}

"خط في الرمال": التاريخ والوثائق بين يدي ترجمة بدائية

صقر أبو فخر صقر أبو فخر 24 يونيو 2019
في منتصف سبعينيات القرن المنصرم نحت المفكر التونسي الراحل العفيف الأخضر كلمة "الطربشة" تجريحاً ببعض ترجمات المفكر السوري الألمعي جورج طرابيشي، والتي أخذ عليه فيها عدم الدقة. والنطق الجزائري يخلط، صوتياً، التاء بالطاء، فيقول الجزائريون "طاكسي" بدلاً من تاكسي. واليوم، سأستعير من اللسان الجزائري كلمة "الطرجمة" لأشير إلى كتاب "خط في الرمال" للباحث جيمس بار (بيروت: دار الساقي، 2018، ترجمة ماريا الدويهي) الذي تحوّل علي يدي "المطرجمة" إلى ثوب مهلهل، فلا هو يشبه الأصل، ولا هو يخجل مما اعتوره من اهتراء، علماً أن الكتاب نفسه سبق أن ترجمته سلافة الماغوط، وصدر عن دار الحكمة في لندن في سنة 2016 بترجمة أفضل بكثير من هذه الترجمة الشوهاء.
والكتاب، في الأساس، بحث تاريخي معمق في السياسات البريطانية والفرنسية التي عبثت بالمشرق العربي منذ سنة 1915 فصاعداً، وهو يركز في فصوله على اتفاقية سايكس – بيكو ودور الجنرال أللنبي ولورنس في جعل هذه المنطقة ملعباً لخيولهما ومصالحهما المتنافسة. ويسترسل الكاتب في الحديث عن الموصل وثورة العشرين في العراق، وثورة جبل الدروز في سنة 1925، وعن خطوط جر النفط من شمال العراق إلى ميناءي حيفا وطرطوس. ثم يتوسع في الكلام على الحرب السرية الشرسة التي دارت بين البريطانيين والفرنسيين إبان الحرب العالمية الأولى، والتي جاءت محصلتها تقسيماً للمشرق العربي على النحو المعروف. والكتاب شديد الأهمية التاريخية لأنه يكشف عن أمور لم تكن معروفة سابقاً، ولا سيما الدعم الذي تلقته المجموعات اليهودية المتطرفة في فلسطين مثل "شتيرن" و"الهاغاناه" لمقاتلة البريطانيين وإفشال خططهم. ويفصح الكتاب عن أن المسؤولين الفرنسيين في سورية ولبنان كانوا يبيعون "الهاغاناه" الأسلحة سراً (ص7)، وأن ضابط المخابرات الفرنسي العقيد أليساندري كان يزود منظمتي "شتيرن" و"الهاغاناه" بالسلاح للقضاء على فكرة سورية الكبرى التي كان الهاشميون
يدعون إليها برضا بريطاني. ويزيح المؤلف اللثام عن أن دعم اللورد موين مشروع سورية الكبرى هو الذي حدد مصيره القاتم (ص334). وكان اللورد موين اغتيل في القاهرة في 6/11/1944، وتبين أن إلياهو بيتسوري هو الذي اغتاله انتقاماً لمقتل أبراهام شتيرن على يدي البريطاني جيفري مورتون في سنة 1942. ويعيد الكاتب التذكير بأن صفقة الأسلحة التشيكية التي عقدتها الهاغاناه مع تشيكوسلوفاكيا في سنة 1948، شُحنت من تشيكوسلوفاكيا إلى فرنسا، ثم إلى فلسطين بموافقة الحكومة الفرنسية. ويخلص الكاتب إلى "أن الفرنسيين لعبوا دوراً أساسياً في إنشاء دولة إسرائيل عبر مساعدة اليهود على تنظيم هجرة واسعة النطاق، وتقويض الإرهاب [يقصد أعمال المقاومة الفلسطينية آنذاك]، ما أدى في النهاية إلى إغراق الانتداب البريطاني المفلس عام 1948" (ص10). غير أن الكتاب، بترجمته العربية، مغمور بالضحالة في كثير من فصوله وصفحاته، وتعتوره الأغلاط التي لا تثير إلا الامتعاض، وهاكم بعضها.

في الأَعلام
القائد الدرزي حسين الأطرش (ص57)، والصحيح: حسن الأطرش. وحقي بك العزم (ص150 و153)، والصحيح: حقي بك العظم. وعلى منواله خالد العزم (ص350 و351). وعائلة العظم إحدى أشهر العائلات السورية إلا عند المترجمة، لذلك لم تتورع عن كتابة "قصر العزم" (ص163). وقصر العظم، كما هو معروف، من أبرز المعالم العمرانية في دمشق القديمة. ويرد أحمد مراود (ص151 و172)، وهو أحمد مريود المشهور جداً في تاريخ سورية ولبنان في أثناء الانتداب الفرنسي. وقد وصل الجهل إلى ذروته حين أوردت المترجمة كلمة "الحكيم" للإشارة إلى المرجع الإلهي المقدس عند الدروز (ص156). والصحيح هو الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي السادس. وورد أيضاً اسم "الدرازي" الداعية الذي ينتسب الدروز إليه. والصحيح: الدَرَزي. أما الدرازي نسبة إلى مدينة دراز في البحرين فهي مشهورة في التاريخ الوسيط كمدينة شيعية يتخرج فيها رجال الدين على غرار النجف وقم.
في الصفحة 158 يرد الإسم غي ساليسبور. وفي الصفحة نفسها يرد بصورة أخرى: سالزبوري جونز. وفي الصفحة 165 عاد بهيئة غي سالزبوري جونز وهو الصحيح. وقرأنا موريس جاملين في الصفحات 161 و163 و166 و170 و173 و177، وهو موريس غاملان وليس جاملين. ولمزيد من الطرجمة طرجمت المترجمة أن فوزي القاوقجي هو دركي سوري، ولعلها لا تعرف أنه ضابط كبير وقائد ثورة حماة في سنة 1925، وقائد جيش الإنقاذ في فلسطين، وليس دركياً (ص161).
من أغرب ما قد نعثر عليه في هذا الكتاب من سقطات مروّعة في الترجمة ما يلي: "أُعلن سلطان الأطرش ملكاً على سورية" (ص162). والحقيقة البسيطة التي يعرفها مَن له أقل دراية بتاريخ بلاد الشام أن سلطان الأطرش لم يعلن ملكاً على سورية البتة. ربما تقصد الملك

فيصل الأول الذي أُعلن بالفعل ملكاً دستورياً على سورية في 7/3/1920. لكن سياق الكلام يشير إلى سلطان الأطرش الذي صار في سنة 1925 قائداً عاماً للثورة السورية الكبرى ضد الانتداب الفرنسي وليس ملكاً على سورية. ويرد في الصفحة 209 اسم "نبية الأسمح". وقد حِرنا في شأن هذا الاسم الغريب لنكتشف بعد لأي أنه نبيه العظمة Azmeh، وهو علم بارز من أعلام النضال الوطني في سورية وفلسطين. لكن المطرجمة أبت إلا أن تحول اسم عائلته من العظمة إلى الأسمح، وجعلت "الييشوف"، أي الجماعات اليهودية في فلسطين قبل سنة 1948، "اليشوب" (ص223 و367). وعلى هذا المنوال العجيب من عدم المعرفة صار رشيد عالي الكيلاني قائد ثورة مايس 1941 في العراق "رشيد علي الجيلاني" تارة (ص243 و244)، و"راشد علي جيلاني" طوراً (ص292). أما تاج الدين الحسني، الرئيس السوري الذي اشتُهر بالشيخ تاج، فقد بات اسمه "تاج الدين الحساني" (ص 274)، وروبير مزراحي غيّر اسمه إلى "روبرت مسراهي" (ص392). وعلى هذا القياس من عدم المعرفة قِس.

في الأماكن
وردت كلمة "سيليكيا" في الصفحة 115، والصحيح: كيليكيا، فتخيلوا! وورد وادي يزرعيل (ص220) وهو التسمية العبرية لمرج ابن عامر. وقرأنا "جسر الملك ألنبي" (ص424). ما شاء الله. متى صار أللنبي ملكاً؟ إنه جسر الجنرال أللنبي، وليس "الملك ألنبي" كما طرجمته المطرجمة. أما مصدر هذه "اللخبطة" فهو أن جسر الجنرال أللنبي هو نفسه جسر الملك حسين، وقد خلطت المترجمة بين الإسمين وجاءت الخلطة على ذلك النحو. وقد استخدمت المترجمة كلمات مثل صوما ليلاند (143) وراينلاند (ص201 و217) وسوديتنلاند (ص 225) ووادي البقاع (ص115 و116) وعين هارود (ص220) وشارع دافيد في القدس (224) و "حي قرية العفولة" (ص192). فما ضرها لو استخدمت "أرض الصومال" بدلاً من صوماليلاند، وإقليم الراين بدلاً من راينلاند، وإقليم السوديت بدلاً من سوديتنلاند، وسهل البقاع حتى لو كان في الأصل Bekaa valley، وعين حارود لا عين هارود، وشارع الملك داود وليس شارع دافيد، وقرية العفولة لأن العفولة قرية وليست حياً. وكيف تكون القرية حياً في أي حال؟

أغلاط متمادية
لويد جورج ليس "وزير الذخائر" (ص19) بل وزير العتاد الحربي، وشتان ما بين الذخائر والعتاد بحسب العلم العسكري. وتترجم المترجمة كلمة "مخبرون" تبع جورج بيكو (ص30)، أي جواسيسه، بكلمة "مراسلون" إما جهلاً أو تخفيفاً أو لأغراض أيديولوجية تاريخية لبنانية. وردت في الصفحات 67 و68 و69 و70 عبارة "جنود الجوركا" من دون أي إيضاح لها. وعلمنا أنها تُلفظ "غورخا"، وهي تُطلق على الجنود النيباليين في القوات الخاصة الإنكليزية الذين اشتُهروا بالشراسة في القتال. وفي الصفحة 68 أوردت المترجمة مقطعاً من إعلان بلفور، وتبين أنها عمدت إلى ترجمته مجدداً بدلاً من أن تستخدم الترجمة الرسمية، فجاءت ترجمتها "عاطلة". وعلى سبيل المثال جاء في النص الرسمي للإعلان: "إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين". وهذه العبارة صارت على يدي المترجمة: "تؤيد حكومة صاحب الجلالة إقامة موطن للشعب اليهودي في فلسطين". وفي الصفحة 119 و134 و196 و197 وردت عبارة "المهرجان الإسلامي للنبي موسى"، والصحيح: موسم النبي موسى، وهو واحد من مواسم دورية مثل موسم النبي روبين وموسم النبي صموئيل. وفي جملة قصيرة ارتكبت المؤلفة ثلاثة أغلاط كالتالي: "قسّم غورو سورية إلى أربع محافظات منفصلة (...) وأُرغم الفرنسيون على إعادة دمج ثلاث من الولايات الأربع" (ص152). تارة تستعمل محافظة، وتارة ولاية، والصحيح "دولة". والدول الأربع هي دولة دمشق ودولة حلب ودولة العلويين ودولة جبل الدروز. وفي الصفحة 155 ورد أن الدروز عاشوا في جبل الدروز "لأكثر من ستين سنة"، والصحيح: أكثر من مئة

وستين سنة، ويبدو أن كلمة مئة سقطت في أثناء الترجمة، أو أنها غلط في الأصل، فكان على المترجمة في هذه الحال أن تفرد هامشاً لتصحيح ذلك. وفي الصفحة 198 نقرأ ما يلي: في تشرين الثاني/ نوفمبر 1935 قُتل داعية سوري متحمس يدعى الشيخ عز الدين القسام في تلال الجليل. وهذا غلط، فقد استشهد القسام في أحراج يعبد في منطقة جنين وليس في الجليل. وهناك شخص يطلق على نفسه "اليد السوداء الملطخة بالدم" (ص210). وهذا ليس شخصاً، بل اسم لعصابة "الكف الأسود". ويحفل الكتاب بعشرات الأغلاط من هذا الطراز، فقوات فرنسا الحرة، أي الديغوليين، ترد تارة "الجبهة الفرنسية الحرة" (ص241)، وتارة "الفرنسيون الأحرار" (ص245 و264 و253)، أو "قوات الفرنسيين الأحرار" (ص244 و249) تارة ثالثة. والهستدروت لدى المترجمة هو "منظمة العمل الصهيونية اليسارية" (ص282)، بينما الصيغة الصحيحة "اتحاد العمال اليهود في أرض إسرائيل". و "الياس ساسون هو الخبير الأساسي لدى الوكالة لشؤون العالم العربي" (ص416). أولاً، اسمه المشهور إلياهو ساسون حتى لو كان هناك وشيجة بين إلياهو وإيلي. ثانياً، هو رئيس الدائرة العربية في الوكالة اليهودية. وفي الصفحة 427 وردت الجملة التالية: تطوع التونسي إلى تقديم خدماته للمخابرات البريطانية. لكن، مَن هو التونسي هذا؟ لقد تبين أنه يدعى أرنست ألتونيان، وهو طبيب أرمني حلبي عمل مع المخابرات العسكرية البريطانية في سورية. وهكذا صار ألتونيان التونسي.

كلام مضطرب
قرأنا في هذا الكتاب المترجم "طيار إعصار" (ص252) و"صحافي قيادي" (ص253)، ولم نستسغ العبارتين. وتبين لنا أن الأول طيار في فرقة الصاعقة Storm وليس طيار

إعصار. والثاني صحافي مسؤول، أو ذو مكانة رفيعة. وعلى هذا الغرار فشت في هذا الكتاب عبارات "ملووقة" مثل: اليهود يتسرعون جداً في إطلاق النار على ذخائرهم (ص219). ولم نفهم كيف يطلقون النار على ذخائرهم. هل المقصود يستهلكونها بسرعة مثلاً؟ وورد أن انفجاراً وقع على السفينة باتريا فتدحرجت على جانبها (ص307). تدحرجت على جانبها أم جنحت أم مالت؟ وفي الصفحة 309 وردت العبارة التالية: "لن يكن لي ساكن إلى أن أسقط في المعركة". أولاً، لماذا جزمت المترجمة أو المحرر كلمة يكون فصارت "لن يكن"؟ ثانياً، يمكن ترجمة العبارة هكذا ببساطة: "لن يهدأ لي بال حتى أُستشهد أو أسقط في المعركة".
جميع تلك الأغلاط، وهي مجرد أمثلة لأغلاط أخرى كثيرة، ستنتقل حكماً إلى فهرس الكتاب الذي بدوره سيزيد أغلاط الفهرسة وبالاً على وبال. مثل فهرسة أتاتورك. إن أتاتورك (أبو الأتراك) لقب وليس من أصل الاسم. لذلك لا يجوز فهرسة مصطفى كمال على أنه مصطفى كمال أتاتورك، بل يوضع أتاتورك بين قوسين. وعلى هذا النحو فَهرَسَ المفهرس داماد أحمد نامي بك باعتباره إسماً متصلاً. والداماد (أي صهر السلطان) وبك لقبان وليسا من أصل الاسم. فيُفهرس في هذه الحال هكذا: نامي، أحمد بلا أي إضافة، مثل أتاتورك الذي يجب أن يُفهرس هكذا: كمال، مصطفى (أتاتورك). ومن طرائف الفهرس ما يلي: في الصفحة 203 وردت الجملة التالية: "حظي كل من فوزي القاوقجي وثائر مشهور آخر يدعى محمد الأشمر باستقبال حماسي". فعمد المفهرس إلى فهرسة عبارة "ثائر مشهور" وقلبها ووضعها في الفهرس هكذا: مشهور، ثائر. فيا للعجب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.