}

إعادة اكتشاف «سيتي سنتر» بوسط بيروت: ذاكرة صحيحة

أحمد محسن 12 ديسمبر 2019
آراء إعادة اكتشاف «سيتي سنتر» بوسط بيروت: ذاكرة صحيحة
"هناك من يستسهل الحديث عن انسلاخ العمارة عن الواقع"
يقال إن المهندس جوزيف فيليب كرم أراد لمبنى «سيتي سنتر» عند تشييده في وسط بيروت ألا يكون مألوفاً. وهذا بحد ذاته ليس غريباً في السائد عن العمارة، لكن شرطه الحفاظ على حد من التناسق والانسجام مع المحيط. بهذا المعنى، لم يكن المبنى «البيضاوي» مألوفاً، لكنه بحسابات مجايليه في السبعينيات كان أليفاً. ما وجده المتظاهرون أخيراً، وغالبيتهم من الشباب، هو مبنى مهجور، وقفوا على سطحه ونظروا إلى مدينة لم تعد موجودة. وجدوا ضحية مثلهم ومثل مدينتهم. كان يفترض أن تكون الطبقة الأخيرة منه قاعة السينما الضخمة، على عكس الفكرة السائدة عن وجود دور السينما تحت الأرض.

هكذا سمحت بيروت، في سبعينيات القرن الماضي، لمهندس المبنى أن يكون خياله واسعاً لهذه الدرجة. أن يضع كل شيء في الطبقات التي تحت، وأن يرفع السينما إلى فوق، بحيث يمكن النظر إلى المدينة كما لو أنها عرض دائم لفيلم دائم. جاءت الحرب وتوقف العرض. أغلقت السينما أبوابها. وعندما اكتشف المتظاهرون مبنى «البيضة»، لم يكونوا يكملون الجزء الناقص في هوياتهم تجاه مدينتهم التي انسلخوا عنها، بل كان المبنى يبادلهم الأمر نفسه. وسط بيروت ليس القاهرة، وبالتحديد علاقة البيروتيين الشباب بوسط مدينتهم ولعدة أسباب، ليست كعلاقة القاهريين بمدينتهم، كما يصفها حسن داود في كتابه «فيزيك». ولهذه الأسباب، فإن الصعود إلى المبنى خلال الانتفاضة، هو إعادة تعارف بين الطرفين. مدخل لعلاقة جديدة مع المدينة، من باب المبنى الذي نجا من محاولات كثيرة للسطو عليه. بغض النظر عن المحاولات العقارية، فإنه نجا من محاولات العبث بهويته، ولا سيما ذلك المشروع العجيب الذي قضى بتحويل سقف التصميم الفريد للمبنى، والذي يشبه البيضة فعلاً، إلى كتلة من الضوء، على أن يدخل في هذا التصميم أدوات أخرى، مثل المرايا. لحسن الحظ اختفى هذا المشروع، وإلا لكان أكسب المكان ذاكرة خاطئة أخرى، وكان في أحسن الأحوال ليكون تحديثاً مبالغاً فيه.

 

الانكفاء إلى حدود الجسر
منذ التسعينيات وحتى تشرين الأول/أكتوبر الماضي، كان المبنى مجرد شبح يراقب السيارات التي تقطع الجسر بالاتجاهين. وقد أنتج الجسر الذي يقطع بين الأحياء السكنية وبين وسط المدينة، ما يشبه الامتداد لخط التماس، من حالته العسكرية خلال الحرب، إلى خط تماس «رأسمالي» بين طبقتين. الانفتاح الذي سببه هذا الجسر، الذي يمكن الوصول إليه مشياً من شبح السيتي سنتر، باتجاه الأحياء وصولاً إلى الضواحي، تزامن مع انكفاء متواصل للأحياء والضواحي على نفسها، نمت خلالها نزعات خاصة. وهذه المسيرة الطويلة، لا يمكن فهمها من دون فهم تمثيلاتها النظرية، في العلاقة المقطوعة بين المبنى الذي نتحدث عنه وبين المدينة. كذلك هي مسيرة لا يمكن استعادتها إلا بفهم الممارسة الطبيعية للمتظاهرين، الذين حاولوا اكتشاف المبنى كما لو أنهم يكتشفون صورة المكان قبل هجمات الرسملة الضارية. وهذه مفارقة كبيرة، لأن السيتي سنتر في السبعينيات كان مشروعاً رأسمالياً متقدماً، وصارت العودة إليه في 2019 اعتراضاً على المدينة الرأسمالية. هكذا، ولولا «الدوم» كما يسمّيه البعض، لاقتصرت ذاكرة المكان على دور العبادة، من مساجد وكنائس، عمل الإعمار على طمس تاريخها، وإصدار وثائق ميلاد جديدة لها. فالجامع العمري الذي يقع على مقربة من مبنى بلدية بيروت، يحضر في الأدب، عندما يحضر في «دروز بلغراد» لربيع جابر، بينما لا يحضر مسجد الأمين الجديد، إلا في اعتصامات 14 آذار الشهيرة، التي دشنت ساحة الشهداء كملعب للتظاهر. بهذا المعنى، فإن المتظاهرين الذين يحملون شعارات جديدة، يبحثون عن رموز جديدة في الماضي القديم. ذلك أن محيط الدوم، تنحسر فيه علامات الماضي إلى أسفل الدرجات، ويختنق فيه الحاضر بشعارات سياسية لم تكن سوى استكمال للحرب.


بعد الحرب تطورت المدينة حول المبنى، لكن التطور الذي نتحدث عنه هو تطور غير متناسق، بحيث تجتر المباني المحيطة به نفسها برتابة، أما المساحات التي يمكن الافتراض أنها مساحات، فبقيت خالية من الروح. المبنى الذي بقي على الطرف، حافظ على وظيفته واستعادها، أي إعادة التواصل مع الجيل الذي فقد إمكانيات التواصل مع المدينة على نحو تام، حيث لا يوجد مركز، يدل على أن وسط المدينة هو المركز. حتى الساحات التي استقبلت التظاهرات، تعامل معها المتظاهرون كمركز لوجودها في المنتصف، بينما قد يكون المركز الحقيقي هو مكان مبنى «السيتي سنتر» تحديداً. المبنى، الذي رغم احتمالات التحفظ على عمارته المغالية في التحديث أكثر من التزامها شروط الحداثة، يساهم في سد فجوة كبيرة خلفتها الأسواق التجارية في وجه الوسط التجاري وفي أنحاء جسده. لا مفارق للخروج من هذا الوسط الذي يشبه المتاهة. لكن الوضع مختلف تماماً في «سيتي سنتر». الصعود إليه يمثّل صعوداً إلى المدينة، ومحاولة «احتلاله» عكست التباين بين ثنائيات متضادة، بالمعنى النيتشوي للكلمة. بين جيلين، من يعرفها ومن يكتشفها. بين طبقتين، من وجدها رحبة ومجانية، وبين من سارع لإلقاء المحاضرات واستعراض المعرفة كأداة سلطوية انطلاقاً منها. إنه مكان محدد، له بداية ونهاية، من الناحيتين الزمنية والمكانية. ما يميّز هذا المبنى الكبير فعلاً، من الناحية الزمنية، أنه بدأ في وقت يمكن الاعتراف به، أي بالسبعينيات، بينما لا يعترف معظم اللبنانيين بما حدث في مدينتهم خلال ما سمي «إعادة إعمار بيروت». لقد وجدوا كل شيء هكذا فجأة تجارياً ويدفع إلى العبوس. بعد انتفاضتهم الأخيرة، صعدوا إلى سطح المبنى لينظروا إلى تاريخ حديث لبيروت. تاريخ يمكن أن يتحدثوا عنه، أو أن يقفزوا منه فوق الحرب.

 

بين زمنين رأسماليين
رغم كل شيء هناك من يستسهل الحديث عن انسلاخ العمارة عن الواقع. لكن العمارة هي أوضح نموذج للطموحات، وفي تحولاتها تغدو مثالاً واضحاً للمآلات أيضاً. في معرض اعتراضه على نظرية الفصل بين الواقعين السياسي والاجتماعي للبلد من جهة والعمارة من جهة ثانية، يذكر المعماري اللبناني عاصم سلام التجربة الإنكليزية في القرن التاسع عشر. كان ذلك حدثاً مرتبطاً بالاقتصاد أيضاً، وفي فترة الثورة الصناعية، حيث أعيد إحياء الأسلوب الغوطي Gothique في العمارة، نتيجة التباين بين الكنيستين الكاثوليكية والانجيلية، في ظل إصرار على ابراز معالم قومية وطنية للإمبراطورية البريطانية، عبر ربط الهندسة المعمارية آنذاك بجذورها الغوطية، وفصلها تماماً عن جذور هندسة النهضة الإيطالية الكاثوليكية. لكن عمارة وسط بيروت، إن كان ذلك عبر مبنى السيتي سنتر المعاد اكتشافه كحالة اكزوتيكية، أو في العمارة الكولونيالية بعد نهاية الحرب، تعكس واقعاً رأسمالياً أشد قسوة، في السياسة وفي المجتمع. النقاش الديني في عمارة وسط بيروت ممكن، لكنه مؤجل، على الأقل حتى تراجع انبهار المتظاهرين بمبنى «البيضة» كشاهد أخير على محاولات التحديث في زمنين: رأسمالية ما قبل الحرب، والرأسمالية التي بعدها. الاكتشاف السوسيولوجي للمول المهجور يبقى لافتاً وبشدة، بوصف المبنى مجالاً عاماً، كان جاهزاً في خرابه لاستقبال أفراد بهويّات مختلفة، من دون حسابات.
يقع المبنى في المنتصف تماماً، بينما يقع الوسط خارج حدود اسمه، في جزيرة محدثة، في موازاة ذلك بقي المبنى خارج التحديث، ما سمح لمكتشفيه مسح آثار الوسط عنه، والتعامل معه كناجٍ جديد من الحرب. رغم أن المبنى كان مجمعاً تجارياً في الأصل، إلا أن فكرة الوظيفة المدينية كانت حاضرة فيه كحيّز عام، أكثر من حضورها في المولات التي ظهرت بعد الحرب، وظهرت كمقاطعات طائفية تتنوع فيها الوظائف. كان صعود الناس إليه اكتشافاً كبيراً للحاضر، أكثر من كونه اكتشافا للماضي. ومن هنا يبدأ المستقبل على أي حال.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.