}

عبد القادر الشاوي: الاحتماء من الضياع

أحمد العمراوي 22 أبريل 2019
آراء عبد القادر الشاوي: الاحتماء من الضياع
(هاني زعرب)
"الحقيقة المرة التي تطالعني أنا الذي أريد الهروب هكذا كأنني ممسوس بهوى الاغتراب. فلماذا لا أعود إلى الوهم الذي علمني الكبرياء... على الأقل لأحتمي بشيء، ولو قليل، من الضياع؟"
عبد القادر الشاوي، الساحة الشرفية، منشورات الفنك، 1999.
الطبعة، 1، ص: 244 .

هَمُّ الذات هو همُّ ما يحمله الجسد. جسدك هو جسدي ممدداً فيَّ ومنك إليّ. جسدي هو جسدك حين ينبش في أضلاع الذاكرة المتذكرة. جسد، ذات، ذاكرة، وسيرة. سيرة ذاتية هي سيرة الجسد في مسامه، أو فلنقل هي هذا الخارج في كينونة وأخوات كينونة. تشابهٌ وتضاد وللذات سيرتها. للجسد سيرته. هي سيرة الكتابة روائياً، تخييلياً، وبالتذكر المر أيضاً.
كتابة السيرة الذاتية هي كتابة سيرة الجسد، هذا الحامل (لي) و(لك) و(لنا). جسدي سيقيم في زمن ما بعيدا عنك، بدلا عنك...
أنا صوتك في "واقع الأمر"، "الواقع المادي"، "الواقع العيني". سأتعذب بجسدي عوضا عنك. كل الكتاب يتعذبون بدلا من آخرين انطلاقا من ذواتهم وأجسادهم النحيلة في الغالب.
للذات سيرتها، وللجسد سيرته. وقد لا نفرق بين الذات والجسد وبين الكتابة لدى الكتاب الكبار وعبد القادر الشاوي من بينهم. والقدرة على استعادة التفاصيل بطريقة أخرى إبداعية تمزج المتخيل بالواقع المر هي ما يميز كاتبا عن آخر.

أستعيدك...
نستعيدك..
"أستعيدني في الصورة الملونة المتقادمة، تلك التي تراقب الساحة بين مفترق يحاذي شجرة

النارنج وينفتح على دورة الألم ناكرا عليها ذلك السهوم الذي في العينين المرتجفتين. أستعيد الصورة كأنها "وحدة أخرى، قل هو  السراب هذا الذي قد بدأ، رعشة حيرى لن تعود كأنما إلى الله الخلود. إني نسيت عمرا قل في ظلمة لن يعود إلي جمرا ولن يعود اشتياقا، أو نظرة أبدا". لم تعد صورة، بل مجرد انطباع خائن في ذاكرة مستباحة"[1].
استعادة الصورة، بل استعادة سراب الصورة هي الأهم. شريط التذكر يحفز الجسد والفكر ويدفع للأسفل، لليد التي ستسجل لحظات أخرى غير الأولى بقسوتها وتجربتها.
السيرة الذاتية (الروائية) لا تعني تسجيل لحظات العنف والحب في ما مضى من أيامي. إنها أبعد من ذلك. فهي قول ما لا يقال، أو ما لم يُعش بشكل عادي. خروج عن عادية الناس بل وأهم من ذلك بوح عن سر مكنون قد يكون من المستحيل التعبير عنه بدقة كما هو أو كما جرى في حينه، وهنا يأتي دور القارىء/ المتلقي/ كاتب النص الجديد.
أتمم ما أكتبه لك (لي) الآن. أتمم ما عانيت وما أعاني (تعاني) يقول لك عبد القادر الشاوي. جسدي هو جسدك، قد تكون تعذبت أنت أيضا بشكل ما. فعذاب الروح قد يكون أعنف من عذاب الجسد في أحيان كثيرة.
جسد وكتابة وسيرة جسد بمتخيل وحلم، فكاتب السيرة الذاتية روائيا  يحلم  بالانفلات من جسده واللجوء لجسد الآخرين. إلا أن كاتب السيرة الذاتية "السجنية" "واقعيا" يحلم بالانفلات من جسدين: السجن، وسجن الجسد. وكتابة الجسد السجني هي باختصار كتابة المستحيل. وقد يكون السجن في الجسد أقوى من سجن الجسد كما عبر عن ذلك المعري في كل شعره، ومن هنا أهمية الإفراج عن السر المكنون بالكتابة الإبداعية شعرا ونثرا.
كتابة السجن قد لا تعني تدوين لحظات الظلام المدوخ بطائرات ودلاء مملوءة بمواد رديئة، أو بقطرات ماء تنزل منظمة على فضاء فارغ وطبلة أذن تتلقاها بعنف الصمت. قد لا تكون تدوين لحظات أعين تسعى إلى النوم، وجلادٌ بقامته السوداء يعيقها عن هذا النوم مع سبق الإصرار والترصد.
الكتابة الجسدية الراقية هي كتابة إلغاء للجسد بمعناه الضيق، والانتقال به من المستوى المعيش كما عيش إلى مستوى التخييل والتخيل. لا كتابة بلا خيال. افتقاده هو مجرد تكرار لوهم الكتابة لا الكتابة.
اكتب جسدك ولكن قل ما لا أستطيع أنا قوله. انتفض مكاني، وسأنتفض أنا في مكاني وأنا أتلقى بوحك الصادق. السيرة الذاتية هي مزيج من حكي ذاتي واقعي دقيق في زمانه ومكانه، وبين خيال متخيل تنتجه اللغة، هذه الفاعلة الكبيرة المخلصة أحيانا من براثين الظلمة والمقيدة أحيانا أخرى لهذا البوح، بما أنه لن يكتمل حتى ولو قرأه آلاف القراء المتمكنين من قواعد اللعبة اللغوية.
تخلصْ يا جسدي من آلامك. تخلصي أيتها الذات من جراح غرسها الزمن طويلا فيّ وأحاول عبثا التخلص منها أنا أيضا باليد التي أخط بها بعضا من جراحاتي على الورق، على الآلة، أو عبر الإنترنت.
الجرح سيلتئم بك يا قارئي، ضوِّئني بعيونك وأَثْنِ عليّ أو لا تثن، فقط ضَوِّئني بعيونك المفتوحة جيدا في وجه المرحلة.
السيرة الذاتية هي تجريب على تجريب، تجريب يَدويّ خطّي كتابي، على تجريب حدث ذات يوم بسيناريوهات متعددة. كاتب السيرة الذاتية هو فاعل آخر غير المجرب الأول، بما أن التجربة الأولى في حالة الفجر مثلا "هي تجربة  مستحيلة" كما عبر عنها عبد القادر الشاوي في أحد اللقاءات.
لماذا يكتب الناس سيرهم الذاتية؟ سؤال لا مبرر له بما أنه حاجة لكل الناس. كل كائن يبوح

بطريقته الخاص، فنا أو عمليا أو حتى عنفا. والسؤال الأهم ربما هو: كيف يكتب كاتب السيرة الذاتية؟ وما مقدار الأمانة في نقله تجربة عيانية جسدية ذاتية ارتبطت بالنفْس والنفَس لتتحول إلى سيرة على كل الألسن؟.
باح، يبوح بالسر، فهو بَوَّاح، وكتب سره وسجله بطريقة إبداعية استنادا إلى سيرته الذاتية هو بوح ثانٍ يختلف عن التجربة الأصلية الأولى. قُل واكْتب ففي ذلك بعض شفاء لنبرات حلقك التي خنقها جلادك ذات يوم، ولا زالت أثارها واضحة في لألأة عينيك الذكيتين وأنت تنقلهما بسخرية هنا وهناك، وكأنما خوفا من جلادك القديم. البوح الذاتي والإبداعي الجميل هو مخلص ومطهر لأيامك أيام طويلة ومستحيلة.
في آخر فقرة من ساحته الشرفية يشتت الشاوي بوحه علينا هكذا:

ا ل حَ قِ ي قَ ةُ ا ل مُ رَّ ة أ نََّ لِ كُـ لِّ شَ يْ ءٍ فُ رْ  قَ تَ هُ و ا شْ تِ يَ ا قَ هُ، حَ نِ ي نُ هُ و قَ سْ و تُ هُ، دِ فْ ؤُ هُ وبُ رُ و دَ تُ هُ. الحقيقة المرة التي تطالعني أنا الذي أريد الهروب هكذا كأنني ممسوس بهوى الاغتراب. فلماذا لا أعود إلى الوهم الذي علمني الكبرياء... على الأقل لأحتمي بشيء، ولو قليل، من الضياع؟
أليس الاحتماء من الضياع هو السر المكنون الذي تبحث عنه كل كتابة متلألئة ككتابة عبدالقادر الشاوي؟

[1] عبد القادر الشاوي، الساحة الشرفية، ص: 89.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.