}

عن حال العرب في كأس العالم 2018

شكري المبخوت شكري المبخوت 24 يونيو 2018
آراء عن حال العرب في كأس العالم 2018
لوحة للفنان ياسر الصافي

خيبة أمل معمّمة تعيشها الجماهير العربيّة بسبب مونديال روسيا هذه السنة. هزائم تلو الهزائم للفرق العربيّة المشاركة كان بعضها مهينا جدّا على مرأى من العالم وبعضها رسّخ اعتقادا مفاده أنّ الدقيقة التسعين لعنة تلاحقها جميعا.

في هذا المحفل العالمي للمنافسة من أجل الرايات الوطنيّة، كما تقول اللغة الخشبيّة للمعلّقين الرياضيّين في هستيريتهم البائسة، يعيد الجمهور العربي اكتشاف وجوه ممّا تعيشه "بلاد العرب أوطاني" من تراجع مفزع في المكانة الاعتباريّة. عندها تنقلب خيبة الأمل إلى شعور حادّ موجع بالمهانة.

إنّ كرة القدم، مهما كانت مواقف المثقّفين منها، لا تخلو من تعبير رمزيّ عن الهويّات الوطنيّة والقوميّة لذلك تؤدّي الهزيمة على الميدان، بعد التسعين دقيقة والوقت المبدّد إن وجد، إلى ضرب من النقمة على الوضع العام رغم أنّ الدول المعنيّة تنتظر منها أن تكون آية من آيات مجهودها في تأكيد "سياستها الوطنيّة الرائدة" (دائما وأبدا) داخليّا وتلميع صورتها الخارجيّة وربحا رمزيّا سياسيّا مشروعا بعد التمويلات الهائلة للاعبين والبنية التحتيّة والإعلام ومختلف مكونات القطاع الرياضي. 

رغم ذلك بدا أنّه لا شيء أجمل في كل هذا من التضامن الوجداني بين مشجّعي البلدان العربيّة الأربعة (تونس والمغرب ومصر والسعوديّة). فكلّ فريق منها في أيّ بلد يبدو للناس ممثّلا لهم يدعّمونه بالحماسة نفسها التي يدعّمون بها فريقهم الوطنيّ. غير أنّ ذلك لم يضف إلى الخيبة المحلّيّة (الوطنيّة) إلا الخيبة الإقليميّة (القوميّة) إلى حدّ السخط على العروبة وكره الذات رغم التبريرات المرتجلة والأعذار الواهية.

قد يكون في هذه اللوحة القاتمة وجه إيجابيّ يؤكّد أن الروح القوميّة، رغم ترسّخ واقع الدول القطريّة، لم تضمحلّ البتّة ولكنّ هذه الروح سرعان ما تنقلب ضيقا بالوطن وسخطا على الأمّة. إنّه تعبير مكثّف عن الشعور بالمذلّة والهوان والانكسار بما أنّ الذات الثقافيّة أعجز ما تكون عن تجسيم القيم الإيجابيّة لكرة القدم من شجاعة وإقدام وإرادة وإتقان وسخاء في اللعب. إنّنا أمام مشهد مؤلم من خزي قوميّ يبعث على الإحباط يذكّر هذا الشباب التائق إلى العالميّة التي يراها تتجسّد أمامه انتصارات وفنيّات وخططا تكتيكيّة ناجحة بتفكّك أمة وصراعاتها التي لا تنتهي ومذلّتها في الواقع الدوليّ.

لسنا نتحدّث هنا عن بعض كارهي ذواتهم لأسباب سياسيّة فجّة مضحكة. فأحد المعارضين التونسيّين كتب تغريدة تمنّى فيها، قبل المباراة، هزيمة المنتخب التونسي أمام الفريق الإنكليزيّ حتّى لا يستثمر خصومه السياسيّون الماسكون بزمام الحكم هذا الانتصار المحتمل لتقوية موقعهم السياسيّ. نعم، تُستخدم الكرة لأغراض سياسيّة كثيرة منذ نشأة كأس العالم والأمثلة من إيطاليا الفاشيّة على عهد موسولوني إلى الأرجنتين في ظلّ الدكتاتوريّة وصولا إلى روسيا اليوم. فليس من باب الصدفة، تمثيلا لا حصرا، أن يصدر فلاديمير بوتين تعليماته إلى وسائل الإعلام في بلاده كي لا تذكر شيئا عن الجرائم خلال المونديال. قد يكون في ذلك طمأنة لملايين الضيوف ولكن الثابت فيه هو تلميع صورة البلاد. بيد أنّ تسييس اللعبة بهذا الشكل الفجّ تحت شعار "عليّ وعلى أعدائيّ يا ربّ" يقيم الدليل على أنّنا فعلا أمام سياسيّين هواة يخوضون صراعا ساذجا ضدّ جماهير تبني الكرةُ جوانب من هويتها الجماعيّة.

لكنّ أخطر ما هدّد ما تبقّى من روح الوحدة القوميّة العربيّة قبيل ضربة بداية المونديال الحالي هو انقسام الدول العربيّة خلال تصويت الكونغرس العالمي لرياضة كرة القدم على من سينظّم دورة سنة 2026. فانقسم عرب الشبكات الاجتماعيّة إلى طوائف تعادي وتصادق بعد أن فضّلت بعض الدول العربيّة التصويت للملفّ الثلاثي (الولايات المتحدة وكندا والمكسيك) بدل التصويت لملفّ ترشّح المغرب. وهو ما أثّر، إن قليلا وإن كثيرا، في توجّهات جماهير البلدان العربيّة في تشجيع هذا الفريق أو ذاك. ولكن ما فائدة التشجيع والأرجل تكتب على المربّع الأخضر هزائمها المرّة؟

لقد قبل المثقّفون عموما بجميع مفاسد إيديولوجيّة هذا الدين اللائكيّ الجديد الذي نقل التفكير إلى الأقدام، من سطحيّة وفردانيّة وقسوة وعنف وتعصّب وشوفينيّة وفساد معمّم في إدارتها واتحاداتها، ولكنّ الوضع في مثل هذا السياق العربي صار غير محتمل البتّة. إذ لم تعد كرة القدم تصنع الحلم وتمتّع جماهير العرب بقدر ما استحالت تقدّم لهم جرعة أخرى من اليأس والعجز والأحقاد والتبرّم. إنّها جماهير تعيش، علاوة على كوابيسها اليوميّة، كابوسا آخر يلازم اللعبة وجماليّاتها.

قد تكون كرة القدم تلبية لما فينا من نزعات بدائيّة تستعيد صور الصيد والطرائد والمعارك التي تشدّ الجمهور إلى مشاهدة "حروب دون إطلاق رصاص" على حدّ تعبير جورج أورويل. لكنّ الثابت في مونديال 2018 بروسيا أنّ الجمهور العربيّ يتألّم مكتئبا ويتأوّه في أسى بعد أن خال غرامشي أنّ هذه الرياضة "مملكة الحريّة الإنسانيّة تمارس في الهواء الطلق". فمشكلة جماهير العرب من عشاق اللعبة الشعبيّة الأولى أنّ الهواء فاسد، وثمّة وباء اليأس ينتشر فيه.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.