}

"ثورة الوعي": الحدود حين تتلاشى بين العالمين الافتراضي والواقعي

جهاد إبراهيم 23 مايو 2019
آراء "ثورة الوعي": الحدود حين تتلاشى بين العالمين الافتراضي والواقعي
مبرمجون يتفحصون بيانات على صورة ثلاثية الأبعاد (Getty)
تقليدياً، تم وصف المراحل المفصلية لتطور الحضارة البشرية بالثورات برغم كونها أساساً تغيرات متدرجة وتراكمية ومتداخلة. ويشمل هذا التوصيف عادة الثورة الزراعية، الثورة الصناعية، الثورة التقنية المعلوماتية (كما صنفها آلفين توفلر في كتابه "الموجة الثالثة" Third Wave)، ثم ما يتم وصفه اليوم بالثورة الصناعية الرابعة والتي تشمل التطور في تقنيات النانو والذكاء الاصطناعي والحواسيب الكميّة وغيرها. وهنا أود استقراء مراحل التطور الإنساني من منظور مختلف مرجعه التطور البشري المعرفي لا تجسيده المادي، وبشكل يعطي سياقا إنسانيا لهذه المراحل أو الثورات، ومن ثم محاولة استشراف وجهة هذا التطور ومحطاته القادمة.
في عالم الفكر كما في عالم المادة لا بد من توفر أداة أو مجموعة من الأدوات لتحقيق غاية ما، وفي كثير من الأحيان فإن استخدام هذه الأدوات يؤدي إلى ظهور غايات جديدة لم تكن أصلا في الحسبان الأمر الذي يستحث خلق أدوات جديدة وهكذا دواليك، وكذلك الأمر فإن بعض هذه الغايات تتحول إلى أدوات إدراكية لتحقيق غايات جديدة، ويبدو أن هذا الشكل الجدلي من العلاقة بين الأداة والغاية هو ما وجّه إلى حد كبير تاريخ تطور البشرية.
بناء على تحليل المؤلف يوفال هراري في كتابه "الإنسان العاقل" The Sapiens، فإن ما قدح زناد تطور البشرية الإدراكي ومن ثم الحضاري هو النشوء التطوري للخيال والذي مكّن الإنسان من تجاوز محدوديته في التواصل والتعاون من خلال خلق كيانات وهمية مختَلقة ينتمي لها مجموعة من الناس الذين لا يعرفون بالضرورة بعضهم لكنهم يعملون معا تحت ظل هذا الوهم الجمعيّ، وهو ما أسس لوجود المجتمعات والحضارات، وفي المقابل يرى رزا أصلان في كتابه "الله" God أن تطور الإنسان الروحي هو ما دفعه إلى الاستقرار حول المعابد وبالتالي حثه على تطوير الزراعة كي تخدم حاجته إلى الاستقرار، الأمر الذي شكل الخطوة الأولى في اتجاه التحضر (وهذا طرح يتناقض مع القناعة السائدة بأن الزراعة سبقت 
الاستقرار)، في حين رأى نوعام تشومسكي منذ كتابه الأول "الهياكل البنيوية" Syntactic Structures أن إنسانية الإنسان مرتبطة بوجود اللغة التي يعتبرها أداة التفكير والتخيل وشرطاً للتطور الإدراكي والحضاري، وهذا المفهوم ليس بعيدا عن الفكرة الدينية القائمة على أن الله قد علّم الإنسان الأسماء كلها (اللغة) لدى خلقه. وتشترك الطروحات السابقة في اعتبارها هذه السمات جزءا من بنية الدماغ ونقطة البداية لما يمكن تسميته بثورة الإدراك والتي يبدو أنها حصلت قبل ما بين خمسين ألف ومئة ألف سنة حين بدأ الجنس البشري بترك بصماته على الأرض وبدأ ظهور أشكال من التوثيق والفن والهياكل والطقوس تميز الإنسان عن غيره من الكائنات، وكان من أهم نتائج هذه الثورة أن مسار التطور الإنساني قد افترق عن باقي الكائنات ولم يعد محكوما فقط بعوامل جينية وراثية بل أصبح يوجهه الإدراك والثقافة والوعي، وبنفس الوقت فقد مهدت ثورة الإدراك الطريق للمرحلة التالية من مراحل التطور البشري ألا وهي ثورة المعرفة، وأطلقت تفاعلا متسلسلا أدى بشكل متسارع إلى خلق واقع جديد ووفر أدوات فكرية ومادية لتطويره.

ثورة المعرفة وثورة المعلومات
عادة ما يُستخدم مصطلحا ثورة المعرفة وثورة المعلومات في وصف واقعنا المعاصر، حيث ساهمت تقنيات الحوسبة والاتصالات في توفر كم هائل من المعارف والمعلومات (حسب قانون مور للمعلوماتية فإن المعلومات المتوفرة للبشرية أصبحت تتضاعف كل سنتين). ومن الضروري في هذا السياق أن نفرق بين مفهوم المعرفة والمعلومات، فالثانية تشير إلى تراكم بيانات صماء غير معالَجة بالضرورة، في حين تعني المعرفة معالجة البيانات والخروج منها بقواعد عامة بشكل مبني على المنهج الأرسطي في استخلاص النتائج من المقدمات. وسبب جمعهما هنا ضمن إطار واحد هو أن المعرفة تُبنى بشكل تدريجي من المعلومات، وبنفس الوقت تتحول المعرفة إلى معلومات (وهو ما يكافئ تحول النتائج المثبتة إلى مقدمات في المنطق الأرسطي). وربما كان استخدام هذه التقنيات هو ثالث مراحل تطور التواصل المعرفي بعد اختراع الكتابة والمطبعة لكنه بالتأكيد الأكثر فعالية، إلا أن البداية الحقيقية لثورة المعرفة كانت قبل أكثر من عشرة آلاف سنة حين اجتمعت قدرات الإنسان الإدراكية والظروف البيئية المناسبة في اعتماد الإنسان على الزراعة ومن ثم الاستقرار، وهو ما سمح بتوطين وتراكم

المعرفة وتبادلها واستخدامها، فأصبحت المستعمرات البشرية مستودعات للمعرفة التفاعلية كما يقول جارد دايموند في كتابه "الأسلحة والجراثيم والحديد" Guns, Germs, and Steel، وهو ما أدى في النهاية إلى ابتكار الكتابة التي اعتبرها دايموند المؤشر الأهم لتطور الحضارة، وبالتالي فإن الثورة الزراعية ليست سوى تطبيق عملي للمعرفة المتراكمة لدى الإنسان بأنواع النباتات والمواسم وطرق الري وغيرها. ومن ذات المنطلق يمكن الحديث عن الثورة الصناعية باعتبارها تطبيقا عمليا للمعرفة العلمية المتراكمة منذ بداية عصر النهضة الأوروبية مقرونة بمخرجات المنهج العلمي التجريبي، والحديث عن الثورة التقنية المعلوماتية كتطبيق عملي للمعرفة بقوانين المنطق الرياضي والفيزياء التقليدية، وبالتالي يمكن اعتبار هذه "الثورات" تجسيدا أو تطبيقا لثورة المعرفة التي بنيت على الإدراك من جهة والتفاعل مع معطيات الواقع وحاجاته من جهة أخرى، آخذين بعين الاعتبار التسارع المضطرد في تراكم المعارف وسهولة الوصول إليها.

"الثورة الصناعية الرابعة"
انطلاقا من الثورة المعرفية  تقف البشرية الآن على أعتاب ما أطلق عليه كلاوس شواب، مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي، "الثورة الصناعية الرابعة"، وتشمل مكوناتها الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا النانو والتقنيات الحيوية إلى جانب ما يسمى بالحاسوب الكمي  Quantum Computer  القائم على التغلغل في عالم الذرة "الكمّي" لحصد خصائصه

كوجود جسيم في أكثر من مكان في نفس الوقت Superposition، وتشابك الجسيمات الكمّي عبر المسافات quantum Entanglement، وتشكّل الواقع لدى رصده فقط، وغيرها من خصائص فيزياء الكم ("اللامعقولة")، فتم العمل على تطوير حواسيب "كمية" ذات قدرات معالجة هائلة تتجاوز ما هو متوفر حاليا بعشرات ملايين المرات باستخدام هذه الخصائص الغريبة والتي تتحدى فهمنا التقليدي للوعي وما يرتبط به من تعريف للواقع والسببية والزمن. وقد أظهر هذا التطور وجود فجوة في فهمنا للوعي البشري يمكن لردمها أن يفتح لنا أبواب ثورة جديدة لمستقبل التطور البشري لا يمكننا الآن حتى تخيل أبعادها. ومن الجدير ذكره أن هناك أكثر من محاولة لردم هذه الهوة منها فرضية الفيزيائي البريطاني روجر بنروز وعالم الأعصاب الأميركي هاميروف بأن العقل مبني على آليّة عصبية "كمية" مما يفسر العلاقة بين رصد الواقع وتشكّله، إضافة إلى فرضية ماكس تيغمارك في كتابه Our Mathematical Universe عن كون الوعي حالة قائمة بذاتها يمكن أن تصلها الأنظمة المادية إذا ما توفرت لها شروط معيارية ودرجة معينة من التعقيد، وغيرها من الافتراضات التي يتم تداولها في هذا السياق.
بناء على ما سبق، يبدو أننا كبشر قد بدأنا بولوج مرحلة جديدة من مراحل التطور البشري حيث تتلاشى الحدود بين العالم الافتراضي والعالم الواقعي، بين العضوي والآلي، بين ما هو لامعقول منطقياً وقابل للتطبيق فيزيائياً، وربما كان العنوان الأمثل لهذه الثورة هو "ثورة الوعي".

(*) كاتب/مهندس حاسوب، خريج الولايات المتحدة. يعمل في مجال الحوسبة وتقنية المعلومات.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.