}

نساء يعبرن حدود النوع والتجربة (3)

شيرين أبو النجا 2 سبتمبر 2018
آراء نساء يعبرن حدود النوع والتجربة (3)
لوحة للفنان العراقي هاشم حنون

في عام 2004 أصدرت مؤسسة الأمير كلاوس الهولندية عددا خاصا عن اللجوء والهجرة وتضمن العدد صورا فوتوغرافية للمصورة الفلسطينية رولا حلواني، حيث تستكشف مفهوم الحدود في سلسلة من الصور أخذتها عند نقطة تفتيش قلانديا التي أصبحت رمزا لممارسات الاحتلال الإسرائيلي. تخلو مجموعة صورها من الوجوه، ولكنها تدعو إلى تأمل العديد من اللقطات المقربة لمواجهات بين جنود إسرائيليين ومواطنين فلسطينيين ينتظرون عبور نقطة التفتيش. في هذه الصور، تمثل النقطة الحدودية معنى الاتصال كما تنطوي أيضا على معان من الانفصال والعدوان؛ وكما أنها تسمح لك بالمرور فإنها أيضا تعزلك عن الآخرين.

تعتمد صور رولا حلواني على افتراض أن المتلقي لدية معرفة اكتسبها من سياق تاريخي عن الاحتلال، مما يوفر معرفة معنى عبور نقطة تفتيش إسرائيلية. أي أن تلك اللقطات المقربة تسجل تجربة العبور في مكان ينطوي على تاريخه وجغرافيته. غير أن تلك الصور لا تتوقف عند مجرد التسجيل، بل تتعدى ذلك إلى دراسة طريقة عمل النظام الذى نجمت عنه هذه التجارب. يلاحظ المتلقي ظلال الانزعاج في لقاء بين طرفين غير معرفين له، كما يرى أوضاعا مختلفة تدل على الانتظار ولا يفوته وقفة الأجسام وانحناءتها في علاقة قوة غير متوازنة. كما نستشعر بوضوح الحالات المزاجية الدالة على التعب والقلق لدى المواطنين الفلسطينيين.

نلاحظ أيضا في كثير من صور رولا حلواني أحجارا ضخمة باهتة اللون تدل على موقع الحركة وتبرز صعوبة العبور. إنها منطقة اتصال وحاجز فاصل في آنٍ واحد، وتدل على القرب والبعد فيما يدل على خلل في التواصل المقترن بالإذلال العمدي. وبالتحليل الخطابي تترجم اللقطات المقربة إلى "يمكنك أن تعبر" أو "لا يمكنك أن تعبر". وسط تلك الاحتمالات يتحول الحجر إلى عنصر ثابت يمنع العبور ويحول منطقة الاتصال إلى منطقة عسكرية تتسم بالعنف، الحجر إذن حد ثابت لا منطقة حدودية. تتسم نظرة رولا حلواني من خلال عدسة الكاميرا بالمفارقة، حتى أنها تطلق على مجموعتها اسم "علاقة حميمة" في إشارة إلى أن الشخصي يتحول إلى السياسي في مكان محدد وتجربة معينة. تمثل المجموعة شبكة من المواقع المتداخلة ومن إحالات مختلفة للواقع مما يجعل الحاجز حدا مريعا يمكنه أن يرسم تحالفات سياسية ممكنة.  

بالمثل، تقدم الشاعرة والباحثة الأميركية الفلسطينية ليزا سهير ماجاج شهادة على العيش في مكانين بعنوان "تجاوز الصمت" (1996). فالقول إن الأميركيين العرب أصحاب ثقافة ثنائية أو لغتين ليس إلا تبسيطا مخلا، فهو قول لا يضع في اعتباره سياسات المكان والموقع.  

تصف ماجاج أزمتها ببلاغة قائلة "كثيرا ما أشعر بأنني أجنبية حصلت على تعليم جيد ولكنها لا تمتلك طلاقة في لغتها وثقافتها المكتسبتين سواء كانت تلك الثقافة العربية أو الأميركية". تقف ليزا في موقع بيني، ففي كل مرحلة من مراحل حياتها كان "الوطن" يعني شيئا مختلفا. وبالتالي حين حاولت ليزا أن تسمي نفسها، دخلت في عملية لا تنتهي من التفاوض مع أصوات ترغم النساء على التزام الصمت من جانب، ومن جانب آخر مع ضرورة تاريخية تدفع الفرد إلى استبدال وطن بآخر. تحكي ليزا أن تقديم نفسها كأردنية في الأردن أدى إلى السخرية من لغتها العربية ولم تستطع أن تقول إنها أميركية حيث تصطدم الهوية الفلسطينية بعداء واضح في أميركا. "كل جزء من هويتي كامرأة أميركية وعربية يحتاج إلى الاعتراف به وتأكيده، ويصبح من الضروري أن يفصح الإنسان عن نفسه. ولكن كل هذه الأجزاء من هويتي كانت تلزمني الصمت في منعطفات كثيرة في حياتي". لفترة طويلة كان الصمت والفجوة والحياة في الما بين "وطنا" حتى بدأت الكتابة واستطاعت من خلالها أن تعبر بدقة عن ذاتها وتملأ بذلك فراغ الصمت. تعمل الكتابة على الربط بين المحلي والعالمي، بين الخاص والعام، بين الشخصي والسياسي. فقد أدركت ليزا أن الكتابة باعتبارها موطنا قد علمتها أن تُسمي نفسها بوعي: "إنني نصف أميركية ونصف فلسطينية". الوطن "عملية" تتبلور من خلال تجاوز حدود التضامن المفروض، وتتجاوز محدودية الفهم، وتتجاوز الرغبة في اتباع خط طولي.

إن النصوص التي تناولتها في سلسلة المقالات هذه لا تجعل من النوع (الجندر) المجال الرئيسي للتحليل فهو ليس المنهج الوحيد للإفصاح عن المواقف من خلال الحدود. فهذه النصوص تؤكد وتنفى في الوقت ذاته بطريقة طليعية أن الفعل في فكر ما بعد البنيوية يحدث من خلال إبراز "ديمومة الصراع" التي تعتبرها الباحثة الهندية تشاندرا موهانتي أساس رؤية الفكر النسوي. وينتج عن زمانية الصراع رسم خريطة جديدة للموقع السياسي للذات.

في كل النصوص التي تناولتها نرى الذات في حالة تغير مستمرة بسبب عملية العبور أو إعاقة العبور. فالموقع الجيو-سياسي الذي تعيش فيه صاحبة التجربة أو ذاك الذي تأتي منه ينعكس على عملية عبور حدود النوع الاجتماعي والأدبي والفني. وبما أن العلاقات السياسية الجغرافية تقوم بدور العلامات المحددة للموقع وللمكان الذي يجد الإنسان نفسه فيه، فإن تلك النصوص تتحرك بحرية بين الشخصي والسياسي حتى تتلاشى الحدود بين الاثنين. وبالتالي فإن كل تلك النصوص تتجه إلى خارجها لتحتضن التناقضات والنـزوح والتغير. لا تبتعد تلك النصوص، من ناحية التجربة والنوع كثيرا عما تعبر عنه جلوريا أنزالدوا المكسيكية التي تقول: "لتنجو من المنطقة الحدودية/ لا بد أن تعيش بدون حدود/ وأن تكون مفترقا للطرق".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.