يتوجب إذن الاحتفاء بهذه الترجمة كوسيط ثقافي وفكري وأدبي، كوسيلة لتوسيع العدسة الأدبية وتحويل تركيزها لآداب أخرى ظلت لفترة طويلة تُصنف بوصفها آداب الاتحاد السوفييتي.
تلترجمة وحدها هي الوسيلة لاكتشاف الآخر، هكذا عرفنا رسول حمزاتوف الذي أعلن بوضوح عن هويته القومية في ديوانه "داغستان بلدي"، وعن طريق جائزة نوبل تعرفنا على سفيتلانا أليكسيفيتش.
ثقافة مشابهة
لولا اختلاف الأسماء والمناطق ما كان يمكن أن نعرف أن هذه المختارات القصصية مترجمة. فهي قصص تتحدث عن ثقافة مشابهة، ليس بها ما يستدعي التساؤل، حتى أن جماليات الكتابة ليست غريبة على القارئ العربي مطلقا.
تتكون المختارات من 13 قصة كُتبت في محطات مختلفة في مسار الكاتبة. ولعلّ أشهرها قصة "الحادث" التي تُرجمت إلى الانجليزية عام 1988 ونُشرت في مجلة "الأدب العالمي
في القصص الثلاث البطلة كاتبة تحاول أن تحصل على ما تم التعارف عليه من أصداء فيرجينيا وولف على غرفة تخصها بمفردها. ففي أيسون تضطر الكاتبة إلى مجاملة الجيران من أجل السمعة الاجتماعية وتتحول إلى متفرج على الآخر- نساء ورجال- المهمومين بكل شيء ما عدا الكتابة والأدب، وهي مضطرة إلى ممارسة سلوكيات بورجوازية من أجل التعايش. وفي العصافير، تبدو الكاتبة في غاية القسوة على من حولها - الزوج والابنة - وكأن الكتابة هنا وبالرغم من أنها كانت تجذب العصافير إلا أنها طردت الابنة والزوج من الجنة، أما ليلة السبت فتسرد تفصيلا وبمتعة عالية شبكة الأدوار المعقدة التي لا تستطيع المرأة الفكاك منها؛ فهي أم وزوجة وابنة وكاتبة، وعندما تتمكن من النظر في الأوراق التي كتبتها من مدة وأهملتها تفقد مباشرة الثقة في نفسها وتُعلن أنها غير موهوبة، وما يرسخ هذا الاعتقاد هو رد فعل من حولها على كتابتها. إنها ثلاث قصص تؤكد أزمة الكتابة والنساء.
تستخلص مسعود من هذه الأزمة تيمة أخرى رئيسية وهي الأمومة، الأم التي تختار الكتابة كما يظهر في العصافير، الأم التي تسيطر على الابنة بشكل كامل حتى بعد موتها وتحاصرها من كل ناحية كما في "الوحيدة". لكن الأدوار الجندرية لا تظهر بشكل أحادي في القصص، بمعنى أن الجندر ليس هو الأمر الوحيد الذي يشكل الهوية والذات. دائما ما يأتي الجندر مقترنا بعوامل أخرى أهمها مثلا الطبقة، ويظهر ذلك في قصة "وحدي في المنزل"، حيث ينام الابن طوال اليوم ويشاهد أمه التي تبذل مجهودا كبيرا بوجه شاحب وجسد متعب لكنه لا يحرك ساكنا وكأن الأمر لا يخصه فكل ما يفعله هو السباحة في تهويماته الفكرية. وهناك أيضا قصة "قتلوني"، حيث تأتي الأم وابنتها فريدة من الريف للبحث عن ابنها المعتقل وتترك الابنة لدى أقاربها. لكن الابنة لا تتحمل الفوارق الطبقية والثقافية فتصرخ "قتلوني".
بما أن هناك تعدد الأدوار والأمومة فلا بد أن تكون هناك أهمية خاصة لشكل العلاقات بين الجنسين في الأسرة، فالعلاقات الأسرية في النهاية هي علاقات قوى قد تكون متوازنة كما في قصة "البجعة"، أو قد تميل لصالح طرف بما يؤدي إلى خنق صوت الإرادة الحرة، يظهر ذلك
لكن آفاق مسعود لديها هموم أخرى ليست منفصلة عن أدوار الجندر المحكوم بعلاقات القوى، لكنها تصب في المحاور الذهنية التي تُشكل المجتمعات والأفراد في علاقتهم بالسلطة. ومن أهم هذه القصص "العبقري" حيث يمنح الرئيس شقة للشاعر الشهير ومن ثم يمنح جميع أعضاء اتحاد الكتاب شققا فيموتون جميعا بعدها، وقصة "الرئيس" التي يتماهي فيها السياسي المتقاعد مع صورة الرئيس على شاشة التلفاز لأنه يعتقد تماما أن الرئيس يحادثه بشكل شخصي. في الأولى نفهم أن السلطة منحت الكتاب شققا من أجل عزلهم جميعا في مكان واحد، يتحاورون مع بعضهم البعض دون الاختلاط بالمجتمع، في الثانية نشهد أثر تماهي الفرد مع السلطة وعدم قدرته على الخروج من عباءتها بما يؤدي إلى نهايته.
حيّز مكانيّ ضيّق
تتحرك كل شخصيات آفاق مسعود في حيّز مكانيّ ضيق، وعندما تكون في الشارع- الفضاء العام- فهناك إما الظلام الحالك أو المطر الغزير أو مواء القطط. هي شخصيات محاصرة تسكن أفكارها وعندما تنخرط في حوار يأتي دائما مبتورا أو ملغزا، شخصيات تتعثر في القدرة على التعبير الصريح عن الذات. ولذلك لا يكون أمامها سوى وسيلة واحدة للتحرر وهي الأحلام.
في كل قصة تغوص الشخوص في أحلامها التي تكون وسيلة للتعبير مكملة لحبكة القصة. ليست الأحلام هنا هروبا من الواقع بقدر ما هي مكملة للواقع، وكأنها تمنح الحيز الضيق الذي تتحرك فيه الشخصيات براحا. تتحول الأحلام إلى وسيلة للتواؤم مع واقع خانق غالبا ما تشعر فيه الشخوص بالاغتراب والوحدة.