}

كيف تتعلم الجهل.. خاصة في الفن التشكيلي (1)

أسعد عرابي 26 أبريل 2019
آراء كيف تتعلم الجهل.. خاصة في الفن التشكيلي (1)
صورة متخيلة للجاحظ

1 - دماسة الجهل ونور المعرفة:
يحضرني الجاحظ قبل غيره لأنه يمثل رمزاً لأسطورة الكتب والمخطوطات التي قضت على آخر أنفاسه عندما انهارت عليه بما فيها "البيان والتبيين" ورسائله (على غرار التربيع والتدوير). ما نعرفه أن مساحة القرون الثلاثة: التاسع والعاشر والحادي عشر للميلاد كانت ذروة ازدهار الترجمة والإبداع. فقد كان البيروني مثلاً يعرف ست لغات شفاهة وكتابة، تقاليد نخبوية موروثة منذ العصر الأموي، حيث تحولت العقيدة إلى حضارة بفضل تراجم الفلسفة اليونانية عن طريق السريان سواء من أسلم منهم أو من بقي أهل ذمة، ولنا عودة على هذا الموضوع. علينا استدراك مقولة الجاحظ قبل ذلك: "وخير جليس في الأنام الكتاب" لنستهل بها قدسية المعرفة. فعندما كان يوسم شخص في أوروبا قبل القرن السابع عشر بأنه مسلم، كان يعني مجازه فيلسوفاً، بالغ الثقافة أو حكيماً أو عارفاً أو قطباً، بعكس ما آلت إليه كلمة مثقف اليوم من خلاعة لفظية ومعرفية. كان يدرك المتنورون أن نباهة المعرفة وتناميها يرتبط بقيمة "الزمن" وكيفية قضائه والتعامل معه "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك". رحم الله النفري حينما باح بسره: "وقتك قبرك".
يكتب الصحافي لدينا ضمن آلية ما هو واجب القول، وليس لزوم القول الشاهد المحايد، لأنه محاصر بشيوع "المغالاة في الموالاة".
يعفي الجهل من مجاهدات وعناءات وعزلة المطالعة، هو ما يبعث على الاطمئنان إلى غيبوبة أي تفكر أو جدلية، أي تقصّي وامتحان عكس أي أطروحة دهمائية موروثة بقوة الشيوع.
هو تقاعس الأحكام المزاجية دون أدنى محاكمة أو ناظم. أي المنقطعة عن أية إحالة مرجعية، مع التشبث المتقوقع على حلزون الذات النرجسية التي تقنع بما هو متسّرع وعاطفي وآني، مع دعوى القدرة الموهومة على سبر أسرار الوجود. وذلك رغم قطيعتها مع فضولية الاستزادة ممن بذلوا أيامهم في التوثيق لميدان اختصاصهم. تختزل حكمة المتنبي ثنائية الأسود والأبيض هذه بقوله: "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم". يحضرني في هذا المعنى تساؤل الآية: "وهل يستوي الذين يعلمون بالذين لا يعلمون؟".

***

لو كان الجاهل يعرف أنه لا يعرف لسقطت عنه تهمة الأمية والعماء المعرفي. لكن بعض من

فاقدي البصر والبصيرة ختم الله على مكابراتهم بعدم الإحساس بظلمة عماهم. يذعنون لخدر قيلولة التراخي عن تحصيل ما يعكر تبلدهم الذهني ويمعنون بإخصاء منافذ الاستزادة من علم من تفتحت نباهة عقولهم على تكريس أعمارهم في البحث والمراجعة، بالتوثيق والتدقيق. بين بياض المعرفة وسواد القصور المعرفي صراع مستديم بدليل: "كان العالم غارقاً في دياجير الظلمة ثم أفاض الله عليه من نوره" والنور في هذا المقام هو نور العقل.
ثم إن "الإنسان عدو ما يجهل"، وهاكم مثال شخصي: تيسّر لي في ختام السبعينات أن أعقد صداقة دراسية (خلال انخراطي في "محترف نالار" في البوزار - باريس) مع زميل فنان ياباني يدعى أوسامو، جمعتني معه علاقة إنسانية وفنية حميمة، سألني ذات مرة بآسيويته الساخرة الباسمة قال: منذ أن تعرفت عليك وعلى طريقتك الخاصة في التصوير وأنا متعجّب! كيف تتعرفون على بعضكم البعض؟ أنتم في الشرق الأوسط، رغم أنكم متشابهون إلى حد التماثل؟ أجبته بنزق متوسطي مندهشاً من اندهاشه: نحن أيضاً بالمقابل لا يمكننا التفريق بين الصينيين أقربائكم. نحس بأعينهم اللوزية المبطنة (نصف المغمضة مثل المغول) بأنها منسوخة آلياً مليار ونصف مليار المرة. لم يتوقف الجدل عند هذه النقطة، فقد استمر حتى اتفقنا على أن العصر الذي نعيشه يهيئ فرصاً مضاعفة للقاء الآخر المختلف، وبالتالي علينا أن نتخلى عن المفاهيم المنقرضة حول بداهة الخلاف مع المختلف، وعلينا أن نقبل بهذا الاختلاف حتى نكون شموليين من الداخل. والنموذج المثالي العريق يرجع إلى سقراط (القرن الخامس قبل الميلاد)، الذي يقول رغم حماسته لأثينا بأنه يحس "في الفلسفة بأنه مواطن عالمي"، ولو لم يكن في هذا الاختلاف تعددية مخصبة لما شاع المثل الشعبي: "خالف تعرف".
يقال أيضاً: "لا تأخذوا الحكمة إلا من أفواه المجانين" أنا أقول خذوها على لسان أعدائكم فهم أقل نفاقاً وأعتى سخرية وانتقاداً. هو ما جرى مع القول الشائع الذي صدر عن وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشي دايان، والذي هزم في حرب 1967 م ثلاث دول عربية كبرى. يقول في مؤتمر صحافي في باريس في حينها: "العرب لا يقرؤون، وإن قرؤوا لا يفهمون، وإن فهموا نسوا بسرعة البرق".
لا يخلو هذا الاتهام بالطبع من العنصرية لكن "لا دخان بدون نار" بدليل أن الجالية الدبلوماسية التزمت الصمت في حينها، وأغلب الظن أنهم لم يطلعوا عليه.

2 - ادعاء الجهلة وتواضع العارفين:
يدعونا أبو العلاء المعري للتقزز من الصلف والتجبر عند السير "خفّف الوطأ ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد". تحضرني أكمات ووهاد وتلال المقابر الدلمونية التي تغور في الأرض.
أما برنار شو فيسخر كعادته من الادعاء ملفقاً الصورة الرمزية للساقية الجافة التي تحتاج إلى تحريك مياهها وتعكير مائها حتى تبدو وهمياً أشد عمقاً، هي الأحابيل الانتهازية في مجتمعاتنا التي ترفع من تشاء وتخفض من تشاء. يقع المثل العام لها بالمرصاد: "ما طار طير وارتفع

إلا كما طار وقع"، ويؤكد ابن رشد: "اللحية لا تصنع الفيلسوف".
لو كان الحمار يدرك سلبية صورته لانقلب جواداً يمهر بالذكاء ويصهل بالحكمة، لكن عظم خيلائه تفخر بضخامة رأسه وأذنيه وعضوه الذكري، ممعناً في اجتراره وتغوطه وشبقه الذي لا يعرف معنى العفة والطهارة.
تجسد رمزية هذه الاستعارة استفزازية الادعاء أول إشارات الجهل.
نصل هنا إلى ما هو أشد سواداً من الخواء المعرفي وهو يقين عماء الخواء الذي ينقلب إلى امتلاء وثراء مزيفين. يقول الحديث: "رحم الله امرأً عرف قدره فوقف عنده". ويقول علي بن أبي طالب: "ما حاورت عالماً إلا غلبته وما جادلني جاهل إلا غلبني"، أما ابن رشد فينبه: "لو سكت من لا يعرف لقلّ الخلاف". والقصد هنا عجز الجاهل على الحوار، يتحول من أصول لعبة الشطرنج (أي أصول المناظرة والنقاش المنضبط) إلى المصارعة الحرة، وقانون الغاب من افتراس ولطم وبهيمية مثل نزاع الديكة أو الكنغر وغيرهم. يقول عمر بن الخطاب: "ليست الشجاعة بالصرعة إنما الشجاعة بضبط النفس عند الغضب". وبالعكس فإن أسطع إشارات الحكمة هي "التواضع". إذا عدنا إلى سقراط مؤسس الفلسفة يقول وهو في الرمق الأخير من حياته: "إن الحقيقة الوحيدة التي توصلت إليها في آخر عمري هي أني لا أعرف شيئاً". وهو شأن ابن فضلان وابن بطوطة في أدب الارتحال يعقّبان عند ختام كل مقطع من روايتهما بقولهما "والله أعلم"!
وهو شأن تواقيع أجدادنا من كبار الأدباء والخطاطين والمصورين (على غرار الغزالي وابن رشد والتوحيدي، ثم ابن مقلة والمستعصمي وابن البواب، ثم الواسطي وبهزاد وابن جنيد وشيخ زاده إلخ ...) يذيلون بدائعهم بتوقيع: "العبد الفقير، طالب المغفرة والعلم فلان". أما العلماء والفلكيون الذين اخترعوا الصفر و"الجبر والمقابلة" (مثل الخوارزمي)، والإصطرلاب والبوصلة ومواقع النجوم فيخجلون من ذكر أسمائهم. يدلي ابن رشد بدلوه فيقول: "أكبر عدو للإسلام جاهل يكفر الناس".
ومهما يكن من أمر فمن الواجب عدم الخلط بين الجهل الدهمائي وبلاغة التقاليد الشعبية: ما بين الحكواتي والمخايل والمنشد والزجال، وما بين ما ترويه السير الشعبية (عنتر وعبلة والزير سالم وبني هلال وغيرهم) ثم خيمة عكاظ في المقاهي الشعبية وصور هذه الملاحم في تصاوير المنمنمات (المخطوطات) وتصميم عرائس خيال الظل ومقصوصاته الورقية وعلى الزجاج من الخلف، ثم التصوير على جدران الحارات القديمة وسواها. نسمع في المقاهي الشعبية وغيرها حكما وأمثالا ملغزّة تمجّد بالمعرفة وتهجو الجهل. تكشف عمق الثقافة النوعية الوجدانية – الوجودية، وأحياناً الوجدية، معتمدة على الإلماح والكناية والترميز والمجاز وبلغة دارجة شعبية تختص بكل بلد عربي.

3 - من حجاب الجهل المفرد إلى إشاعة الأمية بالجمع:
يقول المثل الألماني بخصوص انتقال عدوى عماء البصر والبصيرة إلى الآخر: "الأعمى لا يقود الأعمى إلا إلى الهاوية"، صوره فنان القرن الرابع عشر جيروم بوش مرات عديدة. يقابله المثل الهندي الذي يجعل تأمل الكون والطبيعة مشروطاً بالآخر ومفاده: "ما أتعس المنظر

الجميل عندما لا تجد أحداً لتبدي إليه بإعجابك به".
لكن وكما يتراكم الجهل لدى الإنسان كمفرد واحد (بصيغة عمودية)، فإنه يشيع - وهو الأخطر- أفقياً ليكتسح غالبية المجتمع في عصور الانحطاط والانحدار الثقافي وترديه عموماً (كما هي حال الأمة العربية اليوم)، وحيث أن الحروب الخارجية والداخلية قادت ليس فقط إلى اغتيال الطفل وإنما تشريده خارج مقاعد الدراسة (مصدر الغذاء اليومي للمعرفة التعددية)، ومثلها الجامعات. يرافقها استباحة وسرقة المكتبات وآثار الذاكرة الجمعية. أما من أنقذته محاسن الصدف والأقدار من طاعون الحروب، فقد وقع في براثن طاحونة الاستهلاك العولمي. كيف يمكن أن يصل الكتاب إلى النازحين وخيامهم التي لا تؤمن لهم بالكاد لقمة العيش؟ ومثلهم الذين يصرفون أوقاتهم في سجون المراكز التجارية (المولات)، أو شاشات التلفزة ليل نهار. إن آخر ما يفكر به هؤلاء هو الكتاب والثقافة. هو ما يستدعي الصورة الساخرة التي ترمز إلى مرضين متقابلين لدى الأطفال: نقص الغذاء والبدانة المفرطة؛ امتثالا للقول الشائع "تربوياً": "من شب على عادة شاب عليها". أما الدكتوراة الفخرية التي درجنا على منحها إلى مبدعين أفذاذ مثل الشاعر "سنغور" فأصبحت تبذل كوسائط رشوة، أحياناً للعسكريين المتنفذين. حتى انقلب اللقب العلمي والفني إلى رتبة قتالية أو حزبية نضالية وسواها.
تبدو لي هذه الدراسة (ربما من باب الطوارئ) نوعاً من الترف المناقض لتردي حقوق الإنسان عامة في مجتمعاتنا. هي التي جعلت المواطن يقنع بالحقوق البهيمية الأولى: في القناعة بلقمة عيش العائلة وتأمين سقف السكن أمام غضب فساد الطقس على الكوكب. هل يفضل القارئ أن أتوقف عند هذه المحطة المحبطة؟ أنا أجد أن الحياة (مثل الوعي الإنساني) ومنذ تصاوير عصر الكهوف، أصلب عوداً ومقاومة من الموت (حتى ولو كان مؤجلاً كما يرى جان بول سارتر). مع ذلك علينا الإقرار بأنه في مثل هذه الشروط السلبية، من الأسهل في المجتمع العربي الراهن تعلّم اللامعرفة.
لو عدنا خطوة إلى الوراء لنقفز خطوتين إلى الأمام (كما هو المثل الفرنسي المستلهم من مشية الحرباء) نضع يدنا على ذاكرة المدن في الحضارة العربية -الإسلامية. في الوقت الذي فصّلها فيه الفارابي إلى مدن فاضلة وأخرى فاسدة، يعتمد عليه ابن خلدون في "المقدمة" يقول: "إن أول ما يفسد بعد العمران صناعة الموسيقى". أي أن أول إشارة لتدمير التنظـيم الحضري هو تدمير وجوه الثقافة ومنها الموسيقى كمرحلة تمهيدية. فالتراجع المحسوس في اللغة العربية وتواضع استخدامها مقابل اجتياح "الأنكلوفونية" العولمية، هو أحد أهم هذه الإشارات الكالحة.
صادف منذ ما يقرب من عشر سنوات أن نشرت دراسة ميدانية لم تلقَ في حينها آذاناً صاغية، هي ذات مغزى اليوم يتفوق على نظيره في حينها. وهي تعالج الاختفاء المباغت للأبواب الخشبية الدمشقية واقتلاعها بصيغة شبه جماعية، وبيعها بسبب الضائقة المادية بمئة دولار فقط رغم عراقة زخرفتها وترصيعها المعدني من قبضتها البرونزية إلى مقرعتها (لطرق الباب) ناهيك عن الميداليات الخطية النادرة منها عبارة: "والغبطة مستمرة" الصوفية. تقصيت مسار تسويقها اللوبي الشيطاني عبر مخزنين رحبين في بيروت حيث يتمّ إخصاء وظائفها إلى أدوات مطبخية استهلاكية تبتدئ أسعارها التصديرية من عشرة آلاف دولار. هكذا ببساطة انقلبت أبواب وبوابات دمشق التاريخية إلى دروع من الصاج المعدني المبتذل. صادفت أحد بوابات حارة الورد الزاهية ديكوراً لإحدى الكباريهات الحديثة في "مون" العازارية.
من المثير أن أحداً لم يعترض على هذه العملية الجراحية التي لا يماثلها سوى الإتجار بأعضاء الأطفال خلال الحرب. لم يعترض أحد لا الزوجة ولا المختار ولا موظف الجمرك. ثم اطلع الكثير على الدراسة المذكورة، ولم تحرك ساكناً، كمن يرمي بحصى في مستنقع آسن أو يصرخ في وادٍ أصمّ. كانت هذه الـظاهرة الانتحارية واحدة من إشارات الحرب المقبلة مثل نعيق البوم أو زعيق غربان البين.

[يتبع جزء ثان وأخير]

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.