}

تقسيم جديد وغريب للأدب السوري

عارف حمزة 20 نوفمبر 2019
آراء تقسيم جديد وغريب للأدب السوري
لوحة للرسام السوري عبد الله العمري
تقسيمات كثيرة طالت الأدب العربي، والكثير من الآداب العالمية، منذ زمن بعيد، وعادة ما كانت تحدث هذه التقسيمات من قبل النقّاد بعد مرور فترة جيدة من الزمن على بروز ما يوجب هذا التقسيم. مع أنّ هذه التقسيمات ليس موجبة لأحد، بقدر ما هي مفيدة للدراسات النقدية، ودارسي الأدب.

وربما الأدب العربي هو من أكثر الآداب التي لم يكفّ النقّاد عن التدخل في تقسيمه، ولم يتركوه جزءاً من الأدب العالمي، رغم أنّ العديد من أولئك النقاد لم يقم بتأليف هذا الأدب، بل كان البعض، من هؤلاء العديد، لا هم له ولا عمل سوى وضع تلك القيود النقديّة أمام كل موجة جديدة من الأدب كانت تكسر القيود السابقة التي وضعها أولئك البعض للمرحلة السابقة.
أدب الرحلة. أدب المهجر. أدب المنفى. أدب السجون. أدب الإلتزام أو الأدب المقاوم. أدب النكبة.... وغيرها من التقسيمات التي اعتمدت على الزمن. ولكن منذ فترة بعيدة لم نسمع عن تقسيم جديد للأدب، بعد الكارثة التي أحدثها تقسيم "الأدب النسوي"، والذي وُصف بأنه تقسيم عنصريّ، قبل أن يُسيء إلى الأدب نفسه.

لكن مع موجة اللجوء التي دفعت بملايين السوريين للفرار من بلدهم، انتبه مركز "حرمون" للدراسات المعاصرة بأنّ دراساته الإجتماعية قد تشمل الأدب أيضاً؛ إذ لا توجد ضمن "الوحدات المتخصصة" الخمس التابعة له ما يحمل اسماً يدلّ على الدراسات الثقافيّة، أو النقديّة المتعلقة بالأدب. فأصدر دراسة مثيرة للإستغراب بعنوان "أدب اللجوء السوري، الشتات والتعبير الأدبي" لكاتبه محمد السلوم.
كل دراسة هي أمر جيد لمناقشة الأفكار التي قد تولّد أفكاراً جيدة، وقد تمحي أفكاراً سابقة، وربما تمحي فكرة الدراسة نفسها؛ إذا كانت غير متعمقة ومعتمدة على أساسيّات واضحة بقصور الفهم الأدبي وآليات البحث والنقد الأدبي.


التعريف الغامض والفضفاض
عادة تكون التعريفات واضحة ومحددة بقليل من المفردات، حتى يكون ذلك مفيداً للدارس والقارئ. ولكن تعريف "أدب اللجوء" في هذه الدراسة جاء فضفاضاً وغير واضح المعالم. والدراسة تنطلق من أدب اللجوء السوري تحديداً؛ سواء في عنوانها أو عندما جاء في مقدمة الدراسة "تهتم هذه الدراسة بأدب اللجوء السوري، وتتطرق بشكل موجز لأعمال أدبية عدّة، تعكس واقع اللجوء الثقافي والاجتماعي والسياسي".

وبعد الافتتاح بالتعريف الوارد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وإيراد عدة مقولات لإدوارد سعيد حول المنفى (وليس الملتجأ) والكاتب المنفي (وليس الكاتب اللاجئ)، تضع الدراسة تعريفاً كهذا: "إذاً يحاول أدب اللجوء فهم سلوك الجماعات المهاجرة، وكثيرون يحاولون الانخراط في المجتمعات على نحو ما يقتضي العالم منهم ذلك، ولكنهم سيجدون الحواجز مرتفعة للغاية والجروح التي تصيبهم بالغة العمق، وأدب اللجوء هو أدب سياسي واجتماعي على نحو هادئ، فالقلب السياسي الاجتماعي له يعيش ثورة داخل لاجئ تمزق داخله ويعيش انقساماته الداخلية، وهو صارخ أحياناً في كشف شخصية الأغلبية اللاجئة المكتئبة والوحيدة والمنعزلة للغاية والبعيدة عن الحياة كل هذا البعد وحتى غير الناجحة، على الرغم من المحاولات العبثية لردم تلك الهوة. قد يسعد بعض اللاجئين برؤية نجاح بعض أبناء هويتهم الأم وقد أنجزوا شيئاً جيداً، ولكن ذلك يحمل الثقل الكثير فضلاً عن الرفض والاستنكار، ولكن أدب اللجوء يتصدى لذلك الأمر، فينظر للاجئين بوصفهم فاعلين لا ضحايا فحسب"!!.
وهو تعريف، بغضّ النظر عن عدم ترابطه وعاطفيّته المجانية، يبدو مرتجلاً وغير مترابط. يكفي أن يقرأ أحدنا أول جملتين من التعريف ليفهم سوء الصياغة والفهم التي وقع بها كاتب الدراسة: "إذاً يحاول أدب اللجوء فهم سلوك الجماعات المهاجرة، وكثيرون يحاولون الانخراط في المجتمعات على نحو ما يقتضي العالم منهم ذلك، ولكنهم سيجدون الحواجز مرتفعة للغاية والجروح التي تصيبهم بالغة العمق"!!

مصطلحات خاطئة
لا يأتي التعريف المنشود في مكان محدد؛ بل هو مبعثر في كثير من أقسام الدراسة، التي امتدت لنحو عشرين صفحة، ولا يذهب في النهاية لاستخلاص تعريف جامع وواضح ومحدد، كما تقتضي أصول البحث والنقد. فنقرأ في مكان آخر: "أدب اللجوء يواجه التغريبة السورية وغير السورية من مختلف الشعوب، ويحاول كشف الأخطاء الأخلاقية، ويشكل حالة ملحمية من تجربة حقيقية، وهو الأدب الذي كسب اللاجئون فيه حرية الفكر بعد سلطة استبدادية غاشمة تقمع، وهو حرية التعبير عن هذا الفكر المتحرر ويمكن عدّه أدب نبوغ فكري، ويمثل إنسان العصر الغريب الجامح في قسوته".
أخطاء أخلاقية؟ حالة ملحمية من تجربة حقيقية؟ الأدب الذي كسب اللاجئون حرية الفكر؟ يبدو أن كاتب الدراسة يخلط بين حرية الفكر وحرية التفكير وحرية الكتابة. وبالتالي لا يجد مخاوف نقدية عندما يسمي ذك الأدب "أدب نبوغ فكري"!


حكم قيمة بأثر رجعي
رغم أن لا أحد سمّى تجربة "الشتات" الفلسطيني بأدب اللجوء. ورغم أن لا أحد أطلق على الأدب العراقي، الذي كُتب من كتاب فرّوا من العراق خلال حكم صدام حسين، أو خلال الحرب العراقية الإيرانيّة، أدب لجوء. إلا أن كاتب الدراسة يكتب: "ظهر أدب اللجوء العربي بوضوح بعد ثلاث نكبات: الأولى بين عامي 1948 و1967 بسبب الكيان الصهيوني والصراع العربي الإسرائيلي. (الثانية) غزو العراق من قوات الاحتلال الأميركية في عام 2003 الذي أدى إلى لجوء ملايين العراقيين نحو دول الجوار وأوروبا وأستراليا. (الثالثة) النظام السوري الذي واجه ثورة الشعب السوري في عام 2011 بقمع شديد أفضى إلى لجوء حوالي نصف الشعب السوري". 
ورغم أن لا أحد أطلق هذه التسمية على الأدب الفلسطيني والأدب العراقي (الذي يُقصره على ما بعد الغزو الأميركي فقط، كأن الديكتاتورية لم تهجّر أحداً أو لم يهرب أحد منها)، إلا أن الكاتب يُريد أن يُطلق "فتحه" النقدي هذا بأثر رجعي. إنه اختراع نقدي في النهاية، ويجب على النقاد، من بعد نشر هذه الدراسة، أن يتخلوا عن مصطلح "أدب الشتات" و"أدب المنفى" بل فقط أدب اللجوء!!.

المضحك في الأمر أن الكاتب حدد بداية "تجربة اللجوء العراقية" أو ما يُعبر عن تلك التجربة من خلال رواية "أقمار بغدادية" الكاتبة السورية نور مؤيد الجندلي!! رغم أن الجندلي سوريّة وليست عراقية، وولدت في عام 1978 ونشرت روايتها هذه في عام 2010. ولكنها ربما تعتبر رائدة في أدب اللجوء العراقي، بالنسبة لكاتب الدراسة، لأنّ الرواية "عن قصّة عائلة عراقيّة من الطبقة المتوسّطة تضطرّها الحرب إلى اللجوء نحو دمشق". بينما قبل عام 2010 لم يكتب أي كاتب عراقي شيئاً يدل على "أدب اللجوء".

هل هو مصطلح عنصري؟
يجد كاتب الدراسة أن "من رواد أدب اللجوء العالميين الروائي الأفغاني اللاجئ في الولايات المتحدة خالد حسيني الذي قدم روايات مهمة من أهمها "عداء الطائرة الورقية" و"ألف شمس مشرقة"، وقد لجأ إلى الولايات المتحدة عام 1980 في إثر التدخل السوفياتي في أفغانستان، وجرى تعيينه سفيراً للنوايا الحسنة لشؤون اللاجئين، وزار اللاجئين السوريين في الزعتري وغيره من مخيمات اللجوء السوري، وكتب ببلاغة مؤثرة عن أزمة اللاجئين السوريين".
وهذا الكلام لوحده ينسف الدراسة من أساسها؛ بغض النظر عن وضوح جهل كاتب الدراسة بالروايتين التي ذكرهما لحسيني، لو أخذنا بعين الاعتبار الكتاب الذين لجأوا لدول أخرى بسبب الحربين العالميتين، أو بسبب الحروب الدينية القديمة، إذا لم نأخذها منذ بدايات تكوين الإمبراطوريات والدول. وكأنه لم يكن هناك كتاب سوفيات ولا ألمان ولا رومانيين، ولا من بقية دول القارة الأوربية ولا من أميركا اللاتينية، فرّوا من بلدانهم وصاروا في مناف مختلفة.
أحد الرواد هو خالد حسيني. هكذا ببساطة لأنه "لاجئ"!!

ألا يبدو هذا الوصف "الكتابة من لاجئ" وصفاً عنصرياً؟ ألا ينزل منزلة "الكتابة النسوية"؟ إذا أخذنا الأمر من الناحية الأدبية فقط. وكأنّ الكتابة التي يكتبها لاجئ هي شيء آخر. أدب آخر. وربما علينا أن ننظر إلى ذلك الأدب بعين الشفقة، وليس بشروط النقد الأدبي. وكأنّ صفة اللاجئ يجب أن تطارد ذلك الكاتب حتى ولو اكتسب جنسية الدولة التي لجأ إليها.   

الأدب هو رواية فقط
بالنسبة لكاتب الدراسة يُكتب أدب اللجوء ليس فقط من الكتاب اللاجئين، بل هو كل رواية كُتبت عن شيء يتعلق باللجوء. ولو حتى صفحة. ولو حتى بسبب ذكر كلمة لاجئ في الرواية. وبالتالي يستطيع أن يمدّ الأثر الرجعي لمصطلحه العظيم ليس فقط إلى زمن النكبة؛ بل إلى الوقت الذي طُرد فيه آدم من الجنة ونفي إلى الأرض. وهكذا يُعتبر كل الأدب الذي كُتب منذ بداية الخليقة هو أدب لجوء ليس إلا.
ويبدو أن الأدب بالنسبة لكاتب الدراسة هو فن الرواية فقط؛ إذ طوال تعبه المهدور في هذه الدراسة كانت جميع النماذج روايات، وللأسف كانت هذه النماذج أيضاً، في كثير من الأحيان، خاطئة. ولا يتناول الكاتب، ولو على سبيل التنازل الفكري، المسرح أو الشعر أو القصة. وهو خطأ فادح ينسف أي دراسة تحمل عنواناً من قبيل "أدب اللجوء السوري" وتتناول جنساً أدبياً واحداً.
المشكلة لا تكمن في طرح مصطلح أدبي جديد، بل المشكلة تكمن أن هذا المصطلح يتم طرحه هكذا ببساطة وارتجال، ومن دون إثباتات ودلائل ودراسة معمقة، بل كذلك من دون معرفة وجهل بأصول النقد والبحث. دراسة تبدو مثل كارثة تضاف إلى الكوارث التي عاناها ويُعانيها الشعب السوري خاصة، والعالم العربي والعالم بشكل عام.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.