بشكل عام تبلور خطاب حقوق النساء لدى مؤيديه ومعارضيه وتغلغل في مفاصل أجهزة الدولة والإعلام والتطرف الديني، وهو ما أدى إلى تحويل النسوية إلى مساحة استقطاب وإعلان مواقف. لكن بالرغم من كل ما قد يبدو حراكا ديناميكيا تبقى كل هذه الضجة مفتعلة، وإن كانت
بالتدريج بدأت تظهر عوامل مادية اصطدمت بشكل مباشر بذوات الأفراد/الباحثين/الباحثات/النسويات فدفعتهم إلى هجر النقد التطبيقي الذي تبنى لفترة طويلة منهج ما بعد الاستعمار (تطبيقا على أفريقيا والهند) ليقوموا بصياغة آلية بحثية فرضها الظرف السياسي والشرط الاجتماعي، وهذا الأخير تغير أيضا طبقا لحالة السيولة السياسية التي مرت بها المجتمعات العربية بفعل شكل العلاقة بين الدولة والمؤسسات والأفراد والمعارضة. ففي نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي أدى حصار العراق إلى تنبيه المجتمع المدني ودوائر البحث الأكاديمي إلى ضرورة تغيير وجهة البوصلة المعرفية. فقد كانت هذه الدوائر على وعي بما يحدث للعراق (بقيادة قوى كبرى) بدون المقدرة على تغيير الأمر دولياً، فكان لا بد من العمل محلياً عبر منح الأصوات المهمشة مساحة. فظهرت مثلا أهمية الشهادات، واحتل الصوت المحلي دوراً كبيراً في تشكيل رؤى الأبحاث. ولكن بسقوط بغداد خرج مصطلح المقاومة من حدود فلسطين لينتشر في مناطق كثيرة في العالم العربي، وعليه فقد ازدادت التجمعات البحثية النسوية في هذه البلدان، وأعلنت عن نفسها عبر مجلات، أو منتديات، أو ورش عمل.
ظهرت أيضاً مع مطلع الألفية المناهج التاريخية الساعية إلى إعادة قراءة التاريخ (على غرار المؤرخين الجدد) وبدأ البحث في إعادة قراءة الأرشيف، فظهرت كتابات عائشة التيمورية وزينب فواز، وغيرهما، ليتم مثلاً دحض مقولة أن "زينب" لمحمد حسين هيكل هي أول رواية عربية. ولا تزال إعادة قراءة الوثائق تكشف الكثير من المغالطات التي قدمتها السردية التاريخية الرسمية. في الوقت ذاته لا يُمكن أن نتجاهل صعود النسوية الإسلامية- التي انطلقت من جنوب شرق آسيا- لتحتل وجودا رئيسيا في البحث العلمي.
مع اندلاع الثورات في العالم العربي أصبح صوت النساء هو التقنية والمنهج والرؤية (صوت المرأة ثورة وليس عورة). ومرة أخرى تعود الشهادات والمقالات والسير لاحتلال المشهد، شهادات الناجيات من العنف والتعذيب ومن داعش وسجون النظام. وتتحول هذه الشهادات إلى نصوص يعكف الباحثون على قراءتها منهجيا. وتزامن مع ذلك ازدهار الدراسات البينية في الجامعات العربية التي ساعدت على صعود الدراسات الثقافية لتصبح هي المنهج البحثي السائد. وبتغير شكل المنطقة احتلت مسألة الصوت الفردي أهمية في مقابل خطاب الدولة القمعي
هنا تظهر ملاحظة مهمة مفادها أن الغرب الذي دأب على قراءة المجتمعات العربية وتأطيرها داخل صورة محددة لم يعد في استطاعته أن يستمر في ذلك بعد أن شهد الإرادة والصوت متجسدين في مواقع الثورة. بمعنى آخر، توقف الغرب بشكل كبير عن الكتابة عن المجتمع العربي وبدأ يكتب معه. ففي كل كتاب مُحرّر في الغرب عن "نساء العالم العربي/الإسلامي" نجد أصواتا بحثية من المنطقة تساهم في تشكيل الرؤية، وكأن هناك توجها جديدا فرضه الشرط الموضوعي على الرؤية البحثية التي تسعى دوما إلى تحقيق قيمة نفعية. لابد إذاً أن نأخذ في الاعتبار انتعاش دينامية العلاقة بين المحلي والعولمي، وهذا التفاعل هو ما تحول إلى أحد موضوعات البحث أيضاً.
من رحم الثورات، تحولت الصورة الفوتوغرافية والفيلم والجرافيتي والأغنية والشهادة إلى نصوص يتم تحليلها من وجهة نظر نسوية، وأحيانا تُستخدم هذه النصوص لإثبات رؤية نسوية. لكن الأمر لا يدوم طويلا، إذ تتنبه الأنظمة إلى خطورة الصوت المغاير المخالف فتسارع إلى
وبسبب ما وقع في العراق وسورية وليبيا واليمن ظهرت إشكالية النساء اللاجئات وعبور الحدود كمواضيع بحث رئيسية، حتى أن العديد من المؤتمرات الدولية أصبح موضوعها هو عبور الحدود ثم ظهر ما يُسمى "دراسات الحدود".
وتحتل تجارب العبور واللجوء الآن مساحة رئيسية في الفكر النسوي العربي، فمن ناحية يتم دراسة الثمن الذي تدفعه النساء في هذه الرحلة، ومن ناحية أخرى يتم توثيق المعاناة منذ البداية، أي النقطة التي دفعت إلى اللجوء. في كل هذه المناطق البحثية الجديدة التي يفرضها الواقع يُمكن القول إن النسوية تواكب أشكال المعاناة الجديدة وأشكال الارتحال والتأثير والتأثر بدرجة تجعلها تتجاوز مسألة المساواة التي تثير نقاشات لا طائل من خلفها.