}

عن الذات العربية منزوعة الذائقة الجمالية

إلياس فركوح 21 فبراير 2018
آراء عن الذات العربية منزوعة الذائقة الجمالية
لوحة للفنان العراقي حنوش حنوش

 

* قد ترتبط الذائقة الجمالية، من حيث توافرها كبذرة أولى، بالميل الفطري لدى الإنسان لتحقيق التوازن، والانسجام، والتناغم. أن يحقق ذلك في داخله من خلال تنمية مجموعة قِيَم لا تتسم بالتناقض وتكون، في الوقت نفسه، منسجمة مع "الصورة" التي يرغب أن يبدو عليها، في مرآة ذاته وفي مرايا الآخرين. وهو، في سبيله إنجاز هذا، تراه يتعامل مع عناصر الخارج – أي موجودات العالم الذي يعيش فيه ويتحرك فاعلاً ومتفاعلاً – وقد سكنه هاجس العثور فيه على مكونات الجمال الثلاثة التي فُطِر عليها، والمُشار إليها: التوازن، والانسجام، والتناغم. فالجمال في حياة الإنسان، والحالة هذه، إنما يعني عدم تصادم تلك الأضلاع الثلاثة الكامنة داخله بأخرى تناقضها تسيطر على العالم خارجه وتتحكم بسلوكات المجتمع وأفراده. إذن؛ غاية الإنسان بحسب ما ذكرت تتمثّل في التوافق بين قِيَمه ومعاييره التي يختزنها، ويعيش مستدلاً بها، والمعطيات السائدة في مكان عيشه وزمانه - المجتمع.

غير أنّ حالة التوافق هذه، بين داخل الإنسان وخارجه، نادراً ما تتحقق، كما أنْ ليس كل إنسان حيّ يملك في داخله تلك المعايير والقِيَم، وبنسبة واحدة متفق عليها. وهكذا، ترانا نعود إلى نقطة البداية المتمثلة في التربية، إذ لها الدور الأكبر في تنمية تلك المعايير والقيم، وصقلها، والبرهنة عليها عبر نماذج واقعية يمكن لمسها ومعاينتها فعلاً في الواقع المعيش. التربية بوصفها الحاضن الأول والمؤسس لوعي الإنسان في بدايات تكونه وتشكيله لـ"صورة" العالم كما ينبغي أن يكون.

* نحن، إذا ما رصدنا الكيفيات والبرامج والأنشطة داخل المؤسسات التربوية/ التعليمية، التي خضعت لها أجيالٌ وأجيال ساهمت في "تشكيل"  الذائقة الجمالية لديهم؛ فلسوف نُفْجَع بما نجد، أو بالأحرى مما لا نجد! ليس ثمّة ما يشير إلى وجود هذه الذائقة، وذلك لعدم وجود تخطيط واعٍ ومدروس لوضع برامج خاصة بكيفية التعامل مع الجمال المتجلّي في كافة الفنون وضروب الإبداعات الأدبية! وإذا ما عثرنا عليها متمثلة في عدد أو أعداد من الأفراد؛ فإنها إما مشوهة لافتقارها للتوجيه.. أو قاصرة لارتباطها بمرحلة عمرية انقطعت بعدها.. أو تعاين المنظورات الجمالية في الخارج على نحو تقليدي في الغالب الأعمّ: تقليدي بمعنى ما توارثته دون سعي أو جهد بوصفه "جمالاً" تُرِكَ ولم يكن أكثر من مواد للزينة وتعبئة لفراغات المكان، وتقليدي بمعنى "النَسْخ والمماثلة" - إذا رغب أصحاب هذه الذائقة أن يجترحوا هم أنفسهم أعمالاً تحت عناوين الفنون والجمال.

والتقليدي، بالمعنيين اللذين أشرتُ إليهما، يعاكسان الجمال كمبدأ وشَغَف وتطلع نحو مستقبل مختلف ينسجم مع رجاءات البشر وآمالهم بالجديد الأجمل من جهة، ويعملان، من جهة أخرى، على "تجميد" الإبداع بحصره في الموروث الشعبي السائد، أو حتّى الشعبوي الساذج، وهذا بدوره يعيق الذائقة في تعاملها مع نماذج جمالية غير تقليدية، أو مغامِرة بُنيت على رؤية للعالم وللفن مغايرة تماماً للمألوف التقليدي. وهنا تحديداً تقف اللاذائقة الجمالية في وجه أيّ تحوّل في التعاطي مع الذات والعالم بوصفه "آخر ومختلف وجميل".. فينمو التعصّب لضيق الأفق نتيجة اختلال أضلاع مثلث الجمال، أو وجوده مشوهاً بمفاهيم تُناقضه وتنقضه (التوازن، والانسجام، والتناغم)، وفقر الذائقة.

* لطالما تساءلت كلّما رأيتُ نُصباً، أو تمثالاً، أو جداريةً في مكانٍ عام، أو رسومات غرافيتية تغطي جدراناً في الضواحي والأسواق؛ إذا ما كانت موضع قبولٍ واستحسان من المواطنين العابرين بها! وهل كلّ مَن رآها توقفَ وتأملها مانحاً لها دقائق من وقته، أم مرَّ بها دون أن تثير فيه ذكرى قديمة مثلاً، أو تبعث في كيانه رعشة المفاجأة الإيجابية! وكيف يقوم الواحد مِنّا بـ"قراءة" التشكيلات المرسومة بألوانها والمنحوتة بموادها الصلبة بمعزلٍ عن "لغة" يتملكها تماماً.. ألْا وهي: الذائقة الجمالية. وهل يملك، مَن يفتقر إلى "هذه اللغة"، القدرةَ على "قراءة" العمل الفني الماثل أمامه، وأن يحكم له.. أو عليه!

ليس باستطاعتي عزل التكوين المديني والتخطيط له/ أو اللاتخطيط والعشوائية، عن تشكيل الذائقة الجمالية لدى أفراد المجتمع. فالجمال بأضلعه الثلاثة إما يحضر مكتملاً فيضفي انسجاماً على العلاقة بين الفضاء العام والأفراد المتحركين داخله.. فتقلّ نسبة التوتر الاجتماعي ويتراجع العنف. أو يتعرض للتكوّن والنمو على نحو فوضوي عشوائي، فترتبك المنظورات وتتشابك منعكسة، بحالها هذا، على أمزجة الذين يعيشون فيه، فتسود حالات العصبيّة وعدم احتمال الآخرين، وارتفاع أصوات الناس والمركبات، إلخ. وهذا يدلل على أنّ مسؤولية تنمية الذائقة الجمالية إنما تقع على مجموعة من المؤسسات والهيئات والجهات، الحكومية والمجتمعية في الوقت نفسه.  وإني، عندما أتطرق إلى الفضاء العام المديني، أكون أخذت بالاعتبار التوزيع النسبي للكتل المعمارية الناهضة في الفضاء، و"شرايين وشبكات" الطرق، والمساحات الخضراء المفتوحة، والاكتظاظ/ اللااكتظاظ المالئ للتكوين الكلي للمدينة.

المدنية الحديثة المتجلية في مدننا العربية المتحوّلة إلى فضاءات اجتاحها "التلوث"، بأكثر من معنى، لابدّ وأنها ضربت الذائقة الجمالية بتشويهها للمنظور العام. فأنت حين تكرّس هذا النموذج المديني الخليط والمُهَجَّن من حداثة معمارية إسمنتية ومزججة شاهقة في غير بيئتها، إلى جوار بنايات "تواضعت" في تعاملها مع محيطها التقليدي ارتفاعاً وبساطة، ثم قمت بحجب الفضاء الجزئي والكلي بيافطات الإعلانات العملاقة وإرباك الأبصار بألوانها ونداءاتها للاستهلاك السِّلَعي؛ أقول: إذا قمت بهذا التكريس المشهدي البانورامي فأنت، والحال هذا، إنما قمت بتلويث بَصَريّ عميق لا يقلّ ضرراً عن تلويث الهواء والماء. والضرر المقصود هنا، هو إشعار الإنسان المحاط بهكذا "عمالقة" بأنه مجرد كينونة مُداسة، وبإنسانية صغيرة تافهة، وبأفراد لا قيمة لهم بعيداً عن قيمة ما يستهلكون!

فأين الجمال في كلّ هذا، وأين الذائقة التي تتعاطاه بينما لا وجود له يملأ الأمكنة، وكيف لهذه الذائقة (في أي حالة من حالاتها) أن تتكوّن بينما تم تشويه متطلبات البشر وطموحاتهم وفق معايير الاستهلاك البارق في أعينهم ليل نهار: في الطرقات المعماة باليافطات البشعة، في البيوت حيث تندلق عليهم الإعلانات من شاشات تلفازاتهم، وفي الأغاني ذات الكلمات الهابطة تلعلع خارجة من نوافذ العربات!

* لا تتشكل الذائقة الجمالية إلّا وفق "منظومة" من عناصر التوجيه والتربية، قاعدتها تبيان ضرورة التوازن، والانسجام، والتناغم في كل مناحي الحياة. فأن نتذوق نصّاً أدبياً كاشفين عن الجمال في كتابته، بناءً، ولغةً، وإيحاءات بعيدة، لن يكتمل لنا من دون فهم معنى "الهارموني" الواجب توفره للنصّ. وهذا بدوره لا يكون حين نفتقر للقناعة القائلة بأن الكون نفسه قائم على هذا الهارموني، طبيعة.. وبشراً متعددي الانتماءات والمعتقدات والثقافات.. وتوافقاً معيشياً مجتمعياً لا ظالم فيه ولا مظلوم! وما عاشته وتعيشه منطقتنا العربية من تدمير لجميع القيم، وإخلال ببنى مجتمعاتها ومكوناتها المتعددة، وما تزال حتى اللحظة وعلى مدار ساعات اليوم، لأكبر دليل على انتفاء الهارموني/ الانسجام والتوازن والتناغم في العالم الذي نعيش، عاكساً حقيقته هذه على الذات العربية في داخلها.

وما الموت اليومي الذي يجول دون وازع بين ظهرانينا، سوى الشهادة على أننا أدرنا ظهورنا للجمال.. إذ فقدنا بوصلته الهادية: الذائقة الجمالية.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.