}

السجن بوصفه مكاناً لخلق مواطن طبيعي

مها حسن 3 نوفمبر 2019
آراء السجن بوصفه مكاناً لخلق مواطن طبيعي
"أحسد مواطني هذه البلاد على أنظمة حكمهم" (Getty)
وافقت متحمسة على اقتراح فيولا، صديقتي الصحافية الإيطالية المقيمة في باريس، لمرافقتها مع صحافيين آخرين، لزيارة مصلحة السجون في باريس.

اعتقدت أنني سألتقي بالمساجين، أو السجينات، حيث شغفي للتحدث إليهم عن قرب. كان بعض أصدقائي الصحافيين قد التقوا بمساجين في باريس وغيرها من المدن، وقدموا محاضرات عن الصحافة والأدب والسياسة. كما روى لي صديق كاتب، عن مناقشة المساجين لكتابه المتوفر باللغة الفرنسية، وطرح أسئلة من أشخاص لم يخطر في باله اهتمامهم بالأدب.

ذهبت مدفوعة بهذا الهاجس: الحوار مع المساجين، وعلى الأخص مع السجينات، واكتشاف عوالمهم عن قرب.  لكن خيبة الأمل رافقتني بعد ثلاث ساعات من التجوال الطويل، وتلقي شروحات معقدة وتقنية، من مسؤولين عن السجناء، إلى أن شعرت ببعض الغضب، ولا أنكر، بالغيرة، من العناية الفائقة التي يحظى بها السجناء، إلى أن يفكر أمثالي القادمون من بلاد تؤثّم السجين وتُرهبه، إلى أية درجة يبدو السجن في الغرب حالة ترف قد تشجع على ارتكاب جرم ما، للحصول على تلك الخدمات.
اشتد النقاش بيني وبين الموظف المسؤول عن قسم " السكن"، حين كان يشرح خطوات تأمين السكن للسجين، الذي يخرج تحت مراقبة، مصحوباً بالإسوارة الإلكترونية التي تتتبّع سيره، ومجال حركته المقيّد بشروط صارمة، ليقول الموظف بأنهم يسعون فوراً لتأمين أماكن إقامة للمساجين المتشردين، أو الذين ليست لهم أماكن سكن، لأن هذا يسهّل التواصل مهم، وتتبّعهم.
بمعنى آخر، ينتقل المتشرد الذي لا مأوى له، في حال ارتكاب جرم، وفي حال محاكمته دون احتجازه، إلى سكن ويحصل على خدمات عديدة، لم تكن متاحة له، في ظرفه العادي، قبل ارتكاب الجرم.
قلت للمشرف على القسم: أنتم تشجعون الجريمة إذاً؟ أنا كسورية أشهد حالات العديد من اللاجئين السوريين الباحثين عن مأوى، أتخيل أن وضع المتّهم بجريمة ـ حيث لا يحق لي استخدام وصف المجرم ـ بمثابة نعيم قياساً للاجئي الحروب من جميع أنحاء العالم، الحالمين بالأمان في أوروبا.
ساد جو من الضحك المشوب بالاستنكار بسبب مداخلتي الطويلة، ليحدثني المشرف عن مقارنات أخرى، بين فرنسا وبلاد تتقدم عليها في الشروط " المثالية" للسجناء، ليضرب لي مثالاً عن السويد التي تتقدم على فرنسا في تأمين الخدمات.
كنت خارجة للتو، من قسم الرعاية النفسية، في مبنى مصلحة السجون ذاته، حيث يخصص للوافد الجديد (المتهم بارتكاب جريمة والمنتظر للمحاكمة) مستشارين اجتماعيين وأخصائيين نفسيين وقانونيين لمساعدته في إعادة الاندماج في المجتمع، حيث يخضع لعدة ورشات وبرامج توعوية تتعلق بتعريفه على مفاهيم جديدة، وشرح أخطار العنف العائلي، أو العنف الجنسي، وأخطار الكحول، والمساعدة على مكافحة الأمية، والتخلص من الإدمان، وما هناك من معلومات طبية وعامة يحتاجها الشخص لتغيير علاقته بالعالم، وتخليصه من عالم الجريمة. لهذا، حين وصلت إلى قسم السكن، لم أتمكن من ضبط مشاعري في حسد هؤلاء الناس، المتّهمين بارتكاب جرائم، والمنتظرين أحكام القضاة النهائية.

خلق مواطن طبيعي
شرح لي المشرف مطولاً أن هذه النفقات الباهظة، من تأمين سكن للمتهمين، وتأمين الرعاية الصحية والنفسية والثقافية، تساهم في خلق مواطن طبيعي يخدم مجتمعه لاحقاً وتؤمن لهذا المجتمع شخصاً منتجاً وفعالاً، سيكلف الدولة نفقات أكثر في حال تُرك من دون رعاية وظل ميالاً إلى عالم الإجرام.
انتقلنا، نحن الضيوف متعددي المهن: قانونيين، صحافيين، كتّاب، مشرفين اجتماعيين متمرنين، إلى القسم اللاحق: الورشة الثقافية.

 "في سجوننا، خاصة في حالات السجن السياسي، أغلب المساجين شخصيات واعية وقارئة ولديها موقف فكري وسياسي من الأنظمة الحاكمة، لكن يُمنع إدخال الكتاب إليهم"

بما يمكن ترجمته بثقافات القلب، تعتني هذه المؤسسة الحاملة لهذا الاسم بتوفير نشاطات عديدة، يمكن للسجين الاستفادة منها. حصلت على النسخة الأخيرة من البرنامج الثقافي لشهر تشرين الأول/أكتوبر الفائت لأعثر على هذه النشاطات في الأسبوع الواحد: زيارة لمعرض في متحف اللوفر، حضور عرض سينمائي في المركز الوطني للسينما، محاضرة عن العلوم والمعارف في مركز الأرشيف الوطني، حفلة موسيقية في مدينة الموسيقى، وغيرها من نشاطات ثقافية مؤمنة جميعها بالمجان، ليس فقط للمتهم السجين أو الذي تتم محاكمته وهو خارج السجن، بل لمن يرغب بدعوته ومرافقته من أقارب أو أصدقاء.
حدثتنا المشرفة في القسم الثقافي عن دور الثقافة في تنمية مهارات السجين وتحويله إلى كائن عادي مندمج بالمجتمع، وتخليصه من العنف والميل للجريمة، شارحة لنا مطولاً عن حالات أشخاص كثيرين خرجوا من السجون ليعيشوا حياة عادية منتجة، حيث نقص الاهتمام، ونقص المعرفة، والظروف السيئة، هي التي تقود أحدهم لارتكاب جريمة ما.
شرحت لنا المسؤولة في هذا القسم، الفعاليات والنشاطات التي يتم اقتراحها على السجين، من حضور المسرحيات وزيارات المتاحف، وغيرها من النشاطات الثقافية والفنية، وكذلك عن مكتبة السجن، والكتب التي يتم تزويد المكتبة بها، لم أتمكن من التوقف من التفكير بالمقارنات الظالمة. ففي سجوننا، خاصة في حالات السجن السياسي، حيث أغلب المساجين شخصيات واعية وقارئة ولديها موقف فكري وسياسي من الأنظمة الحاكمة، لكنه يُمنع إدخال الكتاب إليهم، ويتم تهريب الكتب كأنها مواد محظورة. كما تذكرت حديثا لصديق سوري أخبرني أنه يُمنع إدخال الكتب في الثكنات العسكرية للجيش أيضا. تعتبر هذه الأنظمة المعرفة سلاحاً فتاكاً، لا تريد لشعوبها امتلاكه، على العكس مما أرى وأسمع هنا في باريس.
يُعامل السجين هنا كشخص يجب رعايته لإعادته إلى الحياة الطبيعية، لهذا يتم تأمين كل هذه الخدمات له، ويُستقبل منذ وصوله من قبل شخص يشرف على ملفه، ويتابعه، ويساعده على اختيار مشروع يود العمل عليه أثناء فترة محكوميته، حتى يتسنى له العمل بعد انتهاء مدة المحاكمة، وامتلاكه لحق العمل.
هذه هي الصورة الموجزة، القانونية والخارجية التي رأيتها، في مصلحة إدارة السجون، التي تعتبر من أولى مهامها مسؤولية إعادة إدماج الأشخاص الخاضعين للرقابة القضائية، سواء أكانوا أحراراً أو مُحتجزين. كما تضمن هذه المؤسسة، التابعة لوزارة العدل، احترام الالتزامات التي يفرضها القضاة لتطبيق الأحكام، كحالات وقف تنفيذ الحكم ووضع الشخص تحت الاختبار، والإفراج المشروط، ووضع الإسوارة الإلكترونية في حالة الترحيل من السجن، وكذلك تسهيل الحصول على العمل بعد الخروج من السجن.
خرجت من المبنى حزينة، أحسد مواطني هذه البلاد على أنظمة حكمهم، غير مقتنعة برد المشرف المتواضع، بأن أوضاع المساجين في فرنسا ليست الأفضل في العالم، بل تبدو متأخرة قياساً لبلاد أخرى. تذكرت بمزيد من المرارة أوضاع المثقفين والكتّاب والشعراء المعتقلين في سورية وغيرها من البلاد العربية، تذكرت الروايات والأبحاث والقصائد التي كتبها أصحابها في السجن، وكانوا يهرّبونها إلى الخارج، لنجدتها من أيادي السجانين.
دفعني الفضول للبحث على الإنترنت، عن شروط السجون في بلاد غير فرنسا، لأقرأ أوصاف حيوات المساجين في النرويج واسكتلندا والنمسا وغيرها، لأتحقق من كلام المسؤول في السجن الباريسي. تقول الأخبار بأن المساجين في النرويج يلعبون التنس ويركبون الخيل، وفي إسبانيا هناك سجن يؤمّن إمكانية إقامة الأطفال مع آبائهم المساجين. وبسبب الأحوال الجيدة والمرفّهة للمساجين، تم إغلاق عدة سجون في بعض المقاطعات الألمانية لانخفاض مستوى الجرائم وقلة المساجين. كأن المشرف الفرنسي الذي حاورني كان على حق: تأمين هذه الخدمات للسجناء، يقضي أو يحدّ من عالم الجريمة.   

(فرنسا)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.