}

أمجد ناصر ابن ذاته

زهير أبو شايب زهير أبو شايب 17 يونيو 2019
نلتقي في هذا المساء نحن أصدقاءَ أمجد ومحبّيه وقرّاءه وعشيرته الأقربين من الكتّاب والغاوين والمصابين بهوَس الثقافة، احتفاءً بشاعرٍ أسهم، كما لم يسهم شاعر آخر ربّما، في لفت الأنظار إلى خصوبة الساحة الإبداعيّة الأردنيّة وثرائها من خلال ما قدّم من نتاجات مهمّة في الشعر والرواية والسيرة وأدب الرحلة والمقالة الأدبيّة الرفيعة، ومن خلال حضوره الفاعل ومساهماته الغزيرة في مهرجانات وحراكات ثقافيّة على امتداد العالم العربيّ من مشرقه إلى مغربه، وفي مهرجانات دوليّة مرموقة خارج العالم العربيّ.
إنّه الشاعر العربيّ الأردنيّ أمجد ناصر، الّذي استطاع أن يشكّل إضافةً نوعيّة لا للمشهد الشعريّ الأردنيّ فحسب، بل للمشهد الشعريّ العربيّ برمّته، وأن يكون أحد أبرز شعراء الحداثة العرب، وأحد أهمّ المشتغلين الدائبين على قصيدة النثر العربيّة والمجدّدين في خطابها وجماليّاتها ومقترحاتها التعبيريّة.
ونحن إذ نحتفي بأمجد ناصر إنّما نحتفي بشاعر مغامرٍ كسر إطار محلّيّته الضيّق. لكنّه لم يغترب ولم ينفصل عنها، بل وسّعها وجعلها قادرةً على استيعاب الفضاءات الرحبة العربيّة والإنسانيّة، وما من قراءةٍ عميقة في شعر أمجد إلاّ وتحيل إلى تلك الجذور الأولى الحميمة الّتي استمدّ منها لغته المدبّبة ونبرته البدويّة وموضوعاته ومخياله الّذي ظلّ يتحسّس جسد العالم بشبقيّة عالية. والعجيب أنّ أمجد، الّذي لم يبحث لنفسه عن آباء محلّيّين، ولم ينظَر إليه إلاّ بوصفه شاعراً مضادّاً انشقاقيّا ثوريّا، وراعياً من رعاة العزلة لم يمتثل لقوانين الاجتماع والوراثة ولم تلده إلاّ ذاته المفردة، ظلّ يغريني منذ البداية بالربط بينه وبين عرار بشكل أو بآخر، على نحوٍ غير مألوف ومختلف تماماً عمّا فعله الّذين حاولوا الربط بين عرار وحبيب
الزيودي.
إنّ ربطي بين أمجد وعرار مبنيّ في الأساس لا على كون أمجد شبيهاً بعرار، بل على كون كلّ منهما أصلاً فريداً (مثيلاً) للآخر وليس (شبيهاً) له، ولذا فإنّ (خَلق) كلّ من الشاعرين متماثل. لكنّ ملامحهما مختلفة تماماً.
أهي صدفةٌ أن يغيّر كلّ منهما اسمه القديم كأنّما ليكون أباً لنفسه؟ وأن يغيّر كلّ منهما ما يتوارثه الشعراء عن آبائهم من تقاليد ورؤًى وزوايا نظر وإيقاعات وملامح أسلوبيّة؟ وأن يكون كلّ منهما انشقاقياً وثائراً على السلطة الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة؟ وأن تكون رؤية كلّ منهما للعالم رؤيةً شبقيّةً؟
إنّ هذا التماثل اللامرئيّ بين أمجد وعرار هو السرّ الذي يغويني للبحث عن صلة القربى بينهما بوصفهما شاعرين لا يتكرّران مع أنّهما خلقا من الطينة ذاتها، وبقوانين الخلق ذاتها.
ونحتفي كذلك بجيل السبعينات المهمّ الّذي انبثق فجأةً في الساحة الأردنيّة في أواسط سبعينات القرن العشرين كحقلٍ بهيج، واستمرّ حيّا حتّى يومنا هذا، والّذي امتاز على غيره من الأجيال اللاحقة بانغماسه الكليّ في السؤال الفلسطينيّ وفعل المقاومة وحلم التغيير والتحرير والتنوير، وقد كان أمجد ذلك الشاعر المفاجئ الّذي غادر البيت مبكّراً. لكنّه نقّل الأردنّ معه كما ينقّل فؤاده، ونشله من رواسبه البدويّة العميقة المنقوشة كالوشم على جدران روحه ولغته ووعيه إلى فضاء الحداثة المفتوح على الأفقين العربيّ والإنسانيّ.
وباحتفائنا بأمجد، إذاً، نحتفي بالمكان وبأنفسنا. نحتفي بالهامش الّذي ظلّت هذه الساحة تنتمي إليه وتناضل فيه ضدّ سلطة المتن، وتوسّع في مداه بكلّ تواضعٍ وصمتٍ لتلفت النظر إلى أنّ (الثقافة) لا يمكن أن تكون حكراً على المراكز الكبرى العريقة الّتي نكنّ لها كلّ احترامٍ وتقدير وإجلال، لأنّها ليست منطقة لنفي بعضنا عن بعض، بل هي بيتنا الجمعيّ الّذي نقيم فيه جميعاً، ونساهم كلّنا في بنائه وتوسيعه وتأثيثه وتنويره وتهويته وحراسته واستضافة العالم فيه.
نرجو كلّ الخير والعافية للصديق الغالي أمجد، ليستمرّ في إثراء الشعريّة العربيّة بكلّ ما هو جديد وأصيل.

(*) نصّ الكلمة الافتتاحية التي قُدِّمَت في الاحتفال التكريمي للشاعر أمجد ناصر في عمّان، مساء السبت 15/6/2019.

مقالات اخرى للكاتب

آراء
17 يونيو 2019
آراء
14 يونيو 2016
قراءات
26 أبريل 2016

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.