}

الثورة الثقافيّة الثانية في تونس

شكري المبخوت شكري المبخوت 16 يونيو 2018

من مفارقات الثورة التونسيّة لسنة 2011 أنّها رفعت شعارات الكرامة والشغل والحريّة بيد أنّ المآلات الواضحة إلى حدّ الآن مزيد من الصعوبات الاقتصاديّة المنذرة بالإفلاس وما تستتبعه من مشكلات اجتماعيّة. غير أنّ اللوحة ليست سوداء تماما. فقد جاء دستور 2014 ليؤسّس لثقافة الحرّيّات والحقوق وهو في تقديرنا الثورة الثقافيّة التونسيّة الأولى. إنّه دستور، حين نتأمّله، لا يخلو من ترسيخ لمفهوم أساسيّ هو المواطنة بما يتفاعل إيجابيّا مع المنظومة الحقوقيّة الكونيّة.

ويمثّل صدور تقرير لجنة الحريّات الفرديّة والمساواة هذه الأيّام، وهي لجنة أحدثها رئيس الدولة منذ أقلّ من سنة، من منظور ثقافيّ عامّ ثورة حقيقيّة ثانية إذا كتب له أن يدخل حيّز التنفيذ.

فاللافت فيه أنّه لم يكتف بالجانب التقنيّ القانوني المتّصل بالقوانين التي صارت بالية غير متناسبة مع ما استقرّ اليوم في المنظومة الحقوقيّة الدوليّة ومبادئ الدستور التونسي، بل قدّم منهجيّة في الإصلاح أساسها مبادئ في تأويل النصوص الدينيّة التي تتضمّن أحكاما في تعارض مع المبادئ الحقوقيّة والتوجّهات الكونيّة.

فمن صعوبات تحقيق المساواة التامّة بين الرجال والنساء مثلا المساواة في الميراث. والحجة الأبرز التي تقدّم لمناهضة المساواة في هذا الباب أنّنا أمام نصّ قطعيّ الدلالة يمنح الأنثى نصف نصيب الذكر من الإرث. ولكنّ جرأة تقرير لجنة الحريّات تبرز في تقديم رؤية تأويليّة هي خلاصة المحاولات الإصلاحيّة في تونس منذ إلغاء الرقّ في أواسط القرن التاسع عشر (سنة 1846) وصولا إلى مجلّة الأحوال الشخصيّة (سنة 1956) وقد أحدثت ثورة اجتماعيّة هائلة بإجراءات كثيرة فيها تبدو مخالفة لما استقرّ في المنظومة الفقهيّة القديمة.

وتقوم هذه المنهجيّة المقترحة على مبدأين أساسيّين. أحدهما التمييز بين الشريعة باعتبارها جملة من الأحكام وروحها التي هي المقاصد الأساسيّة من الدين. والثاني تنزيل الأحكام المختلفة في التاريخ للنظر فيها باعتبار المقاصد وتحوّلات المجتمع بحيث يطبّق المبدأ الأصوليّ القائل بأنّ الحكم يدور مع علّته إيجابا وسلبا.

ومن أوضح الأمثلة التي أوردها التقرير مثال المساواة في الإرث. فالواقع الاجتماعيّ التونسيّ يثبت تحوّلا عميقا في مكانة المرأة ووظائفها ودورها والنزعة إلى تكثيف حضورها في الفضاء العامّ والإسهام في نفقات العائلة وتكوين ثروتها على قدم المساواة مع الرجل. ولمّا كانت علّة الإنفاق على العائلة، وهي العلّة التي بموجبها كان الحكم بإسناد نصف نصيب الرجل إلى المرأة، منتفيةً بدليل ما يشهد عليه الواقع اليوم، صار من الممكن تغيير الحكم دون أن يعني ذلك نقضا للإسلام بقدر ما هو تحقيق لمقاصده في المساواة والعدل. 

وعلى هذا المنوال تُبنى الاجتهادات والآراء التي يتضمّنها هذا التقرير في ما فيه تعارض بيّن بين المرجعيّة الدينيّة والأحكام الفقهيّة من جهة والمبادئ الحقوقيّة الكونيّة من جهة أخرى. ولجماعة التقرير حججها وأمثلتها المبسّطة المستمدّة من التاريخ الإسلاميّ ومواقف الصحابة والفقهاء القدامى وسلوكهم وممارساتهم.

وليس يخفى ما وراء هذا الأسلوب في النظر من مشاكل ومعايب ستثير ولا ريب جدلا سواء من جهة المحافظين التقليديّين أو من جهة الحداثيّين العلمانيّين. فهذا الموقف المقاصديّ يرفضه التقليديّون لمخالفته اعتقادهم في أنّ النصوص القطعيّة لا تمسّ رغم أنّ بعضها علّق الخلفاء العمل به وبعضها الآخر ليس من صميم الدين، وإنّما هو إنشاء بشريّ مستند إلى الدين وبعضها الثالث لا يمسّ الإيمان والاعتقادات في شيء بما أنّه من باب المعاملات الاجتماعيّة المتغيّرة بطبيعتها. إنّه حوار طرشان منتظر لن يكون في نهاية الأمر إلا جدالا لا طائل من ورائه. والواقع أنّ هذا الأسلوب في النظر يكشف أيضا حدود المقاربة المقاصديّة ويطرح سؤالا جوهريّا حول الحاجة إلى تبرير دينيّ لحقوق صارت كونيّة، وسيفرضها تطوّر التاريخ الذي لم يعد من الممكن للمسلمين أن يظلّوا خارجه بل سيفرض عليهم على نحو من الأنحاء مهما طالت الممانعة.

فإذا كان الدستور التونسيّ يذكر في فصله الأوّل، على سبيل الوصف لا الحكم، أنّ تونس دولة "الإسلام دينها" فإنّه يؤكّد في فصله الثاني أن الدولة "مدنيّة تقوم على المواطنة". فالمدنيّة تناقض، من بين ما تناقضه، الدولة الدينيّة والمواطنة تأبى تحديد الناس على أساس انتماءاتهم العقديّة او الطائفيّة أو ما شابهها. لذلك كان يمكن للجنة أن تعلن مباشرة انطلاقها من المرجعيّة الحقوقيّة الدوليّة والتزام تونس بالإعلانات والمواثيق المختلفة.

لكن من الواضح أنّ الموقف النظريّ والمنطلقات المقاصديّة تكتسيان لدى أصحاب التقرير صبغة بيداغوجيّة لطمأنة التونسيّين بأنّ القصد ليس مخالفة الضمير الإسلاميّ ولا هدم الإسلام للتأكيد على أنّ مخرجات أعمال اللجنة تنبع من روح الإسلام أو لنقل من تأويل محتمل من تأويلات النصّ الدينيّ. وهذه مهمّة عسيرة، على نبلها، حتى إذا سلمّنا بسلامة الآليّة التأويليّة نفسها.

ووراء هذا الجانب البيداغوجي "استمالة"، أو على أقلّ تقدير سعي إلى "إقناع" القوى السياسيّة الفاعلة ذات المرجعيّة الدينيّة لتحقيق أكبر قدر من "التوافق"، وهو من مفردات اللغة السياسيّة السائدة في تونس اليوم، بين الفاعلين في مجلس نواب الشعب الذي سيقرّر مصير التعديلات القانونيّة الضامنة للحرّيّات الفرديّة والمساواة.

والغريب أنّ التعليقات الأولى متردّدة بين الناكرين على اللجنة ضربها في العمق للإسلام (هكذا بالأحرف التاجيّة دون تدقيق ولا تفصيل) ومناقضتها لإرادة الشعب التونسي المسلم والناكرين على اللجنة توسّلها بآليّات تبريريّة تلفيقيّة تنازلا منها للقوى الدينيّة.

لكنّ المشكلة أنّ العاضّين بالنواجذ على دينهم عاجزون عن تقديم حلول حقيقيّة منصفة للمشاكل الماسّة بالحريّات الفرديّة والمساواة فهم عمليّا لا يرون تحت الشمس من جديد ولا بدّ من ليّ عنق الواقع ليوافق النصّ في كل الحالات. وأقصى ما لديهم الدعوةُ المخادعةُ باسم إرادة الشعب إلى الاستفتاء على القوانين المقترحة كما لو أنّ الحقوق قابلة للتجزئة لنختار من مغازة الحرّيات ما يناسبنا. وحجّتهم المتكرّرة في مثل هذه المسائل أنّ الأفكار التجديديّة نخبويّة مسقطة يعقوبيّة ولكنّهم لا يقولون لنا هل كان إلغاء أحكام قطع يد السارق ورجم الزاني والزانية والرقّ وما إليها من العقوبات المهينة بلغة الحقوق الدوليّة مصدره النخبة أم تطوّر وعي الشعب وإرادته؟

 امّا الحداثيّون المندّدون بآليّة التبرير الديني لمسائل مدنيّة لا مناص منها لبناء دولة المواطنة ففي موقفهم بعض الوجاهة من الناحية المعرفيّة. لكن ألا تنقلب المعرفة في المسائل الظنّيّة إلى موقف إيديولوجي لا يقلّ فجاجة عن الخلفيّة الإيديولوجيّة التي سعى بها واضعو التقرير إلى نوع من البيداغوجيّة الملائمة "للمسلم الحزين" الحائر بين نصّه ونفسه وواقعه وإلى طمأنة المعارضين المحتملين.

إنّنا حين نتأمّل تاريخ الإصلاح في تونس خصوصا مع بورقيبة نجد أنّ هذه الآليّة قد أتت أكلها رغم الشكّ في سلامة المقدّمات ووضوح السمة التلفيقيّة بين الدينيّ والحقوقيّ. ولكنّ الثابت أنّه لولا هذا الأسلوب في النظر ما كان من الممكن أن يحدث بورقيبة ثورة عميقة في بنية المجتمع التونسي بقوانين لم تكن ستحظى، لو استفتى الناس فيها، بالقبول. بل إنّ الحديث عن الحرّيّات الفرديّة نفسه لم يكن ممكنا الآن في تونس لولا ما أحدثته مجلّة الأحوال الشخصيّة من انتقال جذريّ من العائلة الموسّعة إلى العائلة الذريّة التي مهّدت لإحلال الفرد وحقوقه محلا رفيعا.

فليكن الحوار والنقاش دينيّا ومعرفيّا واجتماعيّا وقانونيّا حادّا قويّا، ولكنّنا نعتقد أن على التونسيّين ونخبهم الحداثيّة والمحافظة في آن واحد ألا ينسوا أنّ الحريات الفرديّة والمساواة أساس المواطنة، وكل تعطيل للقوانين الضامنة لهما باسم أيّ تعلّة أو حجّة مهما كانت إنّما هو وأد لثورة حقيقيّة تلوح في المدى القريب ولأمل دفين لأمة المسلمين والعرب وهو إلى ذلك إضاعة لوقت ثمين بما أنّ هذا هو أفق الإنسانيّة الحديثة وطريقها. فهل يعتبرون؟ 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.