}

ثقافة الوسيط

أحمد العمراوي 16 سبتمبر 2018
آراء ثقافة الوسيط
لوحة للفنان الفلسطيني كمال بلاطة

  " أما فيما يخص مفهوم الاصطلاح، فيعرفه ديفيد لويس على أنه في الأساس، انتظام، أي تلك العلامة التي يفضل أعضاء تجمع إنساني معين الامتثال لها عموما، والتي يتعرف بها ومن خلالها كل واحد  منهم على مقاصد الآخر" مصطفى صفوان ، الكلام أو الموت، ترجمة مصطفى حجازي، ص، 37

1

يبن النص الأصلي الأول والنص الواصل إلينا بعد ذلك مسافة قد تطول وقد تقصر، ومعها تحدثُ أشياء كثيرة في الفكر، في الذهن، وعلى الواقع. العالم مجموعة أفكار تُسِّير الأفراد والأشياء. تؤثّر، ولكنها تتأثّر بما قبلها قبل ذلك. في البدء كانت الكلمة قبل " قرأ"، حتى، كانت.

 هي الأصل قبل النص، فهل النص كلمة؟ كلمة في الفم تخرج ثم تسجَّلُ بعد ذلك على الورقة، على الآلة، في رقاقة، والتأثير مع هذا حاصلٌ لا محالة في هذا الامتداد. هو زمن المفاهيم التي تنتقل وتتقلب بتقلب الشخص وما يحمله من معتقد ومن فلسفة للحياة.

 أنا هو أفكاري وأنت كذلك، فتَكَلّمْ لكيْ أعرفك. واللغةُ هي الإنسان (جاك لاكان)، وما يحدثُ هو إما "الكلام أو الموت" على حد تعبير مصطفى صفوان. الكلمة كما تحيي قد تقتل. شهرزاد حررت الكلام من القتل، ومدت الجسور بين الثقافات والعصور، ورغم ذلك سيحدث التحول مع الإنسان. هذا الحامل لفكر قد ينتقل للاوعي فيشوِّهُ أو يُغيِّر.

نحن نخاف من الأفكار أكثر من خوفنا من الأسلحةِ. القولُ يتحوَّل هنا إلى فعلٍ يسمى تحريضاً على العصيان، فما مكانةُ النصّ الأصلي والنص التابع في كل هذا؟

2

هل يجوز لي شرح نص مقدّس نشأ منذ عصور طويلة بفكري "العصري جدا"؟ ما الثابتُ وما المتحوّل هنا؟ النصوص التراثية المؤسسة للفكر الصوفي مثلا ما مكانتها وهي تنتقل إلينا بالوسيط العصري؟ هل معرفة الوسيط للنص الأصلي كافية للحكم على هذا النص؟ وتأويلاته؟ وتخريجاته؟ كل قراءة هنا بالوسيط هي ترجمة الناقل للنص، ولذا تحتمل الخيانة هي أيضا كما في فعل الترجمة.

-      اقرأ.

-      ما أنا بقارئ

-       أكتب

-      أنا كاتب.

مفارقة كبرى نجدها في استسهال الكتابة أحيانا من طرف البعض، وصعوبة القراءة المتأملة الناقدة للأصل في تاريخه دون شطح ولا تأويل مبالغ فيه.

 القراءة هي الأمانة أولا، والتأويل يأتي بعد ذلك، فما الذي يحدث حين نتقبل النص المؤول ولا تنقبل النص الأصلي كما هو؟

إنه الفكر المسبق المشكّل لثقافة القطيع التابع، المغيِّب لكل فكر نقدي، والمحرِّم للسؤال بشكل من الأشكال. يحدثُ هذا في كل الثقافات التقليدية المشدودة لماضيها خوفاً من الوقوع في المجهول المخيف. فالمجهول هاوية لا قعر لها حسب حاملي هذا الفكر المستكين. وقد يقبل الفرد فكرة الجحيم ولا يقبل فكرة المجهول (عدنان حب الله). المجهول مظلم ومخيف. لذا قد يغيب السؤال عن جدّية الناقل بما أن سلسلة الرواة ثابتة بعنعنة واتصال مترابط حسب الوسيط نفسه.

 يبقى ناقل النص ومؤوله الأول هو باصم الطريق لسنوات يصعب زحزحتها بالنسبة لليقينين بالتبعية لا بالاقتناع الفكري.

3

استقبال النصّ المؤوَّل هو تشويهٌ للأصل. جواب يتبادر لكل ذهنٍ ناقد ولكنّه تشويه ماذا؟ النص؟ الفكر؟ التاريخ؟ أم صاحب النص الأول؟ الكذب المتعمد مآله مقعد في النار (في الحديث: ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار). فهل التاريخ هو المسؤول عن التشويه أم فكر الناقل وقَصْيدتُهُ في تحويل الّنص إلى مصلحته؟

 انتقال المفاهيم هو المؤشّرُ الأول على هذه الذاتية المصلحية الخاصة في صراع الرؤى والقناعات من عصر لعصر. من إيديولوجيا إلى أخرى، والبقية لمن؟ هل للأصل أم للأصلح أم للأقوى؟

4

الوسيطُ دائماً على حقّ. يُهمّشُ ويضع هوامش لهوامشه قصد إقناع الأخر( والآخر هو الجحيم: سارتر). هذا الذي نادرا ما يتمُّ إقناعُهُ بالمنطق. العاطفةُ والاستعطاف هو السائدُ هنا. صدِّقْني وإلّا قَتَلْتُكَ يقول لكَ، وقد يكون القتْلُ المعنوي أشدّ خطورة من غيره. ( لنتذكر: بشار بن برد، المتنبي، حماد عجرد، الحلاج، كارسيا لوركا، وضاح اليمن وغيرهم كثير الذين قتلوا بسبب أقوالهم ورفضهم لثقافة القطيع).

الوسيطُ يُغيِّر المفاهيم ويغيِّر المعنى الاصطلاحي حسب تَوَجُّهِه الإيديولوجي عن قصدٍ أو بغيره. فهو يشرح كتِاباُ شُرحَ له من طرف آخر، وقام هو أيضا بشرحه لي ولك، وقد يكون مقتنعا وقد لا يكون، بما أن الثقافة الغالبة علينا هي ثقافة القطيع الغالب حتى لو كنا حداثيين. "في المجتمعات الجماعية، يعتبر الناس أنفسهم مسؤولين عن سلوك المجتمع ككل لا عن حياتهم فقط .. لذلك يعطوا لأنفسهم الحق في التدخل في شؤون الآخرين ومحاولة تغيير سلوكهم وأفكارهم" (شريف عرفة، كيف تصبح إنسانا، ص،42)

قتلنا الوسيط يا صحبي، بعنعنةٍ منقولة من الحديث لبيان صحيحه من الضعيف وفق مقاييس وُضعتْ لذلك، ثم الفقه ثم رواية الشعر، بل حتى رواية النثر (الجاحظ وابن حزم مثلا). لا يتم تصديق النص إلا إذا كان راوية حجة وعمدة وثقة وراوية. الذاكرة أولا ثم الكتابة ثانية. فما الذي تبقى من كل هذا في زمن النص الهائل، سيد التناص الذي يرميك من الأقصى إلى الأقصى وبسرعة ضوئية والآتي أعظم. فقه النص هو الأنترنت والحواسيب الذكية والهواتف الشديدة الذكاء وما على شاكلة ذلك.

التمحيص، الدقة في القول، والدقة في القراءة، والفكر النقدي، كلها مفاهيم يعصف بها عصر الصورة والوسيط الجديد: الأنترنت المتربع في كل مكان، والذي يغير من الفكر والذات ويدخل الجسد دخولا عاصفا قد يعصف بالمسجد والكنيسة أو قد يرفعهما لأعلى عليين، وذلك كله بفضل الوسيط المُسيطِر الذي يُدير اللُّعبة بإحكام.

كلُّنا نحمل الوسيط بداخلنا عبر لوحة صغيرة ومتناهية الصغر ومتنافس في دقة الوصول لمستعملها لتحقيق إعجاب يُدرّ الملايين. أنتَ تحملُ العالم معك بوسيط يستخدم وسيطا جديدا: الأنترنت والصورة والحركة والصوت والمباشرة، فما الذي سيبقى من كتابي الورقي الأنيق، كتابي بنوعيه المقدس والمدنس؟ قد يتجاوران في نص تشعبي واحد ينقلني من اليمين إلى اليسار دون مشاورتي. قد يرمي بي في لعبته بفعل تأثيرات تجرني جرا بالتأثير على الأعصاب ببرمجة جديدة مدروسة. أنا المشدود للماضي بالوسيط التقليدي والمشدود للحداثة التي قد تكون الآلة إحدى تجلياتها.

والوسيط في كل هذا نعمة قد تدفعني للأمام، وقد تعصفُ بي عصفاً نحو الهاوية فلتتأمل هذا الوضع قبل فوات الأوان.

5

 التحرر من الوسيط هو عودة للطبيعة في مواجهة الثقافة. ظاهرٌ لقول غير بريء، لكنّه وليد مقاومة شديدةٍ للتغيير من جهة وللعودة للماضي "المجيد" من جهة أخرى. فاخلقْ وسيطا وستسيطر على الناس وأشيائها. الوسيط التقليدي قد يعود بقوة في حالة انتشار الأمية الحداثية والتقنية، والرابح هو متربِّعُ الكرسي المسيِّر للدمى من بعيد. تتضارب المصالح وتتعدد القراءات تبعا لتنوع المقروء بل فلنقل تبعا للوسيط الهائل الذي عوَض كل شيء فتحكّم في البلاد والعباد.

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
11 فبراير 2019

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.