}

عن قيمة الثقافة في ظل عدم وجود المتلقي

هشام أصلان 17 نوفمبر 2019
آراء عن قيمة الثقافة في ظل عدم وجود المتلقي
لوحة "زهرة الخشخاش" لفان جوخ
المترجم المصري، أحمد صلاح، كان قد عاد من روسيا في إجازة قبل فترة، عندما تقابلنا صدفة على "زهرة البستان"، وحكى لي عن متحف صغير في إحدى ضواحي موسكو. ليس متحفاً بالضبط، ولكن مبنى مجهز بقاعتين، واحدة للموسيقى، والثانية للعرض. ويحدث أنه بين فترة وأخرى، تخرج إحدى اللوحات المهمة من متحف الأرميتاج في مدينة سان بطرسبرج، الذي يعتبرونه هناك المقابل الشرقي لمتحف اللوفر في باريس. تأخذ اللوحة طريقها مارة على المدن والضواحي الصغيرة، وتدخل قاعات مجهزة مثل التي رآها صلاح، حيث تنفتح القاعة لعدد معين من الساعات، مثلما يحدث في حفلات السينما، ليذهب سكان الضاحية الصغيرة، بعدما يرتدون ما يليق، إلى القاعة المرصوصة بداخلها مقاعد، وبتنظيم معين للدخول تماماً مثلما يحدث في دور العرض السينمائي، يستمعون إلى عزف الفرقة الموسيقية، ثم ينتقلون للفرجة على اللوحة المعروضة، حتى ينتهي وقت الحفل ليخرجوا بنظام. وهؤلاء الذين يذهبون للفرجة والاستماع هم سكان الضاحية من موظفين وصنايعية وبائعين في محلات، أو جائلين وجامعي قمامة.. إلخ.

لم أكن منبهراً في ما يحكيه، بالتنظيم، أو التحضر، أو هذه المسائل التي لم تعد تدهشنا، ولكن توقفت كثيراً عند علاقة المواطن العادي بنوع من الفن لا يعتبر جماهيرياً. وتذكرت أن متحف محمود خليل في قلب القاهرة، الذي سرقت منه لوحة "زهرة الخشخاش" الشهيرة لفان جوخ ولم يعرف لها طريقاً حتى اليوم، يضم بين مقتنياته أعمالاً فنية أهم في القيمة بكثير من "زهرة الخشخاش" نفسها وفق المتخصصين، بينما يبقى السؤال عن فائدة أن تكون لديك مقتنيات فنية كهذه، أو أن تكون حتى بلداً ينتج فناً عظيماً من دون أن تجد المتلقي الذي يستمتع به.
الحكاية السابقة استدعيتها أثناء الاستماع إلى مناقشة امتدت نحو أربع ساعات في صالون ثقافي يعقده وزير التعليم الأسبق، أحمد جمال الدين موسى، وكان من بين الحاضرين عدد كبير من المسؤولين الحكوميين السابقين، فضلاً عن عدد من المثقفين، منهم أستاذ التاريخ المعروف محمد عفيفي، والكاتب والصحافي أسامة الرحيمي، الذي أدار اللقاء، والروائية منى الشيمي، بينما جاء الصالون بعنوان "مستقبل الثقافة في مصر"، وهو عنوان أكبر من أن تتحمله مناقشة لعدة ساعات، أو حتى مؤتمر يستمر لأكثر من يوم، ولكن لا بأس من أن يتناقش الناس في ما بينهم بغض النظر عن النتيجة.
والعلاقة بين ما حكاه المترجم أحمد صلاح عما رأى في الضاحية الروسية، وبين الساعات الأربع التي قضيتها في الصالون الثقافي، تتلخص في شعرة رفيعة، وإن كانت متينة، تفصل بين مفهومين لمسألة الثقافة. المفهوم الأول تحدث عنه كثير من حضور الصالون، منطلقين منه، وهو لماذا يعد النهوض بالثقافة المصرية ضرورياً؟ حيث تأتي الإجابات دائماً لتضع ذلك النهوض في مواجهة أشياء ما، أو للتخديم على أهداف بعينها: "الثقافة في مواجهة الإرهاب. أثر القوة الناعمة على أمور السياسة الخارجية والاقتصاد. نشر الثقافة بين الشباب لمقاومة غسيل عقولهم من قبل قوى الظلام. استعادة دور مصر في المنطقة"، وهي كلها أهداف نبيلة بالطبع، وإن اتسقت مع طبيعة اللحظة المرتبكة التي نعيشها، وعبرت عن رؤية السلطة في ما تستسهل من إطلاق عبارات شبيهة في سبيل توجه بات واضحاً للتجييش المعنوي في كل المجالات، والإيحاء بأن على الجميع أن يصير جندياً في حرب الدولة على قوى الشر التي تستهدف إسقاطنا، وهو ما كان ممكناً أن يكون صائباً تماماً، لو أن هناك شعوراً عاماً برغبة حقيقية لدى السلطة في تحسين الأوضاع السيئة، وليس الإلهاء عنها. هو أيضاً مفهوم لا يعبر عن تواصل حقيقي مع نظرة الأجيال الجديدة للأمور، وما آلت إليه.
المفهوم الثاني لمسألة الثقافة، والذي أميل إليه، هو بالضبط ما يتجلى في حكاية صديقنا المترجم أحمد صلاح عما رآه في الضاحية الروسية الصغيرة. مفهوم لا يؤمن بضرورة النهوض بالثقافة لمواجهة الأعداء على أنواعهم، وإنما يؤمن بأن هناك بشراً من حقهم أن يقرأوا ما يحلو لهم من الكتب، وأن تتاح لهم مشاهدة التماثيل الحلوة في الميادين، بدلاً من التماثيل المشوهة التي يكلف رؤساء الأحياء فنانين متواضعين بنحتها، وأن تعود أفلام المهرجانات لدور العرض الجماهيرية، بدلاً من حصرها على من يحملون كارنيه مشاهدتها في ساحة الأوبرا، وأن تسمح الدولة بعودة مهرجان فني أهلي كان يسمى "الفن ميدان"، نجح قبل سنوات قليلة في جذب العائلات من بيوتها. باختصار، هو مفهوم يؤمن بأن الفن والثقافة الجيدين حق أصيل للمواطن أولاً، خاصة أن هذا بلد لم ينصفه عبر تاريخه الحديث سوى الأدباء والمطربين والتشكيليين وصناع السينما، وأن المنتج الثقافي في مصر هو منتج غزير لا ينقصه سوى ترويجه ونشره وإتاحته للناس، وهي أمور تحتاج إلى رغبة صادقة من المسؤول، وإدراك المؤسسة الثقافية الرسمية أن وظيفتها مساعدة الفنان وحمايته، وليس الإشراف عليه، أو توظيفه في دورها لصياغة مشروع الدولة عندما يتناقض مع الشروط الأساسية لانتشار الفن، والتي أبسطها الإتاحة، وليس المنع، أو على الأقل قدر معقول من الإتاحة، وربما بعدما يسعد المواطن بالثقافة والفنون وأشياء أخرى تتخلص العبارات الكلاسيكية من كليشيتها، وتستعيد مصر دورها في المنطقة، وتساهم قوتها الناعمة في الانتصار على قوى الشر، ويكبر مراهقوها بعقول ليست مغسولة.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.