}

فرانز فانون... عربياً

يحيى بن الوليد 19 سبتمبر 2018
آراء فرانز فانون... عربياً
فرانز فانون في جدارية بروس لارك

ارتقى فرانز فانون (Frantz Fanon) (1925 ــ 1961)، الطبيب النفساني والمثقف الجذري و"المفكر الماريتنكي المولد ــ الجزائري الهوى" (كما قيل في توصيفه)، إلى مصاف المرجع الأساس والمتجدّد، ضمن ما أخذ يصطلح عليه منذ السبعينيات النازلة من القرن المنصرم بـ"نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" (Poscolonialism) التي كشفت عن إمكانات هائلة على صعيد التنظير الأكاديمي والنقد الثقافي لمشكلات الثقافة والتاريخ. وهذا مع أن فرانز فانون خلّف أعمالا محدّدة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. وقد استهلّها بكتابه "بشرة سوداء أقنعة بيضاء"، الذي نشره وهو في السابعة والعشرين من عمره (1952) كـ"رد كتابي" على تلك المرأة الفرنسية البيضاء التي نعتت ــ وباعتبارها مجلى لنسق ثقافي استشراقي عملي وتنميطي تبخيسي ــ باتريس لومومبا "الإفريقي" ــ وبعد أن اصطدم بها سهوا في زحام أحد شوارع ليوبولد فيل ــ بـ"الأسود والوسخ". وبعد ذلك كتابه الموسوم بـ"العام الخامس للثورة الجزائرية" (1959)، ثم "المعذبون في الأرض" (1961)، تبعا لعنوان كتابه الثالث والأخير والأشهر والراديكالي الذي طبع في تاريخ كان صاحبه يحتضر فيه وبعد أن كان على علم بأنه مصاب بمرض عضال. إضافة إلى العديد من المقالات والمداخلات التي ضمّها كتابه الذي ظهر بعد وفاته بعنوان "من أجل الثورة الإفريقية" (1964)، وأخيرا كتابه "كتابات حول الاستلاب والحرية" (2015) الذي ضم مسرحيتين (كتبهما فانون لما كان يدرس الطب في مدينة ليون الفرنسية) ومقالات منشورة في جريدة "المجاهد" (الناطقة بلسان جبهة التحرير الجزائرية) بعد 1958، ولم يضمها كتاب "من أجل الثورة الإفريقية". ومن دون أن نتغافل عن أعماله الكاملة (بالفرنسية) التي صدرت عام 2011، لمناسبة مرور نصف قرن على وفاته، وضمن منشورات (La Découverte) (الفرنسية) وفي مؤلف واحد قدّم له المؤرّخ الكاميروني وأحد أبرز المهتمين بفانون، آشيل مبامبي (Achille Mbembe)، بمقدمة موسومة بـ"كونية فرانز فانون".

 

وتمحورت أعمال فرانز فانون حول الاستعمار وركائزه وآثاره النفسية، ومقاومة الاستعمار وفك الاستعمار (Décolonisation)، وحركات التحرّر، ثم موضوع الثقافة الوطنية وتشكّل المثقف (الراديكالي) والكاتب المحلي الوطني ومهامهما في بلدان أفريقيا المستعمَرة والمتطلعة إلى الاستقلال والتحرّر.

 

عربيّا، وفي سياق التطلّع لإحداث تغيير (تجاوزي) في مجرى التاريخ، عاد النص الفانوني ليفرض ذاته مع تفجّر الحراك العربي، أواخر عام 2010، ومن خلال جملة من الأفكار في مقدّمتها الطابع الفجائي للحراك نفسه. هذا بالإضافة إلى تركيز فانون على "جماهير الشعب" في الثورات بدلا من النخب السياسية المسايرة للأنظمة المتغوّلة على نحو ما حصل في العالم العربي. وهذا ما يفسّر إقدام مركز "مدارات للأبحاث والنشر" (بالقاهرة)، عام 2014، على إعادة نشر الترجمة العربية لكتاب فانون الأشهر "معذبو الأرض" التي كان قد قام بها ــ وقبل عقود ــ كل من المترجم العربي الشهير سامي الدروبي وجمال الأتاسي. واللافت للنظر، في النسخة الجديدة، العنوان الفرعي الذي تلا العنوان العريض "معذّبو الأرض"، وهو كالتالي: "ويليه ملحق: غياب البعد الإسلامي في نصوص فانون؛ الإسلام المسكوت عنه في كتاب معذبو الأرض". وعنوان في هذا الحجم غير مألوف عادة، غير أنه في حال فانون فالأمر مغاير بالنظر لالتباس أشكال من التعامل مع النص الفانوني ككل ومن تعريف وقراءة وترجمة ونشر وإعادة نشر... بمشكلات الاستعمال والتوظيف والتلفيق... نتيجة السياقات المتجدّدة خاصة من ناحية الأحداث التاريخية المفصلية كما هو الشأن بالنسبة لحدث الحراك وبما كشف عنه من تحوّل في التيار الأساس في الفكر العربي، وفي أداء المثقف في العالم العربي حين أفسح للتأكّد من بروز تيار الإسلام السياسي (وعودة الفلكلور) بدلا من النخب الوطنية الليبرالية التي كانت في الخط الأمامي من المواجهة في فترة الاستعمار. وهذا مع أن الشعوب هي التي نزلت للميادين، وهي التي أجّجت الحراك، وبدءًا من المواطن التونسي (البسيط والعالمي فيما بعد) محمد البوعزيزي الذي أحرق جسمه (النحيف) من دون أن يدري أنه سيشعل العالم العربي ككل، بل سيغيّر ــ ومن وجهة نظر تاريخية ومهما كان الخلاف على مستوى المقاربة ــ هذا العالم.

 

ففرانز فانون من الصنف الذي يسمح ببعثه في أيّ لحظة، بل يبدو كأنه وجد لمخاطبة مرحلته والمراحل التي تليه. وكما أن كتبه ترقى إلى مستوى "النصوص المتحرّكة"، وكما أنه يسعف، بأكثر من معنى، على أن نفهم محيطنا وأنفسنا والظروف التي نمرّ منها... شريطة ألا نعسف تأويله. وفي هذا الإطار علّل المركز نشر الكتاب بـ"الأوضاع الاستعمارية لم تتغيّر"، وأوضح ذلك أكثر بـ"استعمار محلي، أقل كلفة [...] ترتبط مصالحه الثقافية والسياسية والاقتصادية بها داخل إطار من ديباجات النعرات القومية والقبلية القطرية الضيقة المصنوعة ــ أساسا ــ بواسطة جهاز الاستشراق"(11). ومن ثم "العنف" الذي تذكّر به الكلمة بدورها.

 

إجمالا، يمكن التشديد على محدودية تداول فانون في العالم العربي، وعلى نوع من الحضور الشاحب لفانون في الفكر العربي، مقارنة مع الغرب الذي وجد فيه متخصّصون من المكرّسين في منجزه وشخصه معا. وحصل ذلك بدءا من الجزائر التي أقام فيها فانون طبيبا وصحافيا ومناصرا للثورة الجزائرية، بل كان "أحد أحد الأسباب التي ساهمت في أن تصبح البلاد مرادفا لثورات العالم الثالث" كما قيل عنه. 

 

غير أن ما سلف لا يحول دون التذكير بعناوين مثل "فرانز فانون: رؤيته لدور الكاتب والأدب الإفريقي باللغة الفرنسية" لسعاد شيخاني (2004)، و"فرانز فانون رجل القطيعة" للكاتب عبد القادر بن عراب (بالفرنسية 2010)، وقبلهما رفيق نضال فانون (وفيما بعد المفكر والدبلوماسي الجزائري كما قيل في توصيفه) محمد الميلي، في كتابه الموسوم بـ"فرانز فانون والثورة الجزائرية" (1980). وكان الكتاب قد أثار تساؤلات كثيرة تراوحت بين رافض له بحجة أنّه "محاولة نيل من مكانة فانون والتشكيك في أصالة تفكيره" بل "هو نوع من الشوفينية المتعلقة التي ترفض فكرا كل ما هو ليس بجزائرى عرقا"، وهذا في مقابل من رأى في الكتاب "مجرد محاولة بسيطة ومقتضبة لتصحيح تصوّر خاطئ غطى شيوعه والتسليم به على مواطن النقد فيه". ومفاد هذا النقد ما يمكن نعته بـ"أفضال الجزائر" على فانون. ومن المحمود أن ينأى الكتاب عن الوصف أو الرصد أو التأريخ، وأن يرتكز على نوع من "التحيّز" (ودون تنقيص من المفردة) للجزائر، باعتبارها "ثقافة" أيضا. ولا يمكن نفي تأثير الجزائر على فانون، خاصة من ناحية ما انتهى إليه فانون بسببها، غير أن ذلك لا يحول دون التأكيد على أن الرجل كان ثائرا قبل وصوله للجزائر عام 1953 لمزاولة مهنة طبيب نفسي في مستشفى البليدة الأشهر للأمراض النفسية والعصبية. وحصل ذلك بعد عام واحد من نشره لكتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" الذي عرّى فيه أقنعة العنصرية (العرقية) الكامنة ــ وبتعبيره ــ في بنية فرنسا ككل (الأصل الفرنسي، ص122) ومن خلال شبكة من التنميطات والكليشيهات والتمثّلات والتصوّرات... التي تطاول "الملوَّن" وخاصة الأسود.

 

فالرهان في التعاطي مع النص الفانوني على التصوّرات التي تصله بالحاضر، خاصة أن فانون تحرّر من "التنظير البارد" مثلما ارتقى إلى مستوى المثقف الذي يقاتل بـ"عضلاته" أيضا؛ ما يستلزم قراءات منتجة تفيد من الدراسات التأويلية والتوجهات الفلسفية المعاصرة وتيارات الفكر المعاصر ونظريات الثقافة؛ وذلك كلّه من وجهات نظر تخدم نصوص فانون وترقى بها ــ في الوقت نفسه ــ إلى مستوى "الفكر المتحرّك" الذي بإمكانه التشابك الموجب مع "حال العرب المأزوم".

 

وعلى هذا المستوى الأخير، ومن منظور تقييمي، وإن في الحال الجزائرية التي هي بأكثر من معنى حال عربية عامة، يوضّح لنا الباحث الجزائري الزواوي بغورة في دراسة له ("الهوية والعنف نحو قراءة جديدة لموقف فرانز فانون") الفكرة قائلا: "ويزداد الأمر إلحاحاً إذا نظرنا إلى مكانته في الدراسات الاجتماعية والسياسية والتاريخية والفلسفية في الجزائر التي لم تقدّم إسهاماً نظرياً يسمح بالحديث عن مقاربة عربية أو جزائرية خاصة بفكر فرانز فانون، رغم الاحتفال الدوري بمآثره والإشادة بمواقفه، وتسمية العديد من المؤسسات والشوارع باسمه من قبل الجهات الرسمية الجزائرية، ولكنها لم تسهم في نشر أعماله ولا في ترجمتها، ولا في دراستها في الجامعات الجزائرية. وما تزال معظم الدراسات المكتوبة باللغة العربية حول هذا المفكر تتّصف بالمحدودية، وتُستخدم إمّا كشهادة تاريخية على الثورة الجزائرية، أو تبرز علاقة فانون بها، أو تخضعه للقراءة التي قدّمها جان بول سارتر في مقدمّة كتاب: معذبو الأرض".

 

ومن حسن حظ فرانز فانون أن كتبه وجدت ترجمة لها في الفكر العربي، خاصة كتابه "معذبو الأرض" الذي أكّد من أوّل تلقف له في العالم العربي، ومن خلال الترجمة التي أنجزها كل من سامي الدروبي وجمال الأتاسي، لا على رواج الكتاب وانتشاره فقط، بل "مستقبليته" في هذا العالم الذي كان حتى تلك الفترة لم يستقر فيه ــ تقريبا ــ شيء، وسواء تحت تأثير جروح الاستعمار أو تربّص الديكتاتوريات المتخشّبة به. وقد حظي الكتاب الأخير، ومشروع فرانز فانون ككل، بهذه المكانة، سواء بين المثقفين أو فئات عريضة من شعوب العالم الثالث. وكما قيل "إن العالم الثالث اكتشف ذاته وخاطب نفسه بصوت فرانز فانون". وفي هذا الصدد، من المفيد أن نشير إلى كتاب (مغاربي) مبكّر بعنوان "فرانز فانون أو معركة الشعوب المتخلفة" (1962؟) الذي نشره رائد النقد والنقاد في المغرب الأستاذ محمد برادة برادة بالاشتراك مع المؤرّخ المغربي محمد زنيبر والكاتب الجزائري مولود معمري. وكان الهدف من الكتاب، في تلك الفترة الساخنة، تقريب "وعي فرانز فانون" من حيث هو "وعي أفقي متَّسع" "أعطى صوتا قويا للعالم الثالث". وتجدر الملاحظة إلى أن الكتاب مكتوب بنبرة شبابية حماسية ملحوظة؛ ولذلك لا يبدو غريبا أن يتوجّه، وقتذاك، إلى الشباب.

 

ففكر فانون مفيد في السياق الذي ولّده مباشرة في الخمسينيات ومطلع الستينيات، وهو سياق التطلّع المحموم نحو التحرّر من الاستعمار المباشر، مثلما هو مفيد في السياقات التي تلته في العديد من البلدان الأفريقية وأميركا اللاتينية أو "كامل أميركا اللاتينية" ــ كما قيل ــ وفي بلدان أوروبية وبلدان لا تخطر على البال، كما في حال إيران من خلال المفكر الإسلامي الشيعي وملهم ثورتها علي شريعاتي (1933 ــ 1977). إضافة إلى انتشاره في أوساط حركات تحرّرية، مثل حركة السود في الولايات المتحدة في الستينيات والسبعينيات الصاعدة، وفي حركات نسائية تطلعت للتحرّر من الاستعمار الذكوري. وكذلك "توظيفه" في فلسطين في علاقتها بالصهيونية باعتبارها ظاهرة كولونيالية، وفي العراق مع عودة الكولونيالية البيضاء. وكما أنه مفيد في سياق حاضر بلدان وشعوب العالم العربي التي ما تزال غارقة في أشكال من التناقضات والهيمنة والتسلط والاستبداد والذكورية المفترسة.

 

وعلاوة على أن فكر فانون مفتوح، ومستقبلي في الوقت ذاته، فإن الظروف نفسها التي عاشها هذا الأخير ما تزال سائدة اليوم وبأكثر من شكل من الأشكال... خاصة من ناحية مركزية الثقافة من أجل فهم العصر ككل. فالعنف ــ الذي برع فرانز فانون في التنظير له ــ يمرّ عبر الثقافة وبالقدر ذاته يؤسِّس لنفسه ثقافة تقدّم أنساقها في وضوح ووضوح تام وفي أحيان وأحيان كثيرة. فصاحب "بشرة سوداء أقنعة بيضاء"، وسواء فيما يخصّ موضوع العنف أو غيره من المواضيع المحدّدة التي تعاطى معها، مفيد على مستوى فهم "الحال العربي المأزوم" بالرغم من أنه هو الآخر، ومثل إدوارد سعيد، نتاج أدوات الغرب المعرفية في مجال تخصصّه المتمثّل في التحليل النفسي القائم على التشخيص الاجتماعي والسياسي أو في مجال الفكر الفلسفي بصفة عامة، الذي أفاد منه في مناهضة الاستعمار، وفي الدفاع عن المسحوقين. لكنه أدرك كيف ينقلب على الغرب وبأدوات هذا الأخير... بالمفاهيم الثورية الأوروبية نفسها، كما ختم دافيد كوت (David Caute) كتابه "فانون". وذلك كلّه حتى لا نجعل من فانون مفكرا "يقطع" مع أوروبا بالكلية. وقيمة النص الفانوني من تجدّد القيمة نفسها؛ وذلك كلّه يظل وقفا على نوع من الاستجابة النقدية الرصينة وليس الاستعادة الآنية والزائلة.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.