}

في رثاء الكتب والمكتبات..

ماجد كيالي ماجد كيالي 23 يوليه 2018


تفتحت عيناي على المجلات والكتب، وأقصد في البداية مجلات سمير وميكي وسوبرمان والرجل الوطواط وتان تان وبساط الريح، والكتب تلك المتعلقة بالأساطير والقصة والشعر والرواية، منذ المرحلة الابتدائية، أي منذ مطلع الستينيات، وطبعا لم يخلُ الأمر من متابعة مجلات فنية مثل الموعد والشبكة، أو مجلات أسبوعية سياسية مثل الأسبوع العربي اللبنانية والمصور وآخر ساعة المصريتين.

في تلك المرحلة لم يكن بإمكاني اقتناء مجلة ولا كتاب، إذ لم يكن الوضع المعيشي لأهلي يسمح بذلك، مع مصروف يومي، في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، لا يتجاوز 15ـ 25 قرشا، في ذلك الزمن، وحتى لو وفرت بعضها فإنه لم يكن بإمكاني شراء ولو مجلة واحدة أسبوعيا، ثمنها 25 أو 35 قرشا، وقتذاك. بيد أن ذلك لم يكن يحول بيني وبين شغفي للمطالعة، إذ كانت تلك الميزانية تسمح لي بدفع بدل قراءة لمجلة على عتبة إحدى المكتبات مقابل دفع خمسة قروش مثلا.

طبعاً، لم تكن القراءة على عتبة المكتبات، ولا استئجار كتاب ما من مكتبة، أو استعارته من مدرسة أو من صديق، يكفي، أو يروي عطشي للقراءة، لذا فإن تغطية شغفي للمطالعة وقتها تأتّى من عاملين: أولهما، وجود مركز ثقافي في منطقة قريبة من الحي الذي أسكن فيه، وهذا المركز كان يوفر المجلات الأسبوعية، حيث كان متابعو تلك المجلات يتوافقون على أخذ دورهم في مطالعة تلك المجلة، واحدا وراء آخر. كما أتاح لي ذلك المركز مطالعة الكتب، حيث استهوتني قراءة الأساطير من مثل سير عنترة بن شداد، والملك سيف بن ذي يزن، وعمرون شاه، وألف ليلة وليلة، ثم روايات نجيب محفوظ وغسان كنفاني وقصص يوسف إدريس، ودواوين المتنبي وأبو فراس الحمداني ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد.

وعلى أية حال فقد كان الذهاب إلى المركز الثقافي بمثابة طقس جميل، ومحبب، بالنسبة لي، حتى أنني كنت اقطع المسافة من بيتنا، في بستان القصر في حي الكلاسة في حلب، إلى المساكن الشعبية، ركضا، كسبا للوقت، أو كأني ذاهب إلى موعد إلى شخص كلي اشتياق إليه.
العامل الآخر، الذي ساعدني على الاستمرار في المطالعة، والتوسع فيها، كان اشتغالي في مكتبة لبيع الكتب، وهي مكتبة شعبية، بغض النظر عن دلالة اسمها (مكتبة الجماهير)، وهي الكائنة في قبو بين شارع بارون، حيث دور السينما في حلب، وساحة سعد الله الجابري، مقابل جريدة الجماهير الحلبية، ومبنى الهلال الأحمر، وقريبة من نادي الضباط القديم.

كان عملي في تلك المكتبة جاء بالصدفة، إذ كان صاحبها جاراً لنا، وكان كثير السفر والغياب، وهكذا سلمني المفاتيح، رغم صغر سني وقتها (بداية المرحلة الإعدادية)، لكن عملي كان يقتصر على عرض الكتب على الحائط، أي مكتبة على الرصيف، والشارع مشهور في حلب في ذلك الزمان.

المهم أن بيعي الكتب عرفني إلى الروايات الأجنبية، وعلى ذوق القراء في حلب، وشجعني على مطالعة ما يشترون، إذ كنت أقضي وقتي من العاشرة إلى السادسة في قراءة الكتب أكثر منه في بيعها، ولا سيما في فترة الظهيرة، إذ إن الوقت الذي يصادف الذهاب إلى دور السينما أو الخروج منه، كان لا يساعد على ذلك، لأنه الوقت الأفضل للبيع. ومعروف أنه في تلك الفترة كان شارع بارون وحده يحتوي على سبع دور عرض سينمائي، ضمنها على ما أذكر سينما حلب وفؤاد والأوبرا وروكسي وأوغاريت والحمراء، وكانت كل دار عرض تعرض يوميا أربع مرات، واحدة قبل الظهر (من 10,30)، في حين تبدأ العروض الثلاث التالية، من 3,30 و6,30 وو9,30، وكانت فعلا فترة الخمسينيات والستينيات والنصف الأول من السبعينيات، هي فترة ازدهار السينما، ولا سيما المصرية واللبنانية، وذلك قبل انتشار التلفزيون، وأظن ظاهرة السينما في حلب لم يكن لها ما يضاهيها حتى في العاصمة دمشق، وربما أن ذلك ينطبق حتى على ظاهرة بيع الكتب على الرصيف كما في الشارع الذي ذكرته.

وعودة إلى قصتي مع مطالعة الكتب، ففي تلك الفترة، وأظن أنها استمرت ثلاثة أو أربعة أعوام، حتى 1970، حيث انتقلت إلى مرحلة أخرى، هي الانخراط في العمل السياسي وفي حركة فتح، تعرفت على روايات ذهب مع الريح والبؤساء وبائعة الخبز وكانت من الأكثر مبيعا، وهو ما شجعني على قراءتها، كما تابعت قراءتي لنجيب محفوظ ويوسف إدريس، وإحسان عبد القدوس، وطبعا دواوين الشعر، وذلك من على درج البيت، فوق قبو المكتبة. وفي حادثة طريفة حصلت معي أن صاحب المكتبة أتى فجأة، وعندما لاحظ أنني مستغرق في المطالعة ولم أنتبه له، ولا إلى فتحه باب المكتبة ـ القبو، قام بسحب الكتب (البسطة) واحدا واحدا، وفعلا لم أنتبه إلا عندما بدأ بسحب الكتب القريبة من الدرج حيث أجلس، أي أنه علّم عليّ.

في غضون كل ذلك بات بإمكاني اقتناء الكتب والمجلات، بيد أنه بعد عام 1970 ليس كما قبله، إذ دخلت ميدان العمل السياسي مبكرا، وأخذ بكياني العمل الفدائي الفلسطيني، ومن باب حركة فتح، دخلت السياسة (1970، في عمر مبكر (16 سنة)، وهكذا بات لي اهتمامات سياسية وفكرية، وضمن ذلك فقد استهوتني فكرة الماركسية، والعدالة الاجتماعية، والتوق إلى التغيير، والثورة على الركود الخ، وصادف أنني كنت في إطار مجموعة فتحاوية ذات اهتمامات فكرية، وأقرب إلى الماركسية.

كانت أول مكتبة لي هي مجموعة من دواوين الشعراء الفلسطينيين، وكتب سياسية، لـ الياس مرقص وناجي علوش وجورج طرابيشي ولينين وماركس، مثلا، وبت أجمع مجلات الثورة الفلسطينية (وهي كانت تصدر عن فتح مطلع السبعينيات)، ثمة مجلة فتح، وبعدها فلسطين الثورة (تصدر عن الإعلام الفلسطيني الموحد)، حتى أنني جمعتها كلها في مجلدات في ما بعد، وكانت مكتبتي في ذلك الوقت عبارة عن درفة في خزانة الثياب الخاصة بالعائلة.

بيد أن محاولاتي المتعددة لبناء مكتبة شخصية باءت بالفشل، أو لم تنجح، فالمكتبة الأولى، تم توزيعها بسبب انتقالي من حلب إلى دمشق، بسبب التدخل السوري في لبنان (1976)، وتملصي من محاولة اعتقالي وقتها، وأيضا بسبب انتسابي لكلية الآداب (قسم التاريخ) في تلك الجامعة.

في دمشق بدأت ببناء مكتبة جديدة، ففي تلك الفترة بات بمقدوري شراء كتاب أو اثنين بين فترة وأخرى، وأيضا، بت آتي ببعض الكتب من لبنان، من مكاتب فتح، وكان أكبر مصدر لي لتأمين الكتب هو الشهيد ماجد أبو شرار، الذي كان يعطيني رسالة إلى دار الطليعة لأخذ ما أريد من الكتب، إضافة إلى ما آخذه منه، من إصدارات الإعلام الفلسطيني الموحد الكثيرة تلك الأيام، وطبعا كنت أحسب حصة أصدقاء كثر من تلك الكتب.

المهم أنني في دمشق استطعت بناء مكتبة جيدة، تتناسب مع اهتماماتي السياسية والفكرية، ثم مع اهتماماتي ككاتب، التي زاد عليها مطالعاتي اليومية لعدة صحف يومية، مثل الحياة والسفير والنهار والشرق الأوسط، لكنني مع الزمن شعرت أن كثيرا من تلك الكتب باتت لزوم ما لا يلزم، وأضحت عبئاً، لذا فقد كانت فرصة مناسبة لي لتوزيع قسم كبير منها، وكانت فرصتي إلى ذلك قيام الجبهة الديمقراطية بفتح مكتبة عامة لها في مخيم اليرموك، وقيام بعض النشطاء في "فتح" بجمع تراث تلك الحركة، وكانت حصتهم مجلات الثورة الفلسطينية وفتح وفلسطين الثورة، وطبعا، لم أعد أعرف مصير تلك الكتب أو المجلدات، بعد أن تم تدمير معظم مخيم اليرموك.

الآن، أو منذ ما بعد 2012، بت بعيدا عن مكتبتي التي كانت لفترة طويلة جزءا عزيزا مني، أتذكر كل كتاب فيها، أو أحاول ذلك، كما أحاول أن أتذكر كل عزيز علي، أحن إلى مكتبتي وأشعر بشوق كبير إليها لكنها بعيدة علي، وآمل أن تكون بأمان، وأن تبقى بسلامة، على أمل لقاء قريب.

مع ذلك لم أستسلم، ففي غربتي، في نيويورك منذ 2012 حاولت بناء مكتبة جديدة، بيد أنها توزعت على أصدقاء لي بعد انتقالي ومغادرتي الولايات المتحدة، وفي إسطنبول، في غربتي الثانية منذ 2016، حاولت بناء مكتبة أخرى، إلا أنها توزعت أيضا بعد انتقالي إلى مكان آخر، وهو ما أحاوله في برلين.

في الغضون ومع الإنترنت، ومع توفر نسخ من الكتب الإلكترونية، اشتغلت على بناء مكتبة إلكترونية جيدة، متنوعة وكبيرة، بقدر المتاح، في محاولة مني لترميم ما نقصني، أو ما أرى فيه قول الشاعر "خير جليس"، وما زالت مكتبتي الإلكترونية بخير..(طبعا هذا إلى جانب مطالعتي المنتظمة واليومية لعديد من الصحف اليومية عبر الإنترنت).

لا أدري إن كان هذا رثاء للكتب والمكتبات أو رثاء للأمكنة التي سكنتنا وسكنّاها، أو رثاء لأنفسنا التي تتنقل من مؤقت إلى آخر، في عالم لا يبدو أنه لنا، أو أننا نعيش فيه كبشر عاديين، أو كبشر افتراضيين.

تحية إلى الكتب وقراء الكتب، وإلى كل من لي عنده كتاب أو مجلة، فهذه ليست سيرة شخصية لي فقط، وإنما هي سيرة لكثر مثلي.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.