}

مراوغة المحلي والعولمي

شيرين أبو النجا 22 يوليه 2018
آراء مراوغة المحلي والعولمي
لوحة للفنان الفلسطيني عبد الحي مسلم

من الواضح في معظم مجتمعات العالم الثالث التي حصلت على استقلالها في القرن العشرين أن فكرة التمثيل الذاتي أصبحت أولية مباشرة. فبعد استعادة الأرض وإرساء الحدود تبيّن أن ما تحويه هذه الحدود لم يعد إرثاً محلياً خالصاً، إذ تمكّن الاستعمار من إضعافه وتهميشه. هذا بالإضافة بالطبع إلى المراحل التي يمر بها المستعمر (بفتح الميم) والتي تتضمّن تقليد ومحاكاة السيد الأوروبي كما أوضح فرانز فانون في كتابه "أقنعة بيضاء وجلود سوداء" (1952). من هنا حصلت إشكالية الهوية على مركزية واضحة في الفكر العربي، وتحولت إلى مؤشر ينتقل من خانة الفخر إلى خانة الأزمة طبقاً للسياق السياسي والاقتصادي. إلا أن المكان الذي يستقر فيه هذا المؤشر ينعكس دائماً على المجال الاجتماعي. مع بزوغ العولمة أصبح من الصعب، بل من المستحيل، وضع سدود منيعة في وجهها، فتمكنت المجتمعات - تارة بتلقائية وتارة بوعى شديد - من توظيف الثقافة لصالحها، بحيث تغيّر شكل العولمي والوافد من ناحية، وازدادت قوة المحلي من ناحية أخرى.

عند هذه النقطة لا بد أن يطرح السؤال نفسه: ما هو مكان دراسات ما بعد الاستعمار في وسط ظاهرة توظيف العولمي وإحياء المحلي؟ بمعنى آخر، كيف يمكن تأكيد أهمية التواشج بين التجربة المادية والخبرة المحلية والعلاقات الاستعمارية في الوقت ذاته؟ يقترح بيل اشكروفت، الناقد المتخصص في مجال دراسات ما بعد الاستعمار، مدخلين لهذه الإشكالية. المدخل الأول هو أنه لا يمكن فهم العولمة من دون فهم تركيبة علاقات القوى العالمية التي ازدهرت في نهاية القرن العشرين وبداية الحادي والعشرين بوصفها إرثاً إمبريالياً على المستوى الاقتصادي والثقافي والسياسي. أما المدخل الثاني فهو أن نظرية ما بعد الاستعمار يمكنها تقديم نماذج واضحة لفهم الكيفية التي تنتج بها المجتمعات المحلية آليات تحقق الذاتية الفاعلة. بالنظر إلى هذين المدخلين، نجد أن ردود فعل المجتمعات المحلية تجاه هيمنة العولمة تحمل نفس جوهر خبرة مقاومة الاستعمار. لا يهم مدى صرامة وقوة النظام العولمي، لأنه بالتأكيد غير محصن ضد إعادة صياغته لصالح المحلي. الخلاصة هي أن المجتمعات المحلية أدركت أنه لا يمكن التعامل وكأن العولمة لم تحدث، وعليه فإن التغيير يتأتّى من إيجاد آليات مقاومة تغير من شكل الثقافة العولمية الوافدة.  

إلا أن العلاقة بين المحلي والعولمي في المجتمعات التي حصلت على الاستقلال تبدو أكثر تعقيداً وتشابكاً من التجربة الاستعمارية. فالاستعمار يعني فيما يعنيه أن هناك مستعمراً (بكسر الميم) يحاول فرض سيطرته وهيمنته علناً ومستعمراً (بفتح الميم) يناهض هذا الاستعمار. أما الآن، وفي ظل انتشار العولمة عبر كافة الوسائط الحديثة، فإن المجتمعات تعيد تكييف خبرتها لتجمع بين المحلي والعولمي. في كتاب "الحداثات العولمية" الذي صدر عام 1995، يطرح روبرتسون آلية الجمع بين المحلي والعولمي ليصيغ منهما مصطلحاً جدياً "جلوكال". في هذا الجمع بين المحلي والعولمي ينفي الكاتب العلاقة الضدية وينفي عن العولمة صفة الغزو التي لازمتها منذ ظهورها.

من أجل تحديد المدخل النظري للعولمة لا بد أن نحدد المقصود بالمحلي. يشرح بيل أشكروفت أن المحلي هو جزء من المجتمع وليس كل المجتمع، أي أنه أقل وأصغر من الدولة، لأن ما يجمعه قد يكون المكان أو الجنس أو العرق أو الثقافة. فالدولة دائماً ما تمارس سيطرة كاملة على الثقافة المنتجة وتضع عليها بصمتها. وهذا لا يعني غياب العديد من الإشكاليات المتعلقة بالموسيقى الوافدة والأفلام الغربية واللغات المغايرة التي تشكل في مجتمعاتنا ركيزة مسألة الهوية. إلا أن هذا الموضوع خلافي إلى حد بعيد، وذلك لسببين، الأول هو أن النقاء التام المأمول للمجتمعات لا يمكن العثور عليه ولم يحدث مطلقاً على مدار التاريخ في ذاكرة المجتمعات، كل ما في الأمر أن اختلال توازن علاقات القوى يدفع التيار الذي ينادي بالنقاء التام إلى الظهور، أما السبب الثاني فهو أننا غالباً ما ننسى أن العولمي هو ليس فقط الوافد من أميركا وأوروبا، بل من العالم أجمع.

في ردود الفعل تجاه العولمة الثقافية يُمكن أن نحدد مباشرة إشكالية المحلي، إذ يتجلّى الذعر والخوف من أي تغيير قد يطرأ على شكل النساء (والتأكيد هنا على الشكل وليس الجوهر). فالسلطة السياسية والمجتمعية تسعيان إلى اللحاق بركب الحداثة من وجهة نظر انتهازية خالصة. تتنازل السلطة عن كل شيء أمام سطوة الغرب، وأمام سطوة المصالح، لكنها لا تتنازل مطلقاً عن شكل النساء، عن امتلاك ذاتيتهن، عن التحكم في مساحة حركتهن، عن الفتاوى التي تنهال على رؤوسهن، عن المكان المتأخر الذي ينبغي عليهن البقاء فيه، عن الخطاب الذي نُسج عنهن منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وتتصور السلطة أن الحفاظ على استقلالها يعني "الحفاظ" على النساء. تتغيّر المجتمعات وتُعيد تضفير المحلي مع العولمي في كل مفردات الحياة اليومية، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تضرب العالم كله، لكن يبقى الأمر الأهم لعيون السلطة هو شكل النساء. وكلما أُثير موضوع الهوية تحتل النساء المرتبة الأولى كعنصر مُشكل لها. يعود بنا هذا التسلط والهوس إلى المربع صفر دائماً، فالتيارات الراديكالية (الأقلية) في مجتمعاتنا ترى أن هؤلاء النساء قد تم تزييف وعيهن، والتيارات اليمينة المتطرفة ترى أنهن سبب البلاء والنظرة الغربية ترى أنهن دليل الرجعية والتخلف. على الجانب الآخر، لا تتوقف النساء عن المقاومة في حياتهن اليومية بكل الوسائل المعروفة والمُخترعة، فكل هذه الخطابات لا تشتبك مع حياتهن الفعلية اليومية المليئة بالتحرّش والاحتياج المادي وعلاقات العائلة غير المتوازنة. تتمكّن النساء من نسج خطاب واقعي يمر بجانب العولمي ويراوغ المحلي، إنه خطاب الحياة اليومية الذي لا يعتني كثيراً بكل هذه الحدود الصارمة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.