ثم إن جهل الحاكم (ولو كان مسلّحاً بشتى الألقاب) يشيع النفاق بين المثقفين وسواهم. لنتخيل المعرض السنوي السوري بكل أمجاده وتاريخه. تفتتحه وزيرة الثقافة بنظارات سوداء! وهو ما يذكرنا باجتياح هولاكو لمحترفات بغداد (قبل تبريز وهيرات) وفقء أعين المصورين الذين
ما رميت إليه من استدعاء هذه الأمثلة المتباعدة هو أن الحقيقة لا تملكها الجماهير الغفيرة، أو الدهماء، لأن محركهم الأساسي هو المشاع والإشاعة والنميمة والحسد والغيرة أي أخلاق الجهل والنفاق. يحضرني مثال عبارة عن قول عنصري شائع في الثقافة العامة يحتقر الأفارقة (الزنوج) في أمة عربية نصفها أفريقي "لا تشتري العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد"، بما يتناقض مع الأخلاق العامة وحتى مع الحضارة العربية الإسلامية. هي التي تناسل عن فيضها الفكري أبو حامد الغزالي، خاصة في مؤلفه الأخير: "إلجام العوام عن علم الكلام". ذلك أن منهج "علم الكلام" في الاجتهاد يعتمد على العقل والمحاكمة العقلية، وخاصة على التراكم المنهجي في علم المنطق المستعار من حكمة الفلسفة اليونانية وموروثها في مدرسة الإسكندرية. ويلامس هذا العنوان ما نعاني منه اليوم وهو أن أغلب التيارات الأصولية بما فيها الجهادية تعتمد على الأمية والعنف الانفعالي حتى لا نقول الإجرامي، في حين أن قرون
4 - الاستقالة من النخبة والنخبوية
أين نحن اليوم ثقافياً مقارنة بقرون الازدهار التي مر ذكرها؟ مع مهازل إفتائية أزهرية مثل الذي حكم به أهم مفكر عربي نهضوي معاصر وهو نصر حامد أبو زيد بطرده من بلده بعد تكفيره وتطليقه من زوجته التي هربت معه إلى هولندا حيث استقبلته الأوساط العلمية باحتفاء خاص، وعين مدرساً أولاً للفلسفة الإسلامية في الجامعة. أعتز اليوم بإهدائه لي مخطوطة أطروحته "التأويل" بخط يده، هي التي جلبت عليه غضب الأصوليين، راهن في دراسته المفصلية على إعادة تصحيح وعصرنة المصطلحات والمناهج في علوم التفسير والتأويل فقامت القيامة، عجيب؟. وهاكم واحدة طالبت أنا نفسي بتصحيحها مما أشعل صداقتنا، المسألة تمس التحريم الملفق والمشبوه والجاهل للتصوير، الموضوع ببساطة خطأ لغوي بسبب جمود المصطلح والخوف من تعديله وتوضيحه، لذلك فرق ابن ثعلبة بين الصنم والتمثال. هو مصطلح "التصوير" الذي كان يعني في عهد الرسول "الوثن المعبود"، نجده عندما دخل الكعبة منتصراً يطلب من الصحابي حسان ابن ثابت: "دمّر كل ما في الكعبة ما عدا ما تحت يدي" وما تحت يده كانت أيقونة سوريانية متواترة الرواية بعدد من الثقاة. لذلك نجد أن كل الفتاوى السنية (بمدارسها الأربعة: الشافعية والحنبلية والمالكية والحنفية) والشيعية بشتى فروعها بما فيها الإثني عشرية والإسماعيلية وسواهم اتفقوا على حلالية التصوير الذي مورس خلال طوال عهود التاريخ الإسلامي وثبت تقاليده الصوفية (خاصة النقشبندية) وشكل منعطفاً في الفن الأوروبي في القرن العشرين بمثاليه بول كليه وقبله هنري ماتيس وقبله دفاتر ديلاكروا.. إلخ، ما عدا المفتي النواوي في القرن الرابع عشر عندما أخذ بظاهر المصطلح فحرم التصوير بسبب جهله اللغوي. واتفق الجميع على ألا تتمثّل صورة الرسول والصحابة في المساجد التزاماً "بالتنزيه" والاختلاف مع أيقونات الكنائس. ولهذا الموضوع الكثير من التفاصيل المناقضة للرأي الدهمائي العام، هو الذي حرم كل المتاحف العربية من الاحتفاظ بأعظم فنوننا التراثية وهو تصوير المنمنمات المرافق أو المستقل عن المخطوطات، بعباقرتها ما بين الواسطي وبهزاد أكمل الدين عبوراً من ابن جنيد ومحمدي وشيخ زاده وعثمان وسواهم ما بين القرن الثالث عشر والسادس عشر للميلاد واندثر ما قبل ذلك. يرى نصر حامد أبو زيد أن "الأنظمة الحمائية الاستبدادية تقع خلف تجفيف العقل" وذلك قبل إخصائه وضموره وفق داروين والتوارث في الأكاذيب الديماغوجية. ومثالها تحويل هزائم تشرين إلى انتصارات... إلخ.
يتقاسم نصر حامد أبو زيد رحمه الله اعتزازي بصداقته مع التونسي الدكتور هشام جعيّط، صاحب أحد أهم الكتب عن أصول مناهل تنظيم المدينة الإسلامية، بعنوان "الكوفة بناء مدينة إسلامية" الذي ينفي تاريخياً مفهوم "الفتوحات الإسلامية" ويعتبرها استمراراً "لحروب الردّة"، وقامت أيضاً القيامة عليه، بمنعه من الكتابة والتدريس وغيرها، فاختفى من الساحة الثقافية، وفقدت وسيلة الاتصال به.
الصديق الثالث (وهو نموذج يحتذى) أهم راقص في العالم دون منازع موريس بيجار. نقل نشاطه إلى لوزان وأسس جمعية مستقلّة من الشباب اللذين انتقاهم بعناية من آلاف الموهوبين، طبع العصر بقواعده الروحية في الرقص، ويعتبر مولانا جلال الدين الرومي نبراساً وقدوة روحية له. لنتذكر واحدا من أشد أقوال الرومي ذوقية: "كثير من الطرق تقود إلى الحق، أما أنا فقد اخترت طريق الرقص والموسيقى". نعرف أمثال الرومي بأنهم "جماعة الذوق" لذا نجد علاقة حميمة بين تاريخ ازدهار التصوير والموسيقى وهذه الفرق الصوفية المتحررة من التعصب والانغلاق. يذكر السيوطي مثلاً بأن: "من لا تتحسس أذنه الموسيقى لا يدخل قلبه الإيمان". والفرنسي موريس بيجار كان وريثا لهؤلاء ولقصائد أم كلثوم الروحية.
من أبرز عروضه الراقصة المتجولة في مونوبولات الكوكب "ثمانين يوماً حول العالم". رصّع فيها ساعتين من أشد تجاربه أصالة وعناية وتقنية شمولية، لم يفلت من تأثير تجديداتها الحداثية (ما بعد الباليه) أي معهد في الولايات المتحدة وغيرها، ولم تفلت من استلهاماته الموسيقية (الكاليغرافية) أية حضارة، فبعد تطويره المشوق للمولوية من قونيا، ونظيرتها اليونانية، خصّ
العرب بأغنية روحية لأم كلثوم: "تائب تجري دموعي ندماً يا لقبي من دموع الندما" المنجزة عام 1960م من شعر عبد الفتاح مصطفى وتلحين رياض السنباطي. واختيرت بعناية رهيفة من فيلم "رابعة العدوية"، وخصّ في ارتحال برنامجه محطة أحد مسارح بيروت بسبب انحيازه المتحمس لثقافتنا. كان الافتتاح (إذا لم تخني ذاكرتي) عام 2007م، وقامت من جديد القيامة لأن مفتي لبنان في طرابلس طالب بإيقاف العرض لأنه يشتمل على تعري صدور بعض الذكور في بعض المقاطع، فجنّ جنون بيجار وردّ بغضبه غير المألوف على إحدى صفحات جريدة "النهار". وهكذا خسر لبنان أكبر صديق للحضارة العربية الإسلامية وأشد المبدعين مصداقية شمولية وشهرة عالمية. تحولت الصدمة بالنسبة لي وخلال أكثر من عام إلى مجهرية متأنية في تأمل خصائصه الأسلوبية في معالجة علاقة الجسد بالفراغ والثقالة الأرضية، مستثمراً التشبه بالطيران الفلكي الذي تميزت به مولوية جلال الدين الرومي. أعدت تسجيلاته برسوم عديدة ثم هيأتُ معرضاً بالغ العناية مستلهماً من عروضه ولكني صوّرت بجرأة تتجاوز صدور ذكوره العارية نتعرف على موضوعها من العنوان: "تحية إلى موريس بيجار (أقنعة الجسد)" وذلك عام 2009م وكتبت مقدمته بلغتين مسترجعاً فضيحة المنع الآنفة الذكر، وذكرت بأن المعرض يمثل عرفاناً بجميله والاحتفاء بعبقرية العرض والاعتذار عما بدر. رغم جرأة موضوع المعرض (هرمافروديت عارية) فإن تشكيليته الأسلوبية قاربته من التجريد، ثم ورغم أن المطابع الكبرى رفضت طباعة الكاتالوك فقد طبع في بيروت بتقنية متقدمة، هو ما ساعد على سماع صوت اللون والخط. وهذا هو شأن الموسيقي النابغة نداء أبو مراد عندما صححّ المقامات وإنعاشه الرهيف للكتابة النوطية والآلاتية، وغيرهم كثير جرفتهم ديماغوجية الجماهير المتدافعة حتى خنقوا أصواتهم. ألسنا بحاجة إلى هؤلاء النخبة من العارفين؟ بدلاً من صلبهم عبر العصور المتتالية مثل الحلاج؟
لنتأمل بالنتيجة مأثورة ابن رشد الفيلسوف العربي الأول: "العلم في الغربة وطن، والجهل في الوطن غربة".