}

موجات فلسفية جديدة في الفكر المغربي

كمال عبد اللطيف كمال عبد اللطيف 18 يونيو 2019
آراء موجات فلسفية جديدة في الفكر المغربي
(Getty)
(1)

نستعمل في هذه المقالة مفهوم الموجة للإشارة إلى النزعات السائدة اليوم في فكرنا الفلسفي، وذلك لتراجع مفهوم المدرسة والاتجاه والمذهب في الفكر الفلسفي المعاصر، ولأننا لا نستطيع الحديث بعد الفلسفة الوجودية، عن مذاهب فلسفية بالمعنى التقليدي للكلمة. فقد اختفت في الفلسفة المعاصرة المذاهب والعقائد والعائلات الفكرية التي شكلت تيارات الفكر الفلسفي في الفلسفة القديمة والحديثة، بحكم أن الثورات العلمية والمعرفية المتواصلة بوتائر سريعة ومتداخلة في عالمنا المعاصر، تمارس عمليات تقويض متواصلة لنظام تَشَكُّل الأفكار في قوالب محددة ومغلقة. كما أننا نستعمل مفهوم الموجة لنستلهم منه نوعية العلاقة القائمة بين الموج والبحر والرمل (يابسة الشاطئ)، ونقصد بذلك علاقة المد بالجزر، حيث تعكس حركة التموج الحاصلة في الفكر الفلسفي المغربي اليوم، كثيرا من مظاهر المد والجزر داخل تيارات الماء في الموجة الواحدة، وفي إطار الحركة العامة للموج في البحر.
يوحي استعمال مفهوم الموجة والموج في موضوع تحولات الفكر الفلسفي في فكرنا المعاصر، بآلية رجع الصدى، لكن الرجع في الإيحاء المقرون باستعمالنا، لا يعبر عن حركة الحضور التابع لأصل مكتمل. فالموج كما نتصور أصل داخل الأصل، والماء في الموج وقد لامس اليابس، هو الماء نفسه وهو يعانق الماء في الموج الحاصل في أعالي البحار.
إن الرجع الحاصل في فكرنا الفلسفي، يتضمن مفهوم القراءة بالمعنى المنتج لهذا المفهوم، أي بالمعنى الذي يمنح القارئ إمكانية إعادة البناء باستدعاء المكونات والمرجعيات الخاصة، وخاصة في مستوى لغة التلقي الناقلة لمضمون الرجع، اللغة التي تمنح الصدى حضوره النصي الجديد. كما أن الرجع يكون في عمليات تحويل معطيات الموجة النظرية والمنهجية إلى أدوات ووسائل مساعدة على تعميق النظر وتطويره، وتنويع الآفاق التي رسمت له لحظة تأسيسه، حيث يصبح الصدى لغة مطورة لصوت معين، وهو الأمر الذي يمنح الرجع صفته المرجعية في لحظة معينة، صفة الصوت الأول في السياق الجديد. ويمنح الصوت الأول صفة الرجع في معادلة إعادة التأسيس بالتأويل والاستيعاب والتجاوز.
إن أشكال التلقي الحاصلة في لغتنا وفكرنا لمفاهيم الفلسفة المعاصرة، تمارس تحولات كيفية على أنماطنا في التفكير والنظر، وضمن هذا نشير إلى أنه لا علاقة للموج ورجع الصدى بأحكام القيمة المعتادة في هذا الباب، من قبيل النسخ والاستعارة والنقل والترجمة وخيانة الأصول. فنحن نعتقد أن الانخراط في تعلم دروس الفلسفة المعاصرة، وسط سقف العقائد الكابح والمقيد للفكر في ثقافتنا ومجتمعنا، يعد في حد ذاته ثورة فعلية على أعباء التاريخ المكبلة للعقول والمخيلات. إن العناية بموجات الفلسفة المعاصرة في فكرنا، يمنحنا إمكانية تعويد الذات على مصاحبة الأفكار القوية في التاريخ. ولعله يتيح لنا بلغة هشام جعيط أن

نمارس التقليد الأكبر المباح في التاريخ، التقليد المغامر بالتعلم من تجارب سابقة ورائدة، تجارب تَخُصُّ الذين ينتجونها، وتخصنا أيضا كمنتجين لها بالقوة وذلك في انتظار إنتاجها بالفعل.
نتحدث هنا أيضاً عن الموج بإيحاءات المحو، حيث تمحو الموجة في الشاطئ إيقاع الموج السابق عليها، كما تمحو آثار العابرين دون أن تلغيها. وهذه المسألة واضحة في الموجة الفكرية، وذلك لأنها تُعَمِّرُ زمنا أطول من زمن الموجة المائية، زمن حركة الماء والرذاذ والرمل والزبد، وحركة الأرض وهي تدور دون أن نراها كذلك، كما أنها حركة أحوال الطقس، أحوال السياقات المثقلة بطبقات من الأفكار والأحكام التي نجد صعوبة في زحزحتها، كما نجد صعوبات أخرى في تركيب بدائلها.
لا يعني هذا أن المحو مطلق في حركة الموج، فمن الموج ما يستقر مشكلاً الأرضية المائية، التي يطفو فوقها الموج، وبعض ما في الموج من محمولات الرمل، يستقر بناء على قوانين الجاذبية وقوانين الحركة. ويحصل الأمر نفسه في مجال الموجات الفكرية، حيث تختفي الموجات وتظل منها بواق في الموجات اللاحقة، البواقي التي تستثمر بصيغ أخرى لتتمكن من مواصلة حضورها الفاعل والمخصب لموجات أخرى قادمة، أو مرتقبة القدوم من رحم الفكر والتاريخ.
لم نلجأ إلى الاستعارة السابقة لنبتعد عن التفكير في أنماط تلقي الفكر الفلسفي في ثقافتنا لرصيد الفلسفة المعاصرة ومآثرها في تقوية وإغناء القول الفلسفي، بل إننا لجأنا إلى الصورة السابقة قصد التوضيح بالتمثيل، وذلك لأننا نعتقد أن هذه الوسيلة تمكننا أحيانا أكثر من المواجهة التقريرية المباشرة، من بناء ما يمكّن من إدراكٍ أَفْضَلَ للتحولات التي لحقت مجال الفكر الفلسفي المغربي في العقود الأخيرة. فقد تعددت الموجات الفكرية التي غطت سواحل الفكر في ثقافتنا ووعينا المعاصرين، واستوعبت الواحدة منها الأخرى في جدل فكري ساهم في إغناء وتطوير وإعادة بناء كثير من قضايانا الفلسفية، وكثير من قضايا تاريخ الفلسفة. أما مفاهيم النقل والترجمة ومفاهيم المحو والتجاوز والأصل والصدى، فإنها قد اتخذت دلالات متعددة في موضوع رسمها لنوعيات علاقة هذا الفكر بمنجزات تاريخ الفلسفة المعاصرة.
نحن نعي جيداً أن صور التأثير لا تكون دائماً واضحة، وهذا الأمر يعكس بطريقة أو بأخرى شكل الماء في الموجة. فنحن لا نستطيع أن نميز في رذاذ الموج المتطاير بين الماء الأصلي والماء الذي يتخلل الماء، ولعل الجامع بين ماء الموجة والماء هو حركة الماء الممتدة من أعالي البحار والمحيطات وماء السواحل وقد غار بعضه في الرمال. إن ما يميز لحظة تلقي الفكر المغربي لدروس الفلسفة المعاصرة ومكاسبها، هو المساعي العديدة الرامية إلى الانخراط بصورة أعمق في تاريخ الفلسفة، حيث سيعرف المجال الفلسفي المغربي مستجدات معبرة عن نوعيات العلاقة الجديدة، التي تتجه هذه اللحظة لإنشائها مع تاريخ الفلسفة.

(2)

إذا كان الفكر الفلسفي المغربي قد تعرف في عقدي الستينيات والسبعينات على الفلسفة الشخصانية والفلسفة الماركسية والنزعة التاريخانية، وذلك استجابة لشروط لا مجال هنا لتفصيل القول فيها، فإنه ابتداء من الثمانينيات، بدأ ينفتح بصورة أكبر على مختلف منتوجات تاريخ الفلسفة المعاصرة. بل مختلف القطاعات المعرفية التي تندرج ضمن دائرة التاريخ المذكور. فقد ظهرت سلسلة من الترجمات والأبحاث والكتب، معبرة عن درجة التواصل التي بدأ يُقيمها فكرنا الفلسفي مع موجات الفلسفة المعاصرة، مع نصوصها وإشكالاتها ومفاهيمها وطرائقها في إنتاج الخطاب الفلسفي.
وهنا نستطيع أن نقول إن المأزق الذي عرفه الفكر الفلسفي المعاصر، في موضوع التحولات التي لحقت البحث الفلسفي بعد ثورة العلوم الإنسانية، قد انعكس بدوره على الممارسة الفلسفية عند المشتغلين بالفلسفة في بلادنا. وقد يكون هذا الأمر هو الذي يقف وراء تبلور مباحث البحث الإبستمولوجي، ومباحث الحفريات البنيوية في المفاهيم، وكذا الأبحاث النقدية الجديدة، التي

تبلورت في النزعات الفلسفية العدمية، ونزعات التفكيك والتقويض، التي وَظَّفَت بعض مناهج العلوم الإنسانية لبناء تصورات فلسفية جديدة في موضوعات جديدة.
وإذا كنا نعتبر أن النزعات الفلسفية التاريخية والسياسية، قد وجهت بصورة عامة الاختبارات الفلسفية الكبرى في فكرنا المعاصر، فإن الموجات الفلسفية الجديدة، التي عمل الجيل الثاني من المؤسسين للكتابة الفلسفية على إيجاد نوع من الألفة معها، ومع لغاتها ومفاهيمها، قد ضيق من مساحة حضور المنزع التاريخي، لمصلحة عناية أكبر بالخطاب الميتافيزيقي وآليات المقاربة البنيوية، التي اتجهت لإبراز أهمية البنيات المعقدة والمركبة للظواهر داخل الزمان، وداخل أنساقها الخطابية وأنظمتها في القول والكتابة، هذه الأنساق الأنظمة التي أصبح من المؤكد أنها تؤثر بدورها على المعاني، وعلى عمليات إنتاجها النظرية والتاريخية.
نُواجه اليوم في  فكرنا الفلسفي عملية تدشين لمسار جديد، مسار يمكن أن يثمر في غضون العقود القادمة من القرن الواحد والعشرين، ما يسمح ببناء معطيات جديدة تمكننا متى ما تحققت، من معرفة الكيفيات التي اشتغل بواسطتها فكرنا الفلسفي، لحظة اكتشافه لهذه الموجات الفكرية الجديدة  وانخراطه في إعادة إنتاجها.
تتضح صورة الملامح العامة للموجات الفلسفية، التي انتقلت إلى فكرنا المعاصر في الجهود التي بذلت في الفلسفة المعاصرة، وهي تتضح بجلاء في نوعية الترجمات والأطروحات والمصنفات، التي أنتج كل من محمد سبيلا، وسالم يفوت، وعبد السلام بنعبد العالي، ومحمد وقيدي وعبدالرزاق الدواي، فقد انخرط هؤلاء جميعا في ثمانينيات القرن الماضي وتلاهم بعد ذلك، جيل جديد من طلبتهم وبدرجات متفاوتة، في كم الإنتاج ونوعه، في إنجاز أبحاث جديدة، تناولوا فيها بعض قضايا ومفاهيم وإشكالات الفلسفة المعاصرة. ونجد في آثار من أشرنا إلى البعض منهم علامات دالة على موجات فكرية، بعضها عابر وبعضها الآخر يحضر ويختفي، وإنني أريد الإشارة هنا بالذات، إلى عنايتهم بنصوص ألتوسير وليفي ستروس، وكذا عنايتهم بميشيل فوكو ودريدا ثم اهتمامهم المتواصل بنيتشه وهايدغر ودولوز.
تتيح الجهود المتواصلة لمجموع المساهمين في التعلم من مكاسب الفلسفة المعاصرة، سواء من جيل الرواد المؤسسين أو من الأجيال التي واصلت مهمة الانخراط في التمرس بترجمة واستيعاب مفاهيم الفلسفة المعاصرة، تتيح لنا جهود الجميع إدراك نوعية الإقدام الفكري الذين يقومون به وهم ينخرطون في إنتاج مقالات تعنى بمضامين هذه الفلسفات، أو تتجه لتركيب مفاهيمها ومرجعيتها وطرائقها في النظر الفلسفي. فقد ترجم محمد سبيلا، خلال عقد السبعينيات، بعض نصوص ألتوسير (مجموعة من مقالات كتاب ألتوسير "لينين والفلسفة") ونشر سالم يفوت، خلال العقد نفسه، جزءا من أطروحته الأولى التي اعتنى فيها بنقد بنيوية ليفي ستروس، أثناء تركيبه لمفهوم الواقع في الفكر العلمي المعاصر (1979). ونشر محمد وقيدي أطروحته حول "فلسفة المعرفة عند غاستون باشلار" (1980)، كما نشر بنعبد العالي بعد ذلك أطروحته في موضوع "أسس الفكر الفلسفي المعاصر" (1991)، ونشر عبدالرازق الداوي أطروحته في موضوع "موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر"

(1992).
وهذا يضاف إلى الترجمات العديدة التي أنجز محمد سبيلا وسالم يفوت وعبد السلام بنعبد العالي، حيث نشر الأول "نظام الخطاب" لميشيل فوكو (1984)، ونشر الثاني المدخل الذي كتب جيل دولوز لقراءة فكر ميشيل فوكو، وعنوانه "المعرفة والسلطة" (1987)، وترجم الثالث مجموعة من الكتب والمقالات من بينها الدرسان الافتتاحيان اللذان ألقاهما كل بورديو وبارت في الكوليج دوفرانس، وجاء عنواناهما بالتتابع الآتي: "الرمز والسلطة" لبورديو (1986)، و"درس السيميولوجيا" لبارت (1993)، كما ترجم بتعاون مع الأستاذ أحمد السطاتي كتاب "جينيالوجيا المعرفة" لميشيل فوكو (1988).
تنجز هذه الترجمات عمليات انفتاح قوية على لغة الفلسفة المعاصرة، وتقدم جهداً جديداً في توطين نماذج من الموجات والآثار الفلسفية الجديدة في فكرنا. ويمكن أن نضيف هنا أن النصوص المترجمة تتميز بطابعها المنهجي البارز، الأمر الذي يحولها إلى أدوات مساعدة على التفكير والفهم، وهو ما يتيح للثقافة المغربية كما بينَّا آنفاً فرصة معاينة آليات منهجية جديدة في الفكر والتفكير، آليات وأدوات نظرية يمكن الاستفادة منها في حقول ومجالات معرفية مختلفة، عن طريق الاستعارة والتوطين ثم التوظيف والبناء.
يترتب على ذلك أن درس الفلسفة في بلادنا، رغم مختلف أشكال الحصار المضروبة عليه، يحاول إنعاش الفكر المغربي بآليات في النظر حريصة على تمثل الروح النقدية، الملازمة للنظر الفلسفي في التاريخ، حيث واجه بعض الباحثين إشكالات المجتمع والثقافة في حاضرنا بطرق التفكير الجديدة المستفادة من دروس الفلسفة المعاصرة، وهو الأمر الذي يعني المساهمة في إبداع فكر فلسفي جديد، يعكس درجات تمثُّل فكرنا لمنجزات الفكر الفلسفي المعاصر.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.