}

اللغة عنوان الوجود

كمال عبد اللطيف كمال عبد اللطيف 8 يناير 2019

أدرك بعض النهضويين العرب في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، أهمية المعاجم والموسوعات في تعزيز وتجديد ثقافة الأمم، وبناء ما يمكن أن يساهم في نهضتها. وقد عَمِل بعضهم، وانطلاقاً مما ذكرنا في إنجاز ما يُساهم في حفظ اللغة وتطوير أرصدتها في المعرفة والإبداع، وذلك بتركيب معاجم تساعد في عملية ضبط وحصر ما تستوعبه مُدَوَّناتُها في مختلف فروع المعرفة والعلوم والآداب. كما اهتم بعض المستعربين بناءً على اعتبارات متعدِّدة، بهذا الموضوع مستفيدين في ذلك، من مخزون التراث العربي الذي تحتفظ به مكتباتهم وجامعاتهم.

ساهمت عوامل متعدِّدة في تأخُّر مسألة الإنجاز، نذكر منها صعوبة الموضوع وغياب تقاليد وتراكمات في مجاله، إضافة إلى الشروط التاريخية المؤطرة لوضعية اللغة العربية في تاريخنا المعاصر. صحيح أننا نعثر على معاجم وقواميس بل وموسوعات عديدة، بعضها متخصص في معارف وفنون بعينها، وبعضها اعتنى بمفردات ووحدات معجمية مُحدَّدة، إلا أن إنجاز معجم جامع ومُواكِب لتاريخ تطور لغتنا، ظل مجرد أمل يتطلَّع إليه البعض، دون أن يجد من يَتَكَفَّل بإنجازه، ونقله من مستوى الطموح إلى مستوى المشروع القابِل للإنجاز فعلاً.

لن نُعَدِّد هنا المعاجم التي أُنْجِزَت في عصورنا الوسطى أو في عصر النهضة، ذلك أن الحَدَثَ الذي نَتَّجه صوبه والمتعلق بصدور معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، حَرِصَ كل الحرص كما وضَّح ذلك المشرفون على إعداده على الاستفادة من المأثور المعجمي، ومن مختلف المعاجم التي اعتنت باللغة العربية في الأزمنة الحديثة. وقد عقدوا العزم قبل خمس سنوات أي في سنة 2013 على إنجاز معجم يُضَاهِي أهم المعاجم التاريخية للغات الأخرى، ويستفيد في الوقت نفسه، من مكاسب الثورة التكنولوجية وما تُتِيحُه اليوم من آليات في العمل، تُسْعِف متى تَمَّ التوسُّل بأدواتها بتركيب معجم تاريخي، قادِر على مواكبة حركية اللغة العربية في أصولها البعيدة، قصد الوقوف على مختلف صوَّر وأشكال التحوُّل الذي عرفته، وساهم في تطوُّرها عبر مراحل التاريخ.

تَمَّ إطلاق البَوَّابَة الإلكترونية الخاصة بمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية، الذي أشرف على إعداده المركز العربي للأبحاث ودارسة السياسات، يوم 10 ديسمبر الماضي، كما تَمّ الإخبار بصدور الجزء الأول منه المخصص لتقديم وحدات اللغة العربية من بداياتها إلى القرن الثاني للهجرة. وسيتواصل العمل وبتدرج في السنوات القادمة، لإصدار باقي الأجزاء المواكبة لأشكال تطوُّر وتحوُّل بنيات اللغة العربية، كما أعلن عن ذلك المشرفون عن المعجم.

يضعنا نعت التاريخي في عنوان المعجم، أمام الروح التي نفترض أنها تلعب دور المُوَجِّه لعمليات رَصْدِ ومعاينة أنماط تحوُّل اللغة العربية، وتطوُّر بنياتها ودلالاتها، في علاقة مع تحولات المعرفة وثوراتها في تاريخنا، وفي التاريخ على وجه العموم، الأمر الذي يفيد، أن هذا العمل سيثمر عند إتمامه، جملة من النتائج التي تتجاوز النظرة السكونية المغلقة للغة العربية، وهي النظرة المهيمنة على كثير من تصوُّراتنا عنها، سواء في الماضي أو في الحاضر، لتركِّب بديلاً لما ذكرنا، ذلك أننا ننتظر أن يساهم المعجم التاريخي للغتنا في عملية بناء التصورات المطابقة لمسارها المتطور، ونظامها المتحول، وأرصدتها الرمزية المتعدِّدة والمتجدِّدة. الأمر الذي يسمح بمواجهة كثير من الأحكام السائدة عنها وعن مدوناتها في مختلف مجالات الفكر والإبداع.

نفترض أن قوَّة هذا المشروع تتمثَّل في الطابع التاريخي المفتوح، والمحَدِّد لرؤية ومنهج المشرفين عليه. إن قوته تتمثَّل في مساعي الباحثين الرامية إلى إنجاز مُدَوَّنة لغوية تعكس مختلف أنماط الإسهام العربي في الفكر الإنساني، حيث يصبح المعجم ذاكرة متحركة متحوِّلة، ترصد تطوُّر المفردات وترصد أثر هذا التطوُّر، في التحولات البنيوية والدلالية التي تلحقها.

يتجه المشروع إذن إلى إنجاز معجم تاريخي للغة العربية يستوعب وحدات اللغة ومفرداتها، وذلك اعتماداً على مدوناتها، المنجزة خلال مسارها المتنوِّع والطويل. ونفترض أن تستوعب الوحدات المكوِّنة للمعجم، مجموعة كبيرة من المفردات المرتبطة بثقافة المجتمع وقِيَّمِه وطقوسه، كما رسمتها مدوناته في الفكر وفي مختلف الفنون عبر التاريخ. إننا أمام مشروع عمل كبير يساهم في الاقتراب من الأصول ومن الرسوم، عملٍ مُؤسسي جَماعي يشتغل في مدى زمني مقرون بمهام محدَّدة، قصد بناء أنماط تحوُّل المعنى وتنوُّع الرسم، وذلك في علاقة مع تنوُّع الشروط والأسس المرتبطة باللغة وبشروط تطورها (الثورات المعرفية والتحولات التاريخية العامة). وهو يُسْعِف القراء الذين يلجون أبوابه، بمعرفة كيفيات تحوُّل الدلالة في المفردة في علاقتها بمختلف صوَّر التطور التي حصلت في الزمان، الأمر الذي يجعل دلالاتها في المعجم، مرتبطة بأبرز محطات تاريخها المفتوح والمتواصل.

إذا كنا نعرف أن الأعطاب العديدة المهيمنة على لغتنا، تتمثَّل في انعدام سياسة لغوية في مختلف البلدان العربية، وفيما بينها، إضافة إلى ضمور سلطات المجامع اللغوية، وضعف التنسيق فيما بينها، يضاف إلى كل ذلك، جمود التنظير والتقعيد اللغويين، والاستكانة فيما سبق، إلى جهود الأقدمين وحدها، أدركنا أهمية العمل الذي سيصدره المركز، وهو العمل الذي يتجه ليشكل فيه المعجم التاريخي محاولة في إعادة تدوين اللغة العربية، في ضوء رؤية جديدة وبتوسط آليات في العمل، لم تكن متوفرة بنفس الصورة قبل اليوم.

يستعين فريق العمل المكلف بمشروع المعجم، أثناء تركيبه لمواده بمختلف الأدوات التي أصبحت توفرها اليوم المعالجة الحاسوبية، الأمر الذي يترتَّب عنه توليد مداخِل ومُخْرَجَات عديدة تسمح بتنويع معطياته، كما تسمح ببناء نتائج لا محدودة في مجال مقاربة الأبعاد المختلفة لوحداته ومفرداته. كما تُمَكِّن من مقاربة المركَّب والمعقَّد من هذه الأبعاد، عن طريق بروتُوكولات في العمل، تُحَوِّلُ المفردات إلى أشجار وغابات داخل مدوَّنات الفكر العربي في مختلف تجلياته.

يتيح لنا الإنجاز المتدرِّج لهذا العمل الكبير، متى تَمَّ أن نتخلَّص من كثير من الأحكام السائدة عن اللغة العربية وعن بنياتها الدلالية والصرفية، وينقلنا من النظرة السكونية والمطلقة للغة العربية، إلى دروب وفضاءات التاريخ فنتخلص من كثير من المواقف الخاصة باللغة العربية وبقواعدها، كما رُتِّبَت في بعض مراحل تاريخها، ذلك أن اللغة العربية مثلها مثل باقي اللغات، تُعَدُّ من جهة عنواناً للوجود، كما تُعَدُّ من جهة أخرى مرآة للفكر وللثقافة المرتبطة به، ولن نجد في هذا الباب، ما يؤكد ما نحن بصدده، أفضل من كلمات الشاعر الكبير محمود درويش، الذي نطق ذات يوم قائلاً:

   مِنْ لُغَتِي وُلِدْتُ (...)

أَنَا لُغَتِي أَنَا،

وَأَنَا مُعَلَّقَة.. مُعَلَّقَتَان.. عَشْرٌ، هَذِه لُغَتِي

أَنَا لُغَتِي. أَنَا مَا قَالَتِ الْكَلِمَات..

 

 

 

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.