}

في ضرورة ردّ الاعتبار للشفاهة

صهيب عبد الرحمن 17 يونيو 2019
آراء في ضرورة ردّ الاعتبار للشفاهة
(Getty)
غالباً ما يستدعي الحديث عن التقاليد الشفاهية في الأذهان صورة مجتمعات منزوية في قاع الأدغال، بعادات غريبة، وثياب فاقعة، وتطالعنا منذ البدء الدلالة القدحية لمفهوم الشفاهي، في مقابل مفهوم الكتابة، الذي يحمل في أذهاننا دلالة الحضارة والتطور، ولهذا يدعونا عالم اللسانيات الفرنسي لويس جان كالفي، ابتداءً، وفي سبيل إعادة الاعتبار إلى الثقافة الشفاهية، إلى رفض هذه النزعة الغرائبية المبتذلة، وهذه الرؤية المتلصصة التي لا تقبل الآخر إلا في غرابته وليس في اختلافه.
يقدم لويس كالفي، في كتابه "التقاليد الشفاهية: تاريخ وذاكرة"، قراءة مختلفة لمسألة الشفاهة، عامداً إلى الإحاطة بأبعادها المختلفة وتفكيك الكثير من الأوهام التي تُحيط بها، وهو يذكر أن مفهوم الجاهل أو الأميّ الذي تعرفه المعاجم بكونه الشخص (الذي لا يحسن القراءة ولا الكتابة) أضحى مفهوماً سلبياً وانتقاصياً في أذهاننا، وانطلاقاً من ذلك نشأ تقابل من جهة أولى بين المعرفة متمثلة في إجادة القراءة والكتابة، وبين الأشخاص الذين لا يمتلكون هذه المعرفة، أي الأميين الجاهلين، من جهة ثانية. وتتخذ هذه الرؤية السلبية معياراً اجتماعياً واضحاً عندما يتم الحديث عن نسبية الأمية، مما يوحي بوجود مجتمعات أغلب أفرادها لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، وبالتالي أغلبية جاهلة، بل وبدائية ومتوحشة.
إن ما يروم إليه كالفي من هذه القراءة، هو ضرورة القطع مع هذه المواقف التبسيطية الناجمة
عن هذه الرؤية الأيديولوجية البحتة للعلاقات القائمة بين المعرفة والكتابة، من خلال العودة إلى سياقات ظهور الكتابة، ومن خلال التأكيد على أن ثنائية الأمية والتمدرس لا يمكن طرحها إلا في إطار مجتمع ذي تقالد مكتوبة، دون أن يمنع هذا من وجود مجتمعات دون كتابة، ويظل فيها مفهوم الأمية مفهوماً مستورداً لا يحمل أي دلالة داخل ثقافتها المحلية.
فمن المعروف أن الكتابة ابتُكرت تاريخياً تلبية لحاجيات عملية لضبط حسابات العقود والقوانين (سواءً أكانت اكتشفت لدى السومريين أو في بلاد الصين)، وليس استجابة لحاجات أدبية، بيد أن غياب نظام الكتابة في مجتمع ما لم يعن قط غياب طُرق أخرى لحفظ الذاكرة الشعبية والأدبية، ومعرفة التقويم، والنظام العددي، والمرجعيات المكانية والزمانية، والمعتقدات والأساطير، والأغاني والموسيقى.. إلخ.
ويلاحظ كالفي، في معرض حديثه عن رواة التاريخ في المجتمعات ذات التقاليد الكتابية والمجتمعات ذات التقاليد الشفاهية، أن "الرواة سواءً في المجتمعات الشفوية أو الكتابية يقدمون أولاً الدليل على أن لهم الحق في الكلام، قبل أن يأخذوا الكلمة ويشرعوا في سرد التقاليد، كأنهم بذلك يبررون الصلاحيات التي يملكونها، وحالهم في ذلك حال الباحث الجامعي الغربي الذي يستند في أطروحته التاريخية إلى لائحة وافية من المراجع والمصادر. فكلاهما يشكل نمطاً معيناً من المتون، ويحيل على نمط محدد من المجتمعات".
وفي سياق المجتمعات التي عرفت الأبجدية مؤخراً، مثل المستعمرات السابقة في أفريقيا التي فُرضت عليها الأبجدية اللاتينية لتعتمدها في الكتابة، يميز لويس كالفي بدقة بين ابتكار الكتابة وبين أخذها عن الآخرين، ففي الحالة الأولى، يشكل اللقاء بين نظام الحركات والإيماءات أي اللغة، والنظام التصويري أي رسم الكتابة، تتويجاً لمسيرٍ طويلٍ من الاختمار والنضج، وفي الوقت نفسه استجابة لحاجة اجتماعية، فالكتابة لم تخترع تحقيقاً للذة مرتبطة بهذا الفعل، ولكن لوجود أشياء يتوجب تدوينها والمحافظة عليها على الحجر أو الورق. أما في حالة الاقتراض، فإنه يرى أن إقحام الكتابة في مجتمعات ذات تقاليد شفاهية هو فعل أقرب إلى الانقلاب وتترك نتائج سلبية.

مع مجيء الاستعمار
على سبيل المثال، جاءت لحظة إقحام الكتابة في المجتمعات الأفريقية جنوب الصحراء مع

مجيء الاستعمار، ولم تأت تتويجاً لمسار من التطور الداخلي لتلك المجتمعات، حيث كانت تلك المجتمعات تعتمد على التواصل الشفوي بدل التواصل الخطي، حتى في تلك التي لديها أنظمة كتابة، مثل المجتمع الصومالي الذي لم يستخدم الكتابة قبل فترة الاستعمار، لأسباب تتعلق بغياب فكرة الدولة نفسها، ومتعلقاتها من ضرائب وقوانين عامة ومراسلات خارجية، وبالتالي لم يشعروا بالحاجة إلى استخدام الكتابة بشكل رسمي، برغم شيوع عدة أبجديات كتابية مثل الفر- وداد والعثمانية والجدبورسية.
بالنسبة لكثير من المجتمعات المُستعَمرة، أتى اختيار نوع الأبجدية نفسه مفروضاً من الخارج، مستوحياً نموذجه من نمط تدوين إحدى اللغات الاستعمارية، وهكذا وجدت هذه المجتمعات ذات التقاليد الشفاهية نفسها إبان الاستقلال في مواجهة عمليات لمحو الأمية تسعى إلى إلصاق أبجديّ ما على الشفاهية، ملوّحة بالشعارات الرنانة.
وانصبّت عمليات محو الأمية تلك على خلق نظام تعليمي واجتماعي عمل النظام الاستعماري فيه على تهميش اللغات المحلية على مستويات الإدارة والتعليم، لصالح لغات المستعْمر مثل الفرنسية والإنكليزية، التي ظلت حاضرة بقوة حتى بعد الاستقلال، لكونها لغات مكتوبة مقابل اللغات المحلية الحديثة بالتدوين، ما جعل هذه الأخيرة محل ازدراء بسبب شفاهيتها.
وبما أن الكتابة أحد الأسلحة التي يوظفها الإنسان لاستغلال الآخرين، وإذا كانت الكتابة والخداع صنوين لا يفترقان كما عبّر عن ذلك عالم الاجتماع الفرنسي كلود ليفي شتراوس مؤلف "مدارات حزينة"، فلا يمكن تجاهل تأثير اللغة في ميزان القوى، وإن امتلاك الكتابة شكّل تاريخياً أحد أشكال السلطة، ولذا يغدو السؤال الأساسي في هذا السياق معرفة الكيفية التي يمكن بها للمجتمعات التي لا تمتلك الكتابة أن تكتسبها وتستخدمها.
وإذا ما نظرنا إلى الحالة الصومالية مرة أخرى، فإنه رغم استعمال اللغة الصومالية إبّان السنوات الأولى من التدوين الرسمي للغة الصومالية في مراكز محو الأمية، وفي إصدار بعض المنشورات البيداغوجية، ظلّ المشكل الأساس الذي نجم عن تثبيت الأبجدية الصومالية على نمط كتابي محدد، وتعليمها بعد ذلك للكبار، هو نشوء نظام مواز للنظام التعليمي تظل فيه الانكليزية لغة التعليم العالي، والابتعاث، والمناصب السياسية والإدارية.
ومن هنا يدعونا لويس كالفي إلى أن لا ننخدع بكون الآلاف من المجتمعات الشفاهية يمكنهم اليوم الكتابة بلغتهم، وإصدار بعض الكراسات، فأبناؤهم لن يمكن لهم متابعة دراستهم إلا

بالإنكليزية، هذا إن تمكنوا أصلاً من الاستفادة من التعليم. وبعبارة أخرى، فإن الغلبة تبقى دائما للغات الأوروبية الموروثة عن الحقبة الاستعمارية باعتبارها السبيل الوحيد للارتقاء الاجتماعي وللوصول الى السلطة، مما يجعل من عمليات محو الأمية شكلاً جديداً من أشكال ترسيخ الدونية والتهميش الاجتماعي.

إشكاليات التاريخ الشفوي
تحدث كالفي في فصل من فصول كتابه عن إشكاليات التاريخ الشفوي، ويلاحظ: رغم أن الشفوية باعتبارها طريقة في نقل الأخبار ليست جديدة، بل هي الطريقة الأولى والعفوية في نقل الأخبار وحفظ الذاكرة، والتي من خلالها بدأ التدوين التاريخي في الحضارات المكتوبة كلها، إلا أنه يُنظر إليها اليوم في أوساط الكتابة التاريخية على أنها غير أمينة، فيثير المؤرخ المعاصر إشكاليات متعددة حول مصدريتها في الكتابة التاريخية العلمية الحديثة والمعاصرة. وهي إشكاليات متعلقة بالذاكرة والتذكر في كتابة التاريخ المعتمد بشكل أساس على الشهادات الشفوية التي هي التعبير عن حالات التذكر لصور الذاكرة المعرضة كما يقول بول ريكور للاستعمال وسوء الاستعمال. ومن خلال ذلك تتعرض الذاكرة الشفاهية لاحتمالات العزل أو الطمس أو الإلغاء أو النسيان.
وهي احتمالات تلاحق اللغة الشفاهية نفسها، التي تنال نصيبها من التهميش والإلصاق بالدونية، ويصبح الأدب الذي تنتجه هذه اللغة أدبا شفهيا، "شديد البدائية"، في مقابل اللغات المهيمنة ذات الحظوة، وهو ما ينافح ضده بعض الكتاب الأفارقة، وفي صدارتهم واثيونغو، الذي تخلى عن الكتابة بالإنكليزية منذ السبعينيات وأخذ يكتب بلغة الكيكويو واللغة السواحلية، وأضحت منذ ذلك الوقت الكتابة باللغات الشفاهية الأفريقية موضوعا للنقاش في المؤتمرات الثقافية وفي المدارس

والجامعات، وأصبحت جزءا من النقاش الدائر حول مستقبل الأدب الأفريقي.
إن أهمية رد الاعتبار للشفاهة اليوم يعود تحديداً إلى الحاجة القصوى إلى إعادة التفكير في مفاهيم الشفاهة والكتابة انطلاقا من سؤال: هل وجود الكتابة أو انعدامها يسمح بالتمييز بين الحضارة والوحشية؟ وثمة حاجة ملحة لدراسة ما نجم عن عملية تدوين اللغات الشفاهية من إشكاليات تتمحور حول العلاقات ما بين السلطة واللغات والثقافات، إذ لا شك في أن اللغات الأوروبية غدت لغات مسيطرة في مواجهة اللغات الأفريقية، ولعل هذا هو قدر جزءٍ كبير من العالم، ولكن من شأن إعادة طرحها اليوم أن تقود تفكيرنا إلى مكانة أدب وذاكرة اللغات الشفاهية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.