}

عبدالله حمودي: أن ترى نفسك بعينك لا بعيون الآخرين

هاني عواد هاني عواد 4 أبريل 2019
استمعت قبل أيام إلى ندوة ناقش فيها ستة باحثين وأساتذة جامعيين كتابًا واحدًا أمام مؤلفه الذي عقّب أيضا على النقاش. أما الكتاب فهو «المسافة والتحليل: في صياغة أنثروبولوجيا عربية» (دار توبقال، 2019)، وأما المؤلف فهو عبدالله حمودي، وهو أهم أنثروبولوجي عرفه المغرب العربي على الإطلاق، والذي أسّس لوحده مشروعًا نقديًا أنثروبولوجيًا عربيًا تعلم منه أجيال من الأنثروبولوجيي،ن وكذلك من المثقفين العرب.
تعود شهرة حمودي إلى أكثر من عشرين عامًا، حينما ألّف كتابًا اسمه «الشيخ والمريد: النسق الثقافيّ للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة» (1997). لم يقرأ أحد هذا الكتاب تقريبًا، في ذلك الوقت، ولم يتغير، فالعمل كان في الواقع سابقةً جريئة غيّرت مسار الأنثروبولوجيا المغربية.
فكرة كتاب «الشيخ والمريد» بسيطة، فقد قرر حمودي دراسة العلاقة السلطوية بين أحد مشايخ الطرق الصوفيّة المغاربة وبين مريديه، وهي علاقة هيمنة ثقافيّة وروحيّة، لكن تتخللها في كثير من الأحيان أنواع مختلفة من العنف وأشكال السيطرة، كما تتخللها كذلك أشكال مُضمرة ومتنوعة من المقاومة، حيث يعثر المريدون دومًا على طرقٍ خاصّة وملتوية لمقاومة سلطة الشيخ والتعايش معها في الآن نفسه. اعتبر حمودي أنّه بالإمكان من خلال دراسة هذه العلاقة المعقّدة تطوير خريطة فهمٍ لقراءة الاستبداد السياسي المغربيّ، وفهم آلياته في الهيمنة على المجتمع المغربي، ثمّ حاول أن يسحب استنتاجاته لفهم آليات العمل الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة.
في ذلك الوقت، لم يكن هذا النوع من البحوث السوسيولوجية مألوفًا، فقد اعتاد جيلٌ من المغاربة التعلّم عن مجتمعاتهم في الجامعات المغربية والأوروبية. يقرأون ما كتبه عنهم 
الأوروبيون، ثم يعودون إلى قراءة المجتمع المغربي بعيونٍ غربية (أو أورو- أميركية كما يفضّل حمودي تسميتها). المشكلة أن النظريات الأنثروبولوجية التي كانوا يدرسونها في الجامعات لم تكن مضللة فحسب، بل كانت كذلك استعمارية، لأن هدفها لم يكن المعرفة لأجل التعرف، بل لأجل الهيمنة.
وقد كان هذا النوع من المعرفة «المفخخة» ينظر باستعلاء وفوقية إلى الثقافة الشعبية المغربية، ويترفّع عن فهمها إلا بوصفها ثقافةً متخلفةً تنتمي إلى الماضي، وقد أنتج هذا الشكل من أشكال التعليم نخبًا أكاديمية وثقافية نشأت على احتقار مجتمعاتها، على اعتبار أن ما هو غربيّ هو حديث وما هو مغاربي هو قديم. كانت تلك مأساة جيل كامل من النخب الثقافية المغاربية المنفصمة يصعب اختصارها في سطور.
أما عبدالله حمودي فقد اقترح، من خلال كتاب «الشيخ والمريد»، ممارسةً بحثية بديلة، افترض من خلالها أن الثقافة الشعبية المغربية، التي طالما احتقرها الاستعمار، هي المرآة الحقيقية التي يمكن من خلالها فهم تناقضات الدولة والسياسة والمجتمع. بهذا المعنى، قال حمودي للباحثين من حوله إنه يمكنكم أن تستفيدوا من طرق التفكير النقديّ الغربية وأدواتها التحليلية كما تشاؤون، لكن عليكم أن تعودوا لتشتقوا نظرياتكم من المجتمع نفسه، وإلا ستبقون أشبه بالمستوطنين في أوطانكم. ولكي تستطيعوا فعل ذلك، عليكم أن تذوبوا في مجتمعاتكم وأن تنتموا إليها.
قد يبدو كلام حمودي بديهيًا اليوم، فعليك أن تشعر وتعود إلى المجتمع كي تفهم المجتمع، ولكن في ذلك الوقت، قبل عشرين عامًا، كان حمودي كمن يقول: وجدتها، أو كتلك الأم التي تأتي لأحد أولادها فتعثر له على القميص الذي هو أمامه. لقد كان الوعي بالمضامين الأيديولوجية في العلوم الاجتماعية الأورو- أميركية متقدّمًا في الوقت الذي أصدر فيه حمّودي كتابه الأهم، فمنذ نهاية السبعينيات كتب إدوارد سعيد عن «الاستشراق»، وكتب عبد الكبير الخطابي عن أهميّة «النقد المزدوج»؛ نقد الغرب والتراث، كما كان محمد عابد الجابري منطلقًا بالفعل في مشروعه الذي يعيد فيه قراءة «العقل العربيّ»، لكنّ حمودي هو الذي ترجّل من صهوة الأستاذيّة وذاب في المجتمع واستلّ منه نظريته التي غيّرت من نظرتنا إلى أنفسنا.
لقد كانت الندوة التي عقدها كل من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات وكليّة العلوم الاجتماعية في معهد الدوحة للدراسات العليا عمليا هي نقاش بين عبد الله حمودي، الذي أصبح رجلا عجوزًا، وبين مجموعة من الباحثين الجامعيين والأساتذة من الجيل الثاني، الذين يعتبرون أنفسهم تلامذته معرفيًا. كان النقاش غنيًا وممتعًا ومتوترًا ومؤثرًا، انتقد فيه حمودي سعيد والخطابي والجابري وغيرهم، وردّ فيه على مناقشيه الذين هم تلامذته في الآن نفسه. أما أنا فكنت بدوري أرى المشهد بعيون كتاب "الشيخ والمريد".
في نهاية الندوة كان حمودي، الذي تقوّس ظهره من الزمن، ينظر بعينين واسعتين وحالمتين، ويقول لمن حوله إنّه يحلم بيومٍ يرى فيه العرب أنفسهم بأعينهم لا بعيون الآخرين، وأن يفسّروا أنفسهم بنظريات عربية.
قال لهم إنه يعرف أن ذلك اليوم بعيد، لكنه قال بأنه مؤمن بأنه قادم. 

*كاتب وباحث ومدير تحرير دورية "عمران" للعلوم الاجتماعية.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.