة تركيب ذاتها بأشكال وصور متعددة. وفي ضوء ما سبق، يعتبر العروي أن العرب لن يتمكنوا من إعادة بناء ذاتهم، دون اتخاذ مواقف واضحة من التراث والتاريخ واللغة، مواقف تستند إلى أوليات الفكر التاريخي، وذلك بإعادة تأسيسها في ضوء معطيات ومكاسب الحضارة السائدة، أي مكاسب الفكر والتاريخ المعاصرين.
يقترب المفكِّر التونسي بدوره من موضوع الهوية من زاوية نقده للتصوُّرات السلفية للتاريخ، وهو يرفض المنظور الغوغائي لحركات الإسلام السياسي، لكنه يحفظ للإسلام وللذاكرة الإسلامية في تاريخنا امتياز التعبير العميق عن جوانب من مكونات ومكنونات ذاتنا التاريخية، ومساعينا الرامية إلى تعقٌّل ذواتنا في التاريخ. إنه يقبل، مثل العروي، مكاسب معركة حضور المقدس في التاريخ، التاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر، بحكم وحدة المصير الإنساني، لكنه لا ينسى في الوقت نفسه، أن المقدس ما زال يشكل جزءاً من التاريخ الرمزي والثقافي والوجودي لإنسانية تواصل اليوم التفكير في مصيرها، ولهذا السبب تكشف نصوصه عن دفاع قوي عن العلمنة في صيغتها الحاصلة في التاريخ الذي تحقق بجوارنا في أوروبا، وفي مناطق أخرى من العالم. لكنه ينظر بعين تقدير خاصة إلى لظاهرة الإسلامية في التاريخ، باعتبارها مكوِّناً وجدانياً من مكوِّنات الذاكرة العربية الإسلامية.
ولأن نصوص جعيط لا تتجه للتفكير في الهوية في دائرة التفكير في التأخر التاريخي العربي من زاوية نظر سياسية خالصة، فإنه لا يكتفي مثل العروي ببناء اقتراحات وتقديم حلول عملية في موضوع البحث في سبل تجاوز مظاهر التأخر وتبعاته، بل إنه يتوخى في أعماله أيضاً، تركيب تصوُّرات تتداخل فيها لغات متعددة، تصورات تستحضر المآزق والتوترات التي تملأ حياتنا.
لا يترتب على هذا التحليل بالضرورة، وعلى المواقف التي تترجمها جهود وأعمال المفكريْن
نخلص من التحليل السابق، أن التوصيفات المتداولة في موضوع الهوية وصور توظيفها، لا تعبر تماماً عن طبيعة التحوُّلات الجارية في مجتمعاتنا. إنها لا تسمح ببلورة التصورات المساعدة على فهم وتجاوز الإشكالات التي يطرحها الصراع الدائر داخل مجتمعاتنا، بين المحافظين وبين دعاة التحديث والانفتاح على مكاسب عصرنا. ونحن نتصوَّر أن تجاوُز حروب الهوية داخل مجتمعنا، يقتضي ضرورة البحث عن الجوامع المشتركة في الدولة والمجتمع والتاريخ، ولا يحصل ذلك إلاَّ بتنمية الوعي بمزايا المواطنة في المجتمع الديمقراطي، المجتمع الجديد الذي نتطلع إليه، والذي يترجم إرادة توافق الخيارات وتقاسُم المشترك، وهي الارادة الكفيلة بإبعاد مجتمعاتنا عن عصبيات التناحر الهوياتي والطائفي.