}

الانتحاء إلى الغرب أو شهوة الغربي بحياتنا الثقافية

خيري الذهبي 25 مايو 2018
آراء الانتحاء إلى الغرب أو شهوة الغربي بحياتنا الثقافية
خيال الظل غيتي

انتشرت فرق الكوميديا ديللارتي في الغرب الأوروبي منذ أواخر العصر الروماني، ومع انهيار القناصل لصالح الطغيان في روما انتشرت الفرق الجوالة التي تمثل الكوميديا الخفيفة ("الكوميديا ديللارتي") والقائمة على الثنائي الخبيث الضعيف المكار والضخم الساذج، ضحية المقالب التي يرتبها له الخبيث صغير الحجم. وفي عتبات غياب القرون الوسطى شهدنا محاولات الفلاح الفقير، أو الخادم الصغير، تهريب محبوبته من قدر حصة الإقطاعي، أو قدر "البريما نوتي" أو حق الإقطاعي بالليلة الأولى قبل الزفاف، إلى العريس، وهو حق يمكن الإقطاعي مالك كل شيء من عروس الخادم الضعيف الغيور، وكان هذا الخادم يحمل اسم فيغارو حينًا، واسم سغاناريل حينًا آخر.

فيغارو، هذا الخادم الذي استمر في صراعه لإنقاذ حبيبته وعروسه القادمة من الإقطاعي صاحب الحق حسب القانون الإقطاعي في البريما نوتي، الليلة الأولى، فهو مالك كل شيء، سنراه في مسرحيات "زواج فيغارو" وهو يحاول إنقاذ وتهريب محبوبته من قدر الليلة الأولى!!

وسنرى هذا الثنائي اللاتيني في خيال الظل و"كراكوز وعيواظ" في أراضي الدولة العثمانية وريثة بيزنطه، وسنراهما مؤخرًا في مسلسلي حمام الهنا، ومقالب غوار، أي في مسلسلات دريد لحام ونهاد قلعي، وربما لاحظنا الحفاظ على النحيل المكار، والسمين الساذج لدى دريد ونهاد!!.

وهذه الفرق الريفية الغربية كانت تعمل من خلال عربة أو عربتين، وتقوم الثانية منهما بمهمة الفندق وغرفة تغيير الملابس، وتغيير الماكياج، وفيها ينامون أثناء الرحلة من قرية إلى قرية، ولكن أنظار العربة ومن فيها مثبتة على العاصمة يتمنون رضًى، أو إعجابًا من كبير ما يقدم لهم مسرحًا، ولو صغيرًا في باريس، أو برلين، أو فلورنسا.

وفي ذلك الزمان الذي سبق الثورة السياسية الفرنسية استعانت الفرق الريفية بشخصيات الكوميديا ديللارتي، فانتعشت شخصيات كـ"سغاناريل" و"فيغارو"، أو الخبيث الظريف الذي تغفر له خبثه عن طريق إضحاكك، ثم انتقل هذا الثنائي إلى أميركا في الثنائي "آبوت وكوستيللو"، و"لوريل وهاردي"، و"دين مارتين وجيري لويس".

وقد يتساءل القارئ: لكن ما الحاجة إلى كل هذه المقدمة؟ وأجيب... إن الواقع هو أن الحياة لم تتغير، والإقطاعي ما يزال يحتفظ بحق الليلة الأولى في حياتنا، وفيغارو، الكاتب المعاصر، ما يزال يحوم ساعيًا وراء ملذات العرس دون أن يضحي بعروسه لليلة الأولى.

كانت صدمتي الأولى مع مفهوم النشر في الغرب عند اجتماعي مع ناشرة بلجيكية في دمشق، حين حدثتني أن نجيب محفوظ كان كارثة على ناشريه الأوروبيين رغم فوزه بجائزة نوبل، فمواضيع رواياته مألوفة في الأدب الغربي، ومكتوبة عدة مرات، ثم تحولت الناشرة لتتحدث عن  كاتبة متواضعة الموهبة الروائية هائلة الجرأة والإشكالية في كتاباتها وهي نوال السعداوي، فأبدت إعجابها بما تكتب، فهي بياعة ومطلوبة بقوة في المكتبات الأوروبية، ورواياتها مدهشة للقارئ الذي لم يعتد القراءة عن ختان النساء، أوعن ظلم الرجل للمرأة، أو عن افتراع المرأة على يد "الداية" للتأكد من عذريتها قبل الزواج إلخ.... وعرفت أن التلمذة على المدرسة الواقعية في بلد لا يسمح لك فيه بالكتابة إلا عن تمجيد الحاكم هو أمر مجانب للعقل!

وبهدوء عرفت ما الذي يهم الناشر والقارئ الغربي بينما اندفع كتابنا وكاتباتنا إلى الحديث والكتابة عن الواقعية الاشتراكية التي سئمها الروس ومتابعوهم!

كان النجاح الأكبر للكاتب والمخرج المسرحي في أوروبا حين ينتقل من الدوقيات الإيطالية إلى مملكة الشمس الفرنسية، وكنت ترى الانتحاء لدى الفنانين الغربيين متجهين إلى مدينة النور.. باريس... واستمر الأمر على هذه الشاكلة حتى بدايات القرن العشرين حين انتحى الكتاب الأميركيون إلى عاصمة النور، وليس الأميركيون الشماليون فقط كـ: همنغواي، وفيتزجيرالد بل الأميركيون الجنوبيون أيضا كـ: بورخيس وماركيز، وقد وصفت انبهار الأميركيين الشماليين، الذين تخلوا عن الولايات المتحدة وأقاموا في باريس في حينها، الكاتبة الأميركية غيرترود شتاين التي كتبت روايتها "الجيل الضائع" وكانت تتحدث عن الأميركيين الذين انتحوا إلى باريس كـ: إرنست همنغواي وسكوت فيتز جيرالد وهنري ميللر إلخ...

هذه الظاهرة ما لبثت أن انتقلت إلى العالم العربي المستفيق متأخرًا من نومة العصور الوسطى فشهدنا رحلات المصريين طه حسين، وحسين هيكل، بعد رحلة رفاعة رافع الطهطاوي إلى فرنسا وكتابته المبكرة جدًا عن مفاجآته بطريقة العيش الفرنسية وكانت رحلته غير الاختيارية إمامًا للشراكسة طلاب الضباط الذين انتقاهم محمد علي باشا مبعوثين إلى فرنسا يتعلمون العلوم العسكرية...ثم أرسل معهم الطهطاوي إمامًا يؤمهم إلى الصلاة، ولكن شهوة المعرفة غلبته، فقدم لنا العديد من الكتب عن فرنسا القرن التاسع عشر، وكانت رحلته هذه من أكثر هذه الرحلات نفعًا للعربية ولسانها.

ثم ما لبثت لندن أن تقدمت لتكون المحج لأولئك الذين كانت بريطانيا تحتل بلادهم كالهنود والباكستانيين والمصريين.

وأخيرًا كان الانتحاء العجيب من مهاجرين كرهًا من سوريا والعراق ولبنان إلى الغرب المحرم عليهم لسنوات حكم الدكتاتورية، وقد شهدت بعينيّ طوابير من السوريين يقفون منذ الساعة الثانية أو الثالثة صباحًا عند باب السفارة الأميركية لا يبغون إلا تقديم طلب هجرة إلى الولايات المتحدة لعلهم يوفقون في الهجرة من تلكم البلاد.

زلزال 2011

ثم كان الزلزال في مطلع 2011، والذي ضرب بقسوة وارتد بقوة حتى تهددت حياة الجميع، فأسرع الكثيرون منهم بالهجرة، فلقد تحللت قوى المنع على الحدود، وشهدنا المئات منهم و ولعشرات المرات وهم يهاجرون إلى الغرب في قوارب مطاطية لا تحميهم بشكل حقيقي، وصل البعض وغرق الكثيرون... وكان من بين الذين هاجروا ونجحوا كثير من معتقلي الرأي الذين ما إن أطلق سراحهم حتى لجأوا إلى الهجرة ونجحوا في الوصول إلى الغرب السعيد!.

من بين هؤلاء المهاجرين عدد من السياسيين "ورقيًا" الذين لم تسمح لهم سلطات السجون بكتب للقراءة إلا الروايات المنشورة لدى اتحاد الكتاب السوري، أو وزارة الثقافة السورية، وأحيانًا كانت تصلهم كتب مطالعات صحافية للروايات حوّلها أصحابها المقربون من قناتي النشر الرسميتين في سوريا إلى كتب نقد خفيفة لهواة الروايات، وكانوا يقرأون أحيانًا المجموعات القصصية حين يوفرونها لهم. هؤلاء السياسيون "ورقيًا" دربوا أنفسهم عبر مناقشة الروايات التي قرأوها مع زملائهم على انتقاد ما قرأوه في مناقشاتهم أثناء فسحات التنفس، وكانوا قد قرأوا لملء فراغهم كثيرًا من الروايات، لما كانوا يهيئون أنفسهم من باب "النفع العام" لإدارة المجتمع حال تسلمهم السلطة التي كانوا يعتقدون أنهم أجدر بها من هؤلاء- يقولونها في ازدراء- الانتهازيين المعتلين لكراسي السلطة!.

وكانوا عند اعتراض أحدهم من باب الديموقراطية على استهتارهم بالحكام القائمين يعلنون أنهم في حال تمكنهم من السلطة، فسوف يديرون المجتمع بكفاءة أفضل!! ألم تعلمهم النظرية المبسطة وسيرة القادة المنتصرين أنهم المحررون لمجتمعهم.... ثم يعلنون في استهتار: هل كان كاسترو خيرًا منهم- المعتقلين- عند توليه السلطة، أم بول بوت؟ أو حتى ماو تسي تونغ؟ هل كانوا أقدر منهم على إدارة المجتمع، وهم لم يقرأوا ما قرأناه حول إدارة المجتمع لصالح المجتمع!

وكانوا قد تحولوا إلى مشاريع حكام عند خروجهم من السجن، فتحولوا إلى النقد "وهو شكل آخر من إدارة المجتمع ولو على الورق"، وكانوا يعتبرونه وسيلة لإدارة مجتمع الكتابة في فوقية تعلموها من الحزب الحاكم، والتي اتسم بها الوضع السوري منذ انتصار الانقلاب عام 1963     والمهم أنهم كانوا يشعرون بالظلم الكبير الذي وقع عليهم، فهم لم يسيئوا للوطن، بل حاولوا شده إلى ما رأوه الصواب، وقد عاشوا التعذيب والمرارات والحرمان من النوم والزيارات إلخ...

كان لديهم ثأر مع الجلادين والمحققين والسجانين، وكانوا يعتقدون أنهم من سيديرون البلد للأصلح حسب نظريتهم السياسية، فلما اعتقلوهم وأذلوهم ثم أخلوا سبيلهم خرجوا ومع كل منهم قصة عن تجربته القاسية في المعتقل، وتخيلوا المجتمع المنتظر لرأيهم في الحرية والديموقراطية، فسكبوه على الورق يلعنون الجلادين وكبيرهم، ويظنون أنهم يردون الصاع صاعين للجلادين، وتراكمت الروايات التي تصف المجتمع كما أرادوه، والمجتمع الذي قمعهم، وأذلهم، وقتل رفاقهم. فلما وصلوا عبر الطائرات من بيروت، ومن استانبول، عبورا للبحر بالبلمات (جمع بلم وهو القارب المطاطي)، شعروا بأن الفرصة قد أتيحت لهم في كتابة معاناتهم، وتعريف الغربيين بما قاسوا ليحرروا الوطن من الطاغية، ولم يكن في نصوصهم التي تنطحت لمقارعة النصوص الكبرى في عالم مفتوح للقراءة ما يشد أو يعجب القارئ الغربي الذي قرأ قبل ما يزيد على الخمسين سنة رواية "الفراشة" الفرنسية التي تسرد حكايات التعذيب وجزيرة الشيطان في طلاوة تجعل كتاباتهم تتراجع خجلًا!.

 في أوروبا وباريس تحديدًا وإخلاصًا لمدينة النور والتاريخ والثورات نشروا إبداعاتهم، وكانت خيبة الأمل الكبيرة، فالقراء لم يكترثوا لروايات قرأوها مرات قبل هذه الكتب المدفوع ثمن طباعتها، وثمن ورقها، وتجليدها، وخطوطها من قبل الكاتب، أو من قبل داعميه...

الخائبون من مدينة النور

لم يكن السوريون أول ولا آخر الخائبين بمدينة النور التي تجاهلت معاناتهم، فلقد مر على مدينة النور من كتب مثل هذا وأشد وحشية، فلما "أعادوه" منتصرًا إلى بلده كان أسوأ من الطاغية الجلاد الذي وصفه كتابنا الأشاوس، ثم على استحياء يذكرون منتصرًا عاد من مدينة النور إلى بلاده، فانتصر على ملكها المدعوم سابقًا من الولايات المتحدة، ثم حوّل العائد المنتصر بلاده إلى قاعدة لنشر أفكاره ورغبته في صنع إمبراطورية دينية!!!.

لم يكن السوريون أوائل الشرقيين ممن أصابتهم مدينة النور بخيبة الأمل، فلقد سبقتهم البنغلاديشية تسليما نسرين، التي انبهرت بالحظ الذي أصاب سلمان رشدي حين صار على كل شفة ولسان بعد نشر روايته "آيات شيطانية" والحكم الذي أصدره عليه الخميني بالإعدام، وجعل دمه مهدورًا ما اضطر الحكومات الغربية إلى حمايته حماية خاصة، وقد حاول الكثيرون من باب الغيرة تقليد سلمان رشدي في كتابات تسب الدين، والنبي الكريم، لعل الغرب (الكافر) يرضى عنهم ويعطيهم ما حلموا به، وكانت مصر قد عاقبت واحدًا من الكتاب المصريين "تحاشيًا من إثارة فتنة لن يستطيعوا إخمادها"، وكان قد وضع رواية يسيء فيها للرسول وزوجات الرسول، كما فعل سلمان رشدي، لكن الحكومة أدركت ما يسعى إليه هذا الكاتب، فسحبت النسخ من التداول، وجعلت الصحف حتى شديدة المحلية منها تتجاهل الواقعة، والكاتب، والسباب، وانقلب سحر المتسلق على صاحبه، فماتت الرواية، ومات ذكر الحالم بالشهرة.

ووصلت إلى الغرب تسليما نسرين البنغلاديشية، والتي أرادت تقليد سلمان رشدي في التهجم على الإسلام والمسلمين، والدفاع عن مظلومية الآخرين، فكتبت رواية أسمتها "العار" معارضة رواية سلمان رشدي " العار"، وفي هذه الرواية تتحدث تسليما عن أسرة هندوسية استمرت في العيش في باكستان الشرقية والتي ستصبح بنغلاديش بعد حرب قاسية مع باكستان الغربية في سبعينات القرن الماضي.

وكانت بريطانيا الدولة المستعمرة لشبه الجزيرة الهندية قد أنشأت دولتين في شبه القارة الهندية معتمدة على الاختلاف الديني فقط، فتمزق الشعب الهندي الواحد، وكان من نصيب هذه الأسرة الهندوسية بطلة الرواية أن تكون من الأقلية الهندوسية المقيمة بين الأكثرية المسلمة في بنغلاديش، ومن هذا التلخيص شديد البساطة نستطيع ملاحظة المعارضة حذوك النعل بالنعل مع رواية سلمان رشدي "العار" والتي تتحدث عن تقسيم الهند حسب رغبات بعض القادة وما تسبب به هذا الفصل من تهجير ومآس بين أبناء الشعب الواحد.

بالمناسبة مصطلح الانتحاء مستعار من علم النبات، حيث تنتحي أوراق النبات باتجاه الضوء. وهذا الانتحاء الذي ازدهى بباريس وازدهت به باريس قد أغرى كثيرين وكثيرات بتقليد النجاح الذي حظي به من سبقوهم الى الغرب كسلمان رشدي، والكاتب الهندي الأصل في. إس. نايبول، المولود في ترينيداد من جزر أميركا الجنوبية، والذي كره مظهره الخارجي الهندي فكانت كتاباته كلها معادية لوطن الأجداد، معجبة بالأزياء الغربية، والفن الغربي، والطعام الغربي، واللسان الانكليزي، والشقرة الغربية حتى تفوق على البريطانيين باللغة الانكليزية التي يكتب بها، وتجرأ على الهجوم على المجتمعات الهندية المهاجرة التي خرج منها ذووه إلى ترينيداد، ثم اندفع في زيارة إلى الهند ورأى انقسام المجتمع الى مسلم وهندوسي، فهاجم المسلمين المتخلفين المعتزين بدين لا يمكن أن يدافع عنه، وجعل من هذه الهجمات عمود كتابته.

ما يهمنا من هذا السرد كله هو أن السوريين الذين هاجروا إلى الغرب ويحلمون بتكرار بورخيس ويونيسكو وهمنغواي سيفاجأون بعد صدمتين أو ثلاث أن الكتابة ليست موهبة فقط، بل ثقافة، وفلسفة حياة، واهتمام بهموم الوطن الجديد الذي اختاروه!!

ترى هل سينجحون في الامتحان الصعب؟

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.