}

نحن فراشات أم بشر؟

مها حسن 7 يونيو 2018
آراء نحن فراشات أم بشر؟
لوحة للفنان سمير فؤاد
 

على موقف الباص، أمام صالة الأسد الرياضية في حي الجميلية في حلب، كنت أنتظر أبي. يتوقف أمامي باص "الخالدية" مزدحماً بالركاب، ثم يمر بعده على الفور، باص آخر، نصفه فارغ، أصعده وأنا أسأل الركاب للتأكد: الخالدية؟ فيأتيني الجواب بنعم. لا أعرف لماذا صعدت وتركت أبي، ربما ظننت أنه في الباص المزدحم، وقدرت أننا سنصل معاً إلى البيت، حيث نسكن في حي الخالدية في حلب.

أفقت على هذا الجزء من الحلم، وأنا أتساءل بدهشة، ما الذي يجعل فضاء أحلامي المكاني عالقاً في سورية، قبل خمسة عشر عاماً.

الآن، أنا في فرنسا، في زمن منقلب كلياً، أبي مات، أمي ماتت، بيتنا سقط وتحول إلى أنقاض، حتى حجارته تمت سرقتها، ولم يبق أي أثر للبيت.

لم أحلم يوماً ببيتي مهدماً، ربما لأنني لم أشهد الحادثة، ورأيتها عن بعد، ولم أحلم أيضاً بأن أبي أو أمي ميّتان. أنسى تماماً هذه المعلومة في مناماتي، كما أنني نادراً ما حلمت أنني في فرنسا.

أحاول فهم ارتباك عالمي اللاشعوري، هل هو رفض لحياتي الجديدة؟ أنا المواطنة الفرنسية اليوم، التي تعيش في فرنسا، وتتحدث بالفرنسية، محاطة بأكثرية من الفرنسيين وبقلّة من العرب، أتواصل معهم خاصة عبر العالم الافتراضي، بينما واقعي الحقيقي، هو الفرنسي. لماذا لا أتذكر في مناماتي هذه القصة: أنني فرنسية، زوجي فرنسي، بيتي هنا في فرنسا، أدفع الضرائب للحكومة الفرنسية، أشارك في الانتخابات، وبعض النشاطات السياسية والثقافية، باللغة الفرنسية.

حين أشعر بالتعب، أُصاب بالتشويش في فهم مصدر الأصوات: أنا في غرفة النوم في الطابق الأعلى، أحاول أخذ قيلولة سريعة، قبل متابعة العمل في مكتبي المجاور للغرفة ذاتها، أسمع صوت التلفزيون من الطابق الأسفل، أو صوت محرك سيارة جارنا عائداً إلى المنزل، أو صوت انفتاح البوابة الرئيسية لمنزله، أو حتى منزلي، فيترجم عقلي المرهق الأصوات على أنها: صوت التلفزيون في منزل أهلي في حلب، صوت محرك سيارة أبي عائداً إلى البيت، صوت انفتاح باب بيتنا الذي يحدث ضجيجاً خاصة يشبه الرنين العالي.. عاجزة عن الفصل بين الأمكنة والأزمنة بسبب تعبي، أتدرج في دخول النوم، مصطحبة بعض الأصوات المُضافة المرافقة لحفل عودة أبي: صراخ أولاد الجيران يلعبون بالكرة أمام بيتنا، أصوات جاراتنا يندهن على الأولاد...

أذكر ما يقوله جوانج زي في (حلم الفراشة): "رأيت أنا جوانج زي مرة في منامي أني فراشة ترفرف بجناحيها في هذا المكان وذاك، أني فراشة حقاً من جميع الوجوه. ولم أكن أدرك شيئاً أكثر من تتبعي لخيالاتي التي تشعرني بأني فراشة. أما ذاتيتي الإنسانية فلم أكن أدركها قط. ثم استيقظت على حين غفلة وهاأنذا منطرح على الأرض رجلاً كما كنت، ولست أعرف الآن هل كنت في ذلك الوقت رجلاً يحلم بأنه فراشة، أو أنني الآن فراشة تحلم بأنها رجل"، أحاول الفصل بين شكلي حياتي: هل أنا أعيش في فرنسا وأحلم أنني في سورية، أو أنني في سورية وأحلم أنني في فرنسا؟ لقد تطرقت لهذا الخلط في روايتي مترو حلب، حيث تعاني ساره من ارتباك المكان، ولا يقينيته. تحلم بأمها تقول لها إنها لم تذهب إلى فرنسا يوماً، وإنها مجرد تهيؤات. تقوم رواية مترو حلب على هذا الذعر أو الصدمة التي يصنعها المكان الجديد.

جديد؟ لكنني هنا منذ صيف 2004، متى يصبح هذا المكان واقعاً إذن؟ كم سنة أحتاج لإدراك رحيلي عن سورية؟ وكم سنة سأحتاج لأحصل على شرعيتي الذاتية بالتواجد في هذا المكان، إذ أفسّر نسياني له بأحد أمرين: رغبة في التواجد هناك، أو عدم التصديق بترك ذلك الهناك، بسبب الشعور بالذنب ربما، أو الشعور البديهي، بأن مكاني الطبيعي هو هناك، لا هنا.

ينتصر لاوعيي الذي ينشط في حالتي النوم أو التعب أثناء اليقظة، ليستسلم وعيي بأنني هناك.

ما دفعني لكتابة هذه المادة، هو التفكير بالمهاجرين أو اللاجئين السوريين. هؤلاء الذين تركوا بيوتهم وذكرياتهم عنوة. حين جئتُ إلى فرنسا، لم أفقد الكثير هناك. تركت عواطفي وارتباطاتي العائلية وعاداتي التي كبرت معها، أما اللاجئ الذي فرّ من الحرب، وربما فقد أحد أفراد عائلته : ابنه، أخاه، أباه، أمه.... وعاداته مع هؤلاء الذين تركهم عنوة (لا بد من تكرير الوصف)، كيف سيقبل لاوعيه بهذا الشلع؟ في مترو حلب، روايتي ذاتها، تحدثت عن ( الشلعيات)، اللون الغنائي الشعبي الذي ظهر في شمال فلسطين في فترة "السفر برلك" فترة التجنيد الإجباري العثماني للشباب، سميت بذلك لأنها تشلع القلب من كثرة الألم فيها.

هل سيفيق اللاجئون السوريون دفعة واحدة من مناماتهم، ليتساءلوا بصوت واحد: نحن فراشات تطير في سورية، وتحلم أنها في المنفى، أم فراشات تعيش في أوروبا وتحلم أنها كانت ذات يوم تعيش في سورية؟ ثم كيف سيعرف أحدنا الجواب النهائي، إن كنّا فراشات أو بشرا!

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.