}

الستينات: رجل وإمرأة وولدان في المقعد الخلفي

خالد زيادة 26 أبريل 2018
آراء الستينات: رجل وإمرأة وولدان في المقعد الخلفي
لوحة للفنان السوري مهند عرابي

 

 

بدأت الستينات باكرًا في مدينتنا وانتهت قبل أوانها.  بدأت بالتفاؤل والآمال العريضة وانتهت بهزائم ونكبات.

في شهر أيار/مايو سنة 1958، نشبت اضطرابات في لبنان عُرفت باسم "الثورة" ضد حكم الرئيس كميل شمعون المنحاز إلى ما سُمي آنذاك "حلف بغداد". وقد توسط هذه الثورة حدثان بارزان في السنة نفسها: اعلان الوحدة بين مصر وسوريا في شباط/ فبراير، والانقلاب العسكري على الملكية في العراق في شهر تموز/يوليو.

وفي الشهر التالي انتخب في لبنان رئيس جديد هو قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب. وكان هذا الانتخاب بمثابة إعلان نهاية الثورة وبداية عهد جديد سيشهد خلاله لبنان نهوضًا على كافة المستويات.

كان المدّ العروبي يجتاح العالم العربي، إلا أن قائد العروبة، آنذاك، جمال عبد الناصر أبدى حكمة فائقة في ما يتعلق بلبنان. وبصفته رئيسًا للجمهورية العربية المتحدة، ورئيسًا للاقليم الشمالي (سوريا) كان لا بدّ أن يلتقي بالرئيس اللبناني. وحرصًا  منه على استقلال لبنان، ولكي لا يسبب إحراجًا للرئيس اللبناني (كان بإمكانه أن يستدعيه إلى دمشق أو القاهرة)، تم الاتفاق على نصب خيمة على الأرض المحايدة بين لبنان وسوريا، وتم لقاء الرئيسين فيها في 25 آذار/مارس 1959. وكان هذا اللقاء تعبيرًا عن احترام عبد الناصر خصوصية لبنان. وإشارة رمزية إلى أن هذا البلد لن يكون عرضة لزعزعة استقراره.

ومع الرئيس فؤاد شهاب الذي امتد عهده من عام 1958 إلى عام 1964، عرف لبنان تأسيسًا جديدًا إذا جاز التعبير. فإذا كانت دولة لبنان قد أعلنت عام 1920، ونال البلد استقلاله عام 1943، فإن عهد الرئيس شهاب كان المرحلة التي تم فيها بناء المؤسسات، من المصرف المركزي إلى أجهزة الرقابة الادارية إلى مجلس الخدمة المدنية (الذي يتولى إعداد المباريات لاختيار الموظفين في الدولة) إلى بناء كليات الجامعة اللبنانية وتدعيم التعليم الرسمي، ومد شبكات الكهرباء إلى الأرياف. وفي تلك المدة كان العالم العربي يعيش مخاضًا ثوريًا وإنقلابيًا وتحرريًا.

عرف لبنان استقرار نظامه البرلماني عبر انتخابات ديمقراطية (لا تخلو من تدخل الأجهزة)، فشهد لبنان دورات انتخابية عام 1960-1964-1968-1972، وتداولاً للسلطة، قبل أن تنشب الحرب التي استمرت ما يقرب من خمس عشرة سنة.

في سنوات الخمسينات كانت لا تزال الحياة  المدينية تقتصر على عناصر أولية من المظاهر العصرية. كانت الكهرباء قد امتدت إلى المنازل، لكن استخدامها كان يفتقر إلى الإنارة والراديو، وكانت العائلات تستخدم (بابور الكاز) للطهي، والحطب لتسخين الماء. وكان الخبز يُصنع في المنازل ويُرسل إلى أفران الحطب مع أجير الفران أو مع صبيان العائلة.

كان التغيير الأول حين تم التخلي عن الخبز المنزلي لصالح خبز السوق الجاهز في المتاجر والدكاكين. أما التطور الأكبر الذي بدل هندسة العلاقات العائلية فهو التلفزيون، الذي جمع الصغار مع الكبار أمام الشاشة الصغيرة، وغيّر نظرتهم إلى العالم عبر الانتقال من المعرفة السمعية إلى المعرفة البصرية المدهشة.

وكان انتشار الأدوات الكهربائية المنزلية (الغسالة والثلاجة) يشير إلى نمو الرأسمالية التجارية. وكان الغياب المتسارع لحجاب المرأة وطربوش الرجل يعبّر عن النزعات التحررية. وكان الانتقال من الريف إلى المدينة ومن الحارات القديمة إلى الأحياء الحديثة يعلن عن ضمور الاقتصاد الزراعي والحرفي وارتفاع مستوى المعيشة.

إلاّ ان كل هذه التطورات لا يمكن أن نعزلها عما كان يجري في العالم. فأوروبا التي خرجت من الحرب العالمية الثانية أمضت ما يزيد على عشر سنوات من إعادة البناء والتقشف.

وفي نهاية الخمسينات وبداية ستينات القرن العشرين، أستأنفت مصانعها انتاج السلع الكمالية المنزلية خاصة السيارات العائلية، التي ساهمت، من ضمن عوامل أخرى، بتحديد حجم العائلة، من ضمن عوامل أخرى، زوج وزوجة وولدان في المقعد الخلفي. كذلك فإن أوروبا التي تجاوزت آثار الحرب أخذت في انتاج سلع الترفيه والفن، من عروض الأزياء إلى صناعة السينما والموسيقى التي أخذت تغزو أسواق العالم وخصوصًا سوق الفن والترفيه في لبنان الذي كانت نوافذه مفتوحة بالمقارنة مع نوافذ العالم العربي التي كانت آخذة بالانغلاق تأثرًا بالموجات الثورية، وتأميم الثقافة والصناعة وسيطرة الأجهزة على الحياة العامة.

هذه الأجواء العربية التي تميزت بتقييد الحريات، أفاد منها لبنان، فازدهرت الصحافة وظهرت المجلات الثقافية والأدبية ونشط المسرح التجريبي والمسرح الغنائي وأصبح النشر في لبنان ينافس مصر في الانتاج، بل إن كبار الشعراء أخذوا ينشرون أعمالهم في بيروت وكذلك الأدباء. طبع نجيب محفوظ "أولاد حارتنا" في دار الآداب، ونشر الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" في مجلة "حوار"، فضلاً عن ترجمة الآداب العالمية، همنغواي وسارتر وكامو..


ونشطت الحياة الحزبية العلنية للبعثيين والشيوعيين عدا عن الأحزاب اللبنانية، وكان الطلاب يتظاهرون ويرفعون الهتافات المدوية التي تصل إلى آذان السلطات التي تغض الطرف وتعد بتنفيذ المطالب.

كانت الحرب الباردة على أشدها، ودول عدم الانحياز في أوج نشاطها، فأنحزنا إلى جانب الــڤـيتـكونغ في فيتنام ضد القبعات الخضر الأميركية، ومشينا خلف قادة عدم الانحياز، نهرو وسوكارنو وعبد الناصر وتيتو ونكروما. وإلى جانب من بيلا في الجزائر والسلال في اليمن. وفي مقابل الشعارات الثورية أُعجبنا بالثقافة الغربية: مورافيا وسارتر واليوت والسينما الايطالية مع فيسكونتي وانطونيوني وبازوليني، والسينما الفرنسية مع تروفو وغودار والسينما الأميركية برموزها من هنري فوندا ومارلون براندو إلى مارلين مونرو إلى أغاني بريسلي والبيتلز وأزنافور وبراسنز وبيكو..

كان العالم يتغير وكنا نتغير معه، في ستينات التحرر من القيود في كل العالم، التحرر الوطني وحقوق الانسان وحقوق المرأة والتحرر الجنسي.

وكان عصر غزو والفضا، من غاغارين إلى نيل ارمسترونغ الذي مشى على سطح القمر. وزمن الرموز الكبار، ديغول وكينيدي ومارتن لوثر كينغ ومحمد علي كلاي وغيـڤـارا وهوشي منه وماوتسي تونغ.

مضت الستينات في مسارها الخلاّق والتغييري والتحرري. ففي عام 1968، اندلعت ثورات الطلاب في مدن أوروبا الجامعية وامتدت إلى الشارع بشعاراتها الثورية. كانت أبرز الثورات الطلابية في فرنسا، التي كادت تطيح حكم الرئيس ديغول، وقد دفعته إلى الاستقالة بعد سنتين. كانت ثورات الطلاب أطلقت الشعارات ضد أنظمة اليمين الحاكم في أوروبا، ولكنها كانت في العمق خروجًا على عباءة الاشتراكية الدولية السوڤياتية، وولادة  اليسار الجديد وبروز أفكار مدرسة فرانكفورت الفلسفية. كانت ثورات الطلاب هي الرمز الأخير على التغيير الذي حملته الستينات العربية، التي تغير العالم بعدها، ففي غضون عقد من الزمن انقلبت القيم والمفاهيم، في الأفكار والفنون والعلاقات بين الجنسين والحرية الشخصية وتبدل الحياة العائلية وتطور التكنولوجيا.

لكن في العالم العربي، كانت اندفاعة الستينات قد توقفت مع هزيمة حزيران 1976،فكان رد الفعل بولادة المقاومة التي أصبحت جزءًا من حركة تحرر عالمية من ڤـيتنام إلى الأوروغواي(التوبا ماروس) إلا ان كل ذلك لم يكن سوى الاندفاعة الأخيرة قبل ان تختتم الستينات العربية رسميًا بأيلول الأسود ووفاة عبد الناصر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.