}

رأسمالية الحجاب

شيرين أبو النجا 23 يونيو 2018
آراء رأسمالية الحجاب
تخطيط خير النساء لأنس عوض (العربي الجديد)

في السابع عشر من آب (أغسطس) عام 2007، أعلن مصمم الأزياء العالمي أتيل كوتوغلو، وهو من أصل تركي، أن خير النساء، قرينة الرئيس التركي آنذاك عبدالله غول، طلبت منه ابتكار شكل جديد لحجابها، يليق بمكانتها الجديدة. وجاء طلب خير النساء أثناء التحضير لانتخاب زوجها رئيساً للجمهورية في ذلك الحين. وحددت طلبها بأن يبتكر كوتوغلو شكلاً جديداً لحجابها وثيابها "يمكن أن يرضي الجميع، من الأكثر انفتاحاً إلى الأشد محافظة". جاء هذا الخبر في جريدة الحياة اللندنية بتاريخ 20 سبتمبر 2007، من ضمن صفحة كاملة تم تكريسها للحجاب. وأضاف المصمم بعد ذلك أنه سيعرض على خير النساء "مجموعة من عشرة موديلات تمزج بين البريق الهوليوودي وبين الجدية التي يفرضها مركزها".

يثير طلب خير النساء عدة إشكاليات. من المعروف أن الأوساط التركية العلمانية قد ثارت بمجرد أن قام عبدالله غول بترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية- وتحول حجاب زوجته إلى علامة إجماع واختلاف سياسي. تحول الحجاب إلى بؤرة الصراع، وأصبح فوز غول يعني ضمنياً سقوط العلمانية التركية رغم كل تصريحات غول التي تؤكد عكس ذلك، حتى أنه قال أمام بعض الصحافيين "أنا الذي سأكون رئيساً للدولة- إذا ما انتُخبت- وليس زوجتي". ورغم أن الخطاب التركي الرئاسي لم يطرح نفسه بهذا الشكل التقابلي الثنائي الحاد إلا أن المراقبين والمهتمين من كافة أنحاء العالم قد عمدوا إلى ترسيخ فكرة الحجاب بشكل مركزي في الانتخابات التركية. بهذا تحولت هوية النساء إلى معادل لهوية الأمة مرة أخرى، وإلى فتيل يعيد إلى الساحة صراعاً كان الاسلام التركي قد نجح في استيعابه نوعاً ما، وهو ذاك الصراع بين الاسلاميين والعلمانيين الذي يقوم على أرضية النساء. لكن الإشكالية الحقيقية تكمن في تحويل الحجاب إلى سلعة ترتبط بالتقسيم الطبقي. فبالطبع ليس في إمكان كل النساء ارتداء حجاب خير النساء. 

 الملاحظ هنا هو استجابة "خير النساء" السياسية للأجندة التي فُرضت عليها، إذ قامت بتحويل  الحجاب إلى "زي" عصري ينفي أي شبهة تأخر عن ركب الحضارة. وهو ما يعني أن الحجاب قد تحول إلى رمز وعنصر رئيسي من عناصر الاستهلاك، مما أدى إلى خلق منظومة كاملة تتوجه إلى النساء، لترويج أفكار من قبيل أنه مصدر الراحة أو الأمان أو قبول المجتمع أو الجمال المثالي كما نرى في كافة الإعلانات التجارية سواء المرئية منها أو المصورة. بهذه الاستجابة رسخت خير النساء امكانية تحويل الحجاب (من عدمه) إلى مدخل للابتزاز السياسي لا يختلف كثيراً عن رؤية الغرب للمرأة التي ترتدي الحجاب. ينحصر الصراع في مساحة ضئيلة تحاول النساء فيها إثبات تقدمهن وتحضرهن عبر الدفاع عن أنفسهن ضد التنميط الواقع عليهن. وإذا كانت بعض الصحف قد أوردت اسم المصمم بوصفه نمساوياً من أصل تركي، فإن صحفاً أخرى قد تعاملت معه باعتباره مصمم أزياء العارضة ناعومي كامبل وسيدة أميركا الأولى لورا بوش. بذلك يتم بث الطمأنينة في نفوس المعارضين وخاصة في الغرب، فالرسالة تعني أن "المرجعية" متشابهة والأرضية مشتركة.

لم تكن الصين هي الدولة الأولى التي بدأت بإعادة تصدير الثقافة الاسلامية إلى العالم العربي، فقد سبقها الغرب الأوروبي إلى ذلك. ولم يكن الانزعاج من الصين سوى قلق من المنافسة على احتكار السوق. فهي منافسة اقتصادية بحتة قد تدعم أيديولوجيا ما أملاً في جني الأرباح. فعلى سبيل المثال، أدانت لورا بوش الزي النسائي الذي فرضته حركة طالبان وكان ذلك في سياق تنديدها بحقوق النساء في أفغانستان (تمهيداً للتدخل العسكري)، ولكنها عادت بعد ذلك وقامت بزيارة للعربية السعودية ولم تعلق على الزي السعودي، بل إنها وضعت وهي هناك غطاء على رأسها في اعلان صريح لقبول المنظومة الأيديولوجية. أما المثال الثاني فتختص به فرنسا. فقد أثار حظر ارتداء الحجاب في المؤسسات الحكومية جدلا كبيرا في الأوساط السياسية والثقافية، وفي نفس اللحظة أعلنت بيوت الأزياء العالمية الفرنسية- ومنها بيت أزياء ايف سان لوران- عن بدء خط إنتاج خاص للعالم الاسلامي ليقوم بتصدير الحجاب. تجني هذه المنتجات أرباحاً خيالية من العالم الاسلامي، مثلها في ذلك مثل مستحضرات التجميل الخاصة بتبييض الوجه لتحقيق حلم النساء في الحصول على بشرة بيضاء.

يؤدي هذا السوق الذي يسعى إلى جني الأرباح من العالم الثالث (عبر المخدرات والسلاح وأدوات التعذيب والسيارات والسلع الاستهلاكية) إلى تغيير التركيبة الاقتصادية للمجتمعات. أي أنه بقدر مسارعة النساء إلى ارتداء الحجاب بقدر ما عادت الطبقية إلى الظهور معلنة عن نفسها في الملابس الخاصة بالمحجبات. لم تتخلص مطلقاً المجتمعات العربية من الطبقية لكن تحول الحجاب إلى سلعة استهلاكية قد زاد من حدة الفروق. فالأصل الجوهري في فكرة الحجاب هو الاحتشام والتواضع، وبشكل مفارق سبب هذا المعنى قلقاً شديداً لكثير من نساء الطبقة الوسطى، وخاصة شرائحها العليا. فهن لا يردن أن يتساوين مع "اللواتي" يوصمن بالتخلف، بل يسعين بكامل قواهن إلى ارساء فروق واضحة في الملبس وأسلوب الحياة بشكل عام بوصفهن مستنيرات في حين أن الأخريات عاجزات عن تمثيل الوسطية المتسامحة للإسلام. ولذلك فإن الرفض الذي تعلنه بعض فصائل اليسار السياسي للحجاب يثير دهشتي، فهو رفض يقوم على رفض الأيديولوجية الدينية التي يمثلها الحجاب ولكنه لا يتناول الحجاب بوصفه أحد المؤشرات الدالة على الطبقة. وبذلك استبعدت هذه الفصائل مساحة واسعة قد تمكن النساء من عقد تحالفات في مواجهة سياسات رأسمالية اقتصادية مدمرة، لا تتورع عن تشييء الأيديولوجيا وتفريغها من المضمون لحساب الشكل: شكل النساء بالطبع.  

*ناقدة من مصر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.