ونظراً إلى ارتباط حقوق النساء دائماً بمشروع بناء الدولة الحديثة، فإنها لم تنل شرعيتها العميقة مطلقاً في الواقع المادي. وبظهور المنظمات غير الحكومية كان الهم الأول للسلطة هو الاستيلاء على عمل الناشطات النسويات واستغلاله وتوظيفه بواسطة الجهات "الرسمية" الممثلة للنساء، وهي غالبا هيئات تابعة للسيدة الأولى، حتى أن كل السيدات الأوائل كان المفترض بهن أنهن نسويات بالسليقة. فإذا أضفنا إلى هذا وذاك كيف قام نظام مبارك بفرض التجانس الشكلي على النساء (وكذلك الرجال) لنشر صورة غير حقيقية عن البلاد، أو طبقا لتصوره لعدم تشويه صورة الوطن، يمكن أن نفهم العداء البالغ الموجه ضد النساء الذي ظهر مباشرة بعد تنحي مبارك عن الحكم. كان الأمر مفارقا بشكل يعجز المنطق عن فهمه، فالجموع التي تنادي بالديمقراطية لا يمكنها تحمل ممارسة النساء لحقوقهن. وقد اتضح أول رد فعل صادم وعدواني
غير أن الباحثة المصرية رباب المهدي لديها تأويل مختلف لما حدث يوم 8 مارس 2011، وهي في مقاربتها المختلفة تعكس موقفها الإيديولوجي الذي يختلف مع مشروع ومفهوم حقوق النساء بأكمله. ففي ردها على سؤال ليلى أبو لغد عما تفعله المجموعات النسائية المتنوعة التي ظهرت في أعقاب 25 يناير في ضوء "استحواذ المنظمات غير الحكومية الممولة على العمل على حقوق النساء"، تقول رباب المهدي: "على النقيض من الساعين إلى تأويل تلك المشاركة الضعيفة باعتبارها كاشفة عن غياب الدعم لحقوق النساء، رأيت في ضعف الاستجابة لتلك الدعوة تعبيراً عن مدى انفصال تلك المنظمات وهؤلاء الأفراد عن المجتمع. إن رمزية اختيار التاريخ (8 مارس)، والذي لا يحمل أي أهمية لغالبية النساء المصريات، والدعوة إلى مسيرة لا تحمل مطالب محددة سوى "حقوق النساء" هي مسألة كاشفة. وكأن هنالك حزمة من الحقوق التي يمكن المطالبة بها بعيداً عن سياق أو موقف محدد". تبدو لي الإشكالية في هذا التحليل نابعة من رفض أي صلة بالسياسات العالمة للنسوية برغم أن النسوية عبر القومية هي أحد أشكال التضامن في اللحظة الحالية. كما أن رفض الاندماج عبر التأثير والتأثر في المجتمع الدولي الأوسع لهو أحد أشكال رفض التعددية. ربما يتوجب علينا أن نسأل عن عدم حصول تاريخ 8 مارس على أي أهمية حقيقية في المجتمعات العربية، وذلك بالرغم من أن ظروف العمل القاسية للعاملات في المصانع هي التي أدت إلى تتويج هذا اليوم بوصفه اليوم العالمي للمرأة. وهي ظروف لا تختلف مطلقا عن ظروف العاملات في المجتمعات العربية. تكمن المشكلة إذًا في تعمّد السلطة إقامة أسوار عزلة بين الداخل والخارج مما يزيد من الجمود الفكري الذي لا يقبل أن تكون حقوق النساء جزءاً أصيلاً من حقوق الإنسان والمواطنة.
إلا أن هذا الهوس السلطوي بفرض العزلة الفكرية لا يبقى على حاله دائماً، بل يتغير طبقاً لمصلحة السلطة ذاتها. فعلى سبيل المثال، وجه النظام الأسبق همّه الأساسي إلى إنكار وجود أي مشاكل قد تشوه صورة النساء المصريات، فأنكر وجود أي عنف ضد النساء في المجالين العام والخاص إنكارا تاما، وحين أصبحت قضية العنف جزءا من الأجندة الدولية وتزايدت حملات الأمم المتحدة ضد كل أشكال العنف ضد النساء اضطر النظام إلى تغيير خطابه تغييرا ساذجا. ولجأ المتحدثون الرسميون إلى تذكير الناس بتعاليم الإسلام وانتشر حديث "رفقا بالقوارير"، كما تعمد هؤلاء المتحدثون التأكيد على وجود عنف ضد النساء في العالم مع الإشارة إلى الولايات المتحدة الأميركية. كان الهدف من هذا الخطاب هو التأكيد أننا لسنا وحدنا
يؤكد ذلك أن النظام كان مهووسا بإنتاج صور إيجابية متجانسة عن النساء من أجل طرح صورة مشرقة للوطن. وهو ما تبعه استبعاد كافة الأصوات النسوية المغايرة والمعارضة، وكل مناصريهم، مع اعتبارهم "الآخر"، أي تم تصنيفهم باعتبارهم من الساعين إلى تشويه صورة الوطن وتخريب المشروع الوطني.
إن هذه الشعبوية التي مارسها النظام الأسبق ضد أعمال النشطاء وأصواتهم جعلت من الحتمي حدوث خلط بين حقوق النساء والنظام البائد، وهو من الأسباب الرئيسية التي أضفت على مصر ما بعد الثورة ذلك التناقض الظاهري بين الحقوق الديمقراطية والحقوق المدنية. فقد عملت سياسات الدولة على نشر صورة خيالية للتعددية والتنوع من أجل دحض تهمة الإقصاء، ولأنه مجتمع ينتمي إلى العالم الثالث فقد كان للنخب السلطوية دور كبير في نشر الصيغ البلاغية المشينة بشأن وجود مجتمعات وطنية متجانسة (تذكرنا بمقولة بينديكت أندرسون عن "المجتمعات المتخيلة") والصور الإيجابية اللازمة لبناء صورة محددة للوطن. وهكذا تحولت حقوق النساء إلى لازمة تؤشر إلى نظام بائد قامت ضده ثورة. ومن هنا يمكن فهم العدوانية الشديدة تجاه مظاهرة النساء في 8 مارس 2011.