}

"نظريّة المعرفة في التّصوُّف": رؤية جديدة للمُدوَّنة الصُّوفيّة العربيّة

أحمد عزيز الحسين 14 فبراير 2018
آراء "نظريّة المعرفة في التّصوُّف": رؤية جديدة للمُدوَّنة الصُّوفيّة العربيّة
لوحة للفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد

1- إطار سيريّ

"نظرية المعرفة في التّصوّف" هو الكتاب الفكريّ الثّالث للباحث السّوريّ أحمد عبدالحميد غانم، وقد صدر في طبعته الأولى عن دار الحوار في اللّاذقيّة عام 2017 في نحو 350 صفحة من القطع المتوسّط، وللباحث غانم مساهمات أخرى في التّراث الفكريّ اليونانيّ والعربيّ، وتجربة في كتابة القصّة القصيرة، وقد بدأ اهتمامه بالمدوَّنة الفلسفيّة الصّوفيّة العربيّة منذ أربعة عقود ونيّف عندما كان طالباً في قسم الفلسفة بجامعة دمشق؛ إذ اختار لنيل دبلوم الدّراسات العليا موضوعاً عنوانه (التّوحيد الصّوفيّ الإسلاميّ) عام 1976 تحت إشراف أستاذه العلّامة عادل العوّا الذي كان مرجعاً في هذا الموضوع في الشّرق كلّه. غير أنّه لم يستطع استكمال ما بدأ به بسبب قلّة المصادر المطبوعة بين يديه فآثر الاشتغال بجوانب أخرى من التّراث الفكريّ والثقافيّ العربيّ، وأولى اهتمامه للمدوَّنة الفلسفيّة الإغريقيّة فأخرج منها كتابين: (سرّ الأسرار) المنسوب إلى أرسطوطاليس (دار إياس طرطوس-2009) و(كتاب النّفس) لأرسطوطاليس (دار إياس– طرطوس-2010)، ولكنّه لم ينقطع في الوقت نفسه عن الاهتمام بموضوعه الأثير (التّصوُّف) الذي بدأ به حياته العلميّة؛ إذ انصرف خلال عقود لقراءة المئات من الكتب عن التّصوُّف والمتصوِّفين، ولكنّ ذلك لم يشبع نهمه لاكتشاف هذا العالم الغريب، ما دفعه إلى نسيان ما قرأه والعودة إلى المدوَّنة الصُّوفيّة نفسها التي غدت في متناوله بعد أن حقّقها باحثون مشهود لهم بالكفاءة وطول الباع، فضلًا عمّا توافر بين يديه من مخطوطات في باريس وتركيّا وإيران ودمشق ولبنان، وفي عام (2000) أعدّ الباحث النّسخة الكاملة من كتابه عن التّصوُّف، وكاد أن يطبعه، ولكنّه اكتشف عند مراجعته له أنّه كان تقليديّاً في آليّة العرض والتّحليل، وسطحيّاً في فهم المدوَّنة الصّوفيّة نفسها وأصحابها، وأنّه لم يحقّق ما كان يطمح إليه من إنجاز علميّ فآثر إتلاف الكتاب لكيلا يضعف وينشره بعد أن تبيّن له أنّه سيظلم ذاته وسيظلم المتصوّفين أنفسهم إن قام بطباعته، وخلال ذلك تابع الاشتغال في موضوعات أخرى؛ فأنجز كتابة مجموعته القصصيّة الثّانية (عذابات أبي بديع) وكتابه (طرطوس حضارة وجمال) المترجم إلى اللُّغتين الإنكليزيّة والفرنسيّة، وكتابيه (ثلاث مقالات متجاورة – دراسة فكرية – 2000) و(العنصريّة الغربيّة والتّطرف الإسلاميّ- دار إياس - طرطوس 2011)، ولكنّه لم يكفَّ عن التّفكير في إحياء كتابه الشّهيد الذي وأده قبل أن يرى النّور.

     

وخلال ذلك كان يعود باستمرار إلى قراءة المدونَّة الصّوفيّة العربيّة باحثاً ومنقبّاً عن منفذ يُتيح له معالجة موضوعه بطريقة جديدة تُرضيه وتُثرِي موضوعه، إلى أنْ أدرك أنّ فكرة الكتاب قد نضجت في ذهنه، وأنّ منهجيّة البحث غدت في متناوله، وأنّه صار قادراً على الدُّخول إليه من بابه الصّحيح بعد أن كابد في كتابته تجربة شبيهة بتجربة المتصوّفة، إذ تجلّى له منهج البحث تباعاً وبطريقة حدْسِيّة أقرب إلى مكابدة المتصوِّفة أنفسهم في مقاربة تجربتهم الوجدانيّة وتمثُّل موضوعاتهم.

 ويلحظ القارئ لكتابه أنّه تجنّب الوقوع في أشراك الفقهاء السّلفيّين الذين رفضوا التّصوُّف، ونظروا إليه على أنّه خروج عن الإسلام الحنيف، واعتبروا أصحابه فاسقين وضالِّين ومارقين عن الدِّين، كما تجنّب الوقوع في إسار الباحثين النّفسانّيين الذين رأوا في التّصوُّف نوعاً من الهذيان تُفضِي إليه حالة الوحدة والتّقشُّف والسّهر والمُواجَدة التي يعيشها المتصوّف، كما حاول تخليص التّصوُّف من الهالة القُدسيّة التي أُحِيط بها، ونظر إليه على أنّه يمثّل تجربةً فكريّة شديدة الخصوصيّة، وتخلو من القداسة والكرامة والعِصْمة التي أُسنِدتْ إليها. وقد قدّم الباحث لكتابه بفرشة تاريخيّة مهّد بها لموضوعه، وأضاء فيها الحاضن التّاريخيّ والاجتماعيّ والفكريّ الذي اعتبره خلفيّة ضروريّة لانبثاق ظاهرة التّصوُّف وتفتُّقها.         

2- في الخلفيّة

يذكر الباحث في تمهيده للكتاب أنّ المسلمين شهِدوا بعد وفاة الرّسول (صلى الله عليه وسلم) اختلافاً حول السّلطة تطوّر إلى نزاع فصراع في المراحل اللّاحقة، وقد توسّلت كلّ فئة النّصّ الدّينيّ لدعم موقفها السّياسيّ، وعمدت إلى تأويل هذا النّصّ بما يتواءم مع وجهة نظرها ومصالحها، وهذا ما أفضى إلى الاختلاف في تأويل النّصّ الدّينيّ نفسه، وتحويله إلى سلاح لخدمة الأطراف المتصارعة؛ ولهذا اتّخذ الصّراع بين هذه الأطراف طابعاً اجتماعيّاً وسياسيّاً، وتمحور حول السّلطة، وقد استُخدِم فيه النصّ الدينيّ ذريعةً للعداوة ومُسوِّغاً للعنف والقتل، وما لبث كلّ حزب سياسيّ أنْ تحوّل إلى فرقة دينيّة تتجلْبَبُ بالدّين، وتتّخذه سلاحاً لتحقيق أطماعها السّياسيّة، وصار الذين يقتتلون سياسيّاً يقتتلون دينيّاً، ويؤوّلون النّصّ الدّينيّ لتسويغ صراعهم السّياسيّ، وبدلاً منْ أن يُسمَّى الحزبُ (اسماً سياسيّاً) يدلّ على المبدأ السّياسيّ الذي اعتنقه أطلق على نفسه (اسماً دينيّاً) لإخفاء توجُّهه السّياسيّ والفكريّ والاجتماعيّ كما يقول أحمد أمين مُستلهِماً قول الشهرستانيّ في (الملل والنِّحل): (ما استُلَّ سيفٌ في الإٍسلام إلا على الإمامة) أي: السُّلطة.

وقد استدعى الخلافُ السّياسيّ والتّطوّرُ الاجتماعيُّ وانتشارُ الإسلام في مناطق عديدة لها ثقافاتها العريقة حراكاً فكريّاً جديداً في شكله ومضمونه تمحور حول تأويل النّصّ الدّينيّ، ما أفضى إلى التّمييز بين النّصّ الدّينيّ المُوحَى به والفكر الدّينيّ بوصفه تأويلاً بشريّاً لهذا النّصّ، وما لبث الفكر الدّينيّ نفسه أن اتّخذ مسارَيْن مُتغايِرَين انطلاقاً من النّصّ الدّينيّ نفسه:

الأوّل: تيّار الفقه الذي اعتمد (النّقلَ) واستبعد (العقلَ)، ونظر إلى الإنسان على أنّه مُقيَّد، وتحوّل من آليّة لفهم الواقع واستيعابه وإصدار التّشريعات المناسبة له، إلى أداة سلطويّة وغطاء دينيّ لمحاربة الإبداع والتّنوير بجميع أشكاله، ووُظِّف لخدمة السّلطة السّياسيّة بشكل سافر. وقد أدّى هذا الاتّباع وهذه السّكونية إلى التّحجُّر، وأفضى إلى الصِّراع الداخليّ والتّطرُّف، ووصل إلى حدّ تكفير المسلمين بعضهم لبعض.   

الثّاني: علم الكلام الذي أقرّ بحقيقة الدّين وصحّة العقيدة، ودعا إلى الدّفاع عنها ببراهين عقليّة، غير أنّه استنْفَد دوره التّاريخيّ في حركة الفكر العربيّ الإسلاميّ، لأنّه قصر دور (العقل) على إثبات (النّقل)، وتحوّل إلى دين رسميّ للنّاس، ومذهب فكريّ متحجِّر، وانتهج أصحابُه العنفَ في فرض فكرهم على خصومهم حين أتِيحتْ لهم الفرصة، فحادُوا عن حريّة التّفكير والاعتقاد الّتي نادوا بها، وانقادوا لغير سلطان العقل الذي جعلوه حاكماً لهم في كلّ شيء، واضطّهدوا منْ خالفهم الرّأي، أو عارضهم في القضايا التي كانوا يُقِرّونها، وحاولوا فرضَ هيمنتهم على خصومهم من خلال السّلطة السّياسيّة التي تسنّموها في عصور المأمون والمعتصم والواثق لا من خلال قدرة فكرهم على الحوار والإقناع؛ ما أدّى إلى نهايتهم بوصفهم تيّاراً فكريّاً وسياسيّاً مسيطراً. ولكنّ فضاء الحريّة الفكريّة الذي أسّس له علم الكلام والاطّلاع على الفلسفة الإغريقيّة وفلسفات الشّعوب الأخرى ومنها الفلسفات الشّرقيّة والتّطوُّر الاجتماعيّ الذي شهدته الدّولة العربية الإسلاميّة ما لبث أن تفتّق عن نشوء الفلسفة الإسلاميّة والتّصوّف.

وإذا كان علم الكلام قد أفرز تيّارات فكريّة متناقضة ومتناحرة وذات طابع مذهبّي ضيّق (كعلم الكلام السّنيّ والشّيعيّ والخارجيّ)، وتحوّل إلى خادم للسُّلطة، وانتهى بتهديم ذاته، والتّخلي عن جوهره العقلانيّ؛ فإنّ الفكر الفلسفيّ جاء ليتجاوز هذه المذهبيّة الضّيّقة التي وصل إليها علم الكلام كما يقول الباحث؛ فعمد إلى تمثُّله، وسعى إلى تجاوزه نحو آفاق أكثر رحابة وعمقاً، مبتعداً عن حامله الماديّ (الاجتماعيّ)، ومتجاوزاً (اليوميَّ المباشرَ) إلى (الكليّ) بعيداً عن البيئة التي احتضنته، وكان لها دور في تخلُّقه. 

وقد تصدّى الفقهاء للتيّار الفلسفيّ العقلانيّ، وعمدوا إلى تكفير أعلامه، مجرِّمين العقلَ، ومُعلِين من شأن النّقل، وانتهى الصّراع بين الطّرفين مع بداية عصر الانحطاط بانتصار التّيّار النّصيّ/ السّلفيّ وهزيمة تيّار العقل. ولم يتمكّن الفيلسوف العربيّ والمسلم من فصل قضايا الفكر الفلسفيّ والبحث الميتافيزيقيّ عن قضايا الدّين، وبقي فكره عموماً أسيراً لمقولات تدّعي المطلق وامتلاك الحقيقة كاملة؛ كما لم يستطع التّحليق في فضاء الميتافيزيقا كما كان يرغب، وأخفق في إيجاد حلول جذريّة للقضايا الاجتماعيّة التي واجهته، وخضع مُجْبَراً لقوّة (السّلطة) المتمثّلة بالدّولة والنّظام الاجتماعيّ والسياسيّ بسبب اضطّراره إلى التّقيُّد بنمط تفكير محدّد ينسجم مع عقيدته الدّينيّة، ويتوافق مع النّصّ الدينيّ خشية ألّا يُكفَّرَ من قبل الفقهاء، وتُبادَ آثارُه كما حصل لكثيرين من أمثال الرّازي والفارابي وابن سينا وغيرهم؛ ولذلك لجأ الفكر الفلسفيّ العربيّ إلى تأويل النّصّ الدّينيّ مبرهِناً على عدم التّناقض بين الحكمة (الشّريعة) والنّصّ (الدّين)، وهذا ما نجده متجلّياً في محاولة الفارابي التّوفيق بين أفلاطون وأرسطو في كتابه المعروف (الجمع بين رأي الحكيمين)، راغباً في إثبات توافُق رؤاهُما مع نظريّة التّوحيد الدّينيّ في الإسلام.  

وهنا ينبّه الباحث إلى أنّ الفيلسوف المسلم كان عليه أن يبني نظامه الفلسفيّ على أساس التّوافُق مع نظام فكريّ ومسبَق وجاهز هو الدّين، فلا يرفضه بل يُحاوره ويؤوِّله ويُعزّز صحّته، ممّا يؤكّد أنّ الفلسفة العربيّة في مجملها ظلّت فلسفة إسلاميّة، وجاءت لإثبات الحقيقة الدّينيّة مُتوسِّلةً العقلَ، وكان على العقل الفلسفيّ العربيّ أن يظلَّ (إسلاميّاً) هو الآخر، ولا يستطيع تجاوز السّقف المرسوم له، وحين تجرّأ بعض الفلاسفة على التّصريح ببعض الأفكار التي تجاوزت المدى المسموح به كالرّازي وجابر بن حيان كُفِّرا وأبِيدَتْ آثارُهما، واعتُبِرا زنديقَيْن ومُلحِدَين، وهذا ما حدا بابن رشد إلى الدّفاع عن العقل، والبرهان على ضرورته في محاولته الدّفاعَ عن الفلسفة، والرّدَّ على الغزالي وسواه؛ مما عرّضه للإعدام، وحكم على مؤلفاته النّفيسة بالحرق، وقد أكّد ابن رشد من خلال الآليّة التي انتهجها، أنّ الفيلسوف العربيّ المسلم بقي محكوماً بسقف المرحلة التي عاش فيها، وظلّت حركته مقيَّدةً بهامش الحريّة الذي كانت تسمح به السّلطتان الدّينيّة والزّمنيّة.  

3- في نشأة التّصوُّف

نشأ التّصوُّف، كما يقول الباحث غانم، في بدايات القرن الثّالث الهجريّ بوصفه تيّاراً فكريّاً مُناوِئاً للدّولة العباسيّة، وطالب بعودة السّلطة إلى أحفاد الرّسول من ابنته فاطمة وابن عمّه عليّ، كما اعتمد مبدأ (التّقية)، فقام العباسيُّون بملاحقة معتنقيه وقتلهم جهراً أو غيلةً، مما اضطّرّهم إلى الصّمت وعدم الجهر بآرائهم خوفاً من بطش العباسيّين، أو إلى العزوف عن المجتمع، أو النُّزوع إلى الخلاص الفرديّ، وهكذا ظهر التّصوُّف بوصفه حالةً فكريّةً جديدةً ومغايرةً لاتّجاه الفقه السّلفيّ الذي كان يخدم السّلطة والأمر الواقع، وقد التقى في هذا مع بعض الفلسفات الباطنيّة التي شكّلت تيّارات ومذاهب في الفكر الإسلاميّ، وحملت مشروعاً فكريّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً مناوِئاً للاتّجاه السّلفي السّائر في خدمة السّلطة القائمة، وتكفير كلّ من يخرج عليها بوصفه فاسقاً أو زنديقاً في أحسن الأحوال. 

والنّاظر في الفكر الصّوفيّ يجد أنّ بعض جذوره تمتدّ إلى الفكر العربيّ قبل الإسلام، وقد تأثّر بالفلسفات التي كانت منتشرة في الشّرق كالهرمسيّة والبراهميّة والأفلاطونيّة الجديدة، ومع ذلك استطاع أن يكتسب شخصيّة مستقلّة خاصّة به بالقياس إلى التّصوُّف المسيحيّ أو اليهوديّ أو التّصوُّف الفلسفيّ عند بقيّة الشّعوب، ولكنّه ظلّ أميناً لجوهر العقيدة الإسلاميّة، وهذا ما دفع بكثير من المفكِّرين العالميّين كرينان إلى اعتباره أهمّ حلقة من حلقات الفكر العربيّ الإسلاميّ فضلًا عن علم الكلام.

4- في آليّة تخلُّق المفهوم

وفي رأي الباحث أنّ التّصوُّف دخل إلى الفكر الإسلاميّ من باب الفلسفة، أو ما يُعرَف بالحكمة المشرقيّة، واعتمد (الحَدْسَ) أو (الذّوق) أو (الاستبصار) منهجاً في المعرفة، وركن العقلَ ومنطقه الأرسطيّ في الزّاوية الخلفيّة، وفي هذا يلتقي مع المذاهب الفقهيّة والسّلفيّة، إلّا أنّه يفترق عنها في تجاوزه للعقل، أو في اعتباره إيّاه قاصراً وعاجزاً عن مقاربة الموضوعات الرّوحانيّة الخالصة، أو في فهمه للشّريعة فهماً روحيّاً مؤوِّلاً ظاهرَها بما يتناسب مع معرفته لله، وآليّة الوصول إليه، وقد ظلّ في هذا منسجماً مع روح الإسلام أكثر من غيره من الاتجاهات الفقهيّة والمذهبيّة الضّيّقة بأكثر من صلة؛ إذ أكّد العلاقة الخالصة بين الفرد والله، ورفض وساطة الحاكم أو الفقيه بين الله والإنسان، ودعا إلى الزُّهد والتّقشُّف بوصفه مدخلًا إلى الإيمان الصّحيح، وعارض بشكل ضمنيّ أو صريح رجال الدّين الذين ساروا في ركاب السّلطة، ووظّفوا النّص الدّينيّ لخدمة مصالحهم الخاصّة، ودعا إلى توحيد الله والتّوحُّد به ممارسةً يوميّةً وطريقةً إيمانيّةً متجاوزاً صراع الفقهاء وخلافات الطّوائف والمذهبيّة الضّيّقة والمصالح الفئويّة والطّبقيّة التي أفضتْ إلى تكفير كلّ طرف للآخر واعتبار قتله جهاداً في سبيل الله.

ويظهر التّصوُّف هنا بوصفه حالةَ قلق وجوديّ تعبِّر عن اغتراب صاحبه في العالم، وقد كان الحلُّ هو في إعادة اندماج المتصوِّف في قلب العالم الآخر (الغيبيّ) ناظراً إليه على أنّه عالمه الحقيقيّ، وبطريقة يؤكِّد فيها ذاته وهُوِّيته المتمرّدة باستسلامه لقوّة عليا، وعبوديّته لـ (المطلق) مما يجعله حرّاً، وهذه الحريّة تجعله فوق مستوى البشر (السّلطة)؛ (فلا يسترقّه كونٌ إلا الله، فهو حرّ عمّا سوى الله) كما يقول ابن العربيّ، مما يقتضي تحرّره من الفهم الحرفيّ للنّصوص الدّينيّة، والهروب من ابتذال الممارسات الطّقسيّة، وإفساح المجال لروحه كي تنعتق من قيد الجسد والمحسوسات، وتحلِّق في (فضاء الكليّ) بعيداً عن الارتهان إلى الطّقوس السّطحيّة والممارسات الآليّة التي أصبحت هدفاً بحدّ ذاته يُمارَس بشكل آليٍّ وبإحساس ميت. وبهذا الاتّجاه نحو الله استطاع المتصوِّف أن يُشبِع شوقه إلى الحريّة، ويحقّق تطلُّعاته نحو السّموّ إلى رحابة (الكليّ المطلق)؛ ويُرضِي توقه إلى إثبات الذّات وتوكيدها بنشاط فكريّ تأمليّ يُخصِب الرّوحيَّ ويُثرِيه دون حاجة إلى وسيط بشريّ يتوسّط له في ذلك.

وقد كان التّصوُّف بهذا المعنى سبيلاً لتحقيق ذات الفرد في عالم قاسٍ، وكان النّكوص إلى (الدّينيّ) و(الغيبيّ) هو المنفذ الوحيد الذي يُتاح فيه لهذه الذّات أن تتطهّر من واقعها الموضوعيّ، وتلتحق بـ(عالم المطلق) البديل عن عالمها الواقعيّ، وقد سمّى الباحث هذا النُّزوع للخلاص بـ (الإعلاء) أو (التّصعيد)؛ حيث تعمَد الذّات، في محاولتها لفهم الواقع وتملُّكه، إلى إسناد الفاعليّة فيه إلى قوّة غيبيّة، أو أمر إلهيّ مقبول اجتماعيّاً بغية التّوافُق مع ذاتها والتّوازُن مع عالمها، بعد أن صعُب عليها إيجاد حلٍّ مقبول اجتماعيّاً، أو أخفقت في اكتشاف قوّة أخرى غير مفارقة تضمن لها التّكيُّف مع واقعها وتملُّكه على المستويين النّفسيّ والاجتماعيّ.

وفي رأي الباحث أنّ نكوص المتصوِّف باتّجاه المطلق والغيبيّ بغية العثور على توازُنه النّفسيّ يفسِّر ظهور العنف الدّينيّ، أو الوصول إلى حالات التّطرف الدّينيّ السّلبيّ في مراحل يشهد فيها المجتمع فشلاً سياسيّاً ذريعاً، ويُخفِق في حلّ مشكلاته الواقعيّة، ذلك أنّ من يُخفِق اجتماعيّاً أو سياسيّاً يلتحف بـ(الغيبيّ) منتقلا من الواقع (الشّهود) إلى ما رواء الواقع (الغيب)، وكأنّ هذا النّكوص هو أحد أشكال التّعويض عن الواقع المستحيل أو المأمول الذي أخفق في الوصول إليه، فيغدو نكوصُه اعترافاً بالفشل والعجز عن التّغيير، أو حتّى رؤية الحلّ البديل؛ فيسند الفاعليّة في الواقع إلى قوّة عليا هي (الله) لمساعدته في إنجاز ما عجز عن تحقيقه مع تغيير الهدف من هدف دنيويّ إلى هدف أخرويّ. وفي رأي الباحث أنّ الأمر نفسه يمكن أن يفسّر فشل الأحزاب السّياسيّة العربيّة وحكوماتها في إيجاد حلّ شموليّ لواقعها ومجتمعاتها المأزومة، ممّا دفع بالشّباب العربيّ إلى الوقوع في أحضان الحركات السّلفيّة والجهاديّة المتزمّتة التي كانت تطرح في خطابها آليّة وحيدة لتجاوز معاناتها تتوسّل العودة إلى الدّين والماضي بوصفهما السّبيلَ الوحيدَ للخروج من المأزق المستفحل الذي تواجهه.

ولا شكّ في أنّ التّصوُّف وفق هذا المفهوم كان مخرجاً مثاليّاً فرديّاً على الصّعيد الوجدانيّ (الرّوحيّ) أفضت إليه الظّروف الاجتماعيّة المحبِطة، وانتهى بأصحابه إلى الزُّهد أو التّقشُّف أو اعتكاف المجتمع على المستوى الفرديّ؛ لأنّ المتصوِّفة لم يفهموا طبيعة الصّراعات الاجتماعيّة في تلك المرحلة، ولذلك لم يُشكّل التّصوُّف بالنّسبة إليهم رافعة اجتماعيّة تستطيع قيادة الجماهير إلى نظام أكثر عدالة وأقل توحُّشاً؛ ولذلك رفضوا العالم المحسوس بمباهجه كلّها، وسعوا للوصول إلى ما سُمِّي في عالم الصُّوفيّة بـ(الفناء) معتمدين على التّخيُّل والمجاهدة المتسلّحة بالحدْس، أو الذّوق، أو الاستبصار، والتّماهي بالمطلق القائم على الحبّ سبيلاً لتحقيق ذلك. كما أنّهم دعوا إلى نبْذ العنف، وأعطوا للبشر جميعاً الحقّ في أن ينهجوا السّبيل الذي يرغبون به للوصول إلى الله وعبادته، وحتّى مع رفضهم العقلَ بوصفه قوّةً معرفيّةً إلّا أنّهم لم يحرِّموا على الآخرين استخدامه بخلاف ما فعله الفقهاء حين كفّروا كلّ من يقول بغير النّقل، مع أنّ النّقل قد يكون كاذباً أو منحولا، والعقلُ هو معيار صحّته.   

5- في خصوصيّة التّصوُّف

يرى الباحث أنّ التّصوُّف أعلى من شأن الإنسان، واعتبره مختصرَ الكون ومحوره، وعدَّ (فناء) الصّوفيّ في الله خطوةً للارتقاء بالإنسان الفاني الضّعيف أمام عظمة الوجود، وفرصة له ليتحوّل إلى إله في الأرض يليق بخليفة حقيقيّ لله، ذلك أنّ الفناء عند الصّوفيّة هو الوجود؛ لأنّه يعني الاتّصال بالله المطلق اللّامتناهي، وكأنّ الخلود الذي بحث عنه الإنسان منذ ما قبل جلجامش لم يتحقّق إلّا مع هؤلاء المتصوِّفة، إنّه حداثة أولى في المجتمع العربيّ الإسلاميّ بعد ظهور الدّين الجديد؛ فالإنسان لم يعد هامشيّاً في الكون بل هو محور أساسيّ متّصل بمحور آخر هو أسّ الوجود كلّه، كما لم تعد علاقة هذا الإنسان بالله علاقة تبعيّة الجاهل، بل صارت العلاقة تبادُل المحبّة والمعرفة، جاء في الحديث القدسيّ: (من عرَف نفسه عرَف ربَّه)، و(أعرفُكم بنفسه أعرفُكم بربه). وقد أكّد المتصوِّفة أهميّة الإنسان وقيمته المُستمَدَّة من الموقع الذي اختاره الله، وحرصوا على وضعه في مكانه اللّائق بين الموجودات، وعبّروا عن ذلك بصيغ كثيرة وتعبيرات مثيرة أُوِّلت خطأ من قبل الفقهاء والدّهماء، من مثل قول البسطامي: (سبحاني ما أعظم شاني)، أو قول الحلّاج: (ما في الجبّة غير الحقّ، أو الله). وقد كان ذلك كلّه تأكيداً من المتصوّفة على أنّ الإنسان في رأيهم هو مختصر الكون ومصدر القيم في الوجود.

 أمّا السّمة الثانية التي تشكّل لُبَّ الفكر الصّوفيّ في رأي الباحث فهي قضيّة التّوحيد التي تجاوزت وحدة الثّالوث المسيحيّ، وأنهت بذلك النّقاش حول التّراتبيّة المنطقيّة للأب والابن والرّوح القدس ومسألة وحدة الأقانيم الثّلاثة، وفي رأيه أنّ (قضيّة التّوحيد) ليست محور هذا الفكر وحسب بل هي أساسه ومنطلق الممارسة عند معتنقيه؛ كما أنّها تشكل نظريّاً وعمليّاً الغاية والهدف، فالتّوحيد لدى المتصوفة ممارسة يوميّة أوّلاً، وقضيّة فلسفيّة فكريّة ثانياً، وإن اختلفت رُؤاهُم الخاصّة إليها ثانياً. ومع ذلك فقد قالوا بوحدة الأديان كلّها، وانتهَوا إلى أنّه لا كفر ولا تكفير، وكانوا أكثر تسامُحاً وأصالة تفكير من غيرهم، وإلى هذا يشير ابن العربيّ بقوله: (فإنّ للحقّ معبوداً في كلّ معبود وجهاً يعرفه من يعرفه، ويجهله من يجهله، فما عُبِد غيرُ الله في كلّ معبود)؛ ولذلك يحذِّر من الخطأ واعتقاد الصّواب في عقيدة دون أخرى: (فإيّاك أن تتقيّد بعقد مخصوص، وتكفِّر ما سواه فيفوتك خيرٌ كثير، بل يفوتك العلمُ بالأمر على ما هو عليه. فكنْ في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلِّها؛ فإنّ الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد).         

أما السّمة الثّالثة التي تشكّل خصيصة من خصائص فكرهم في رأي الباحث فهي اعتقادهم بأنّ مسألة الإيمان تقع خارج نطاق (الوعد والوعيد)، فمنْ يؤمن بالله الواحد، في رأيهم، لا يفعل ذلك خوفاً من العقاب في جهنّم، أو طلباً للثّواب القائم على الحُور العِين والغلمان في الجنّة، بل إنّ القضية لديهم قضيّة أخلاقيّة تنهض على النّيّة الخيّرة في القصد، والطّهارة التّامّة في السّلوك، وتتجاوز الرّغبة في الحصول على أجر مقابل العبادة كما يرى فقهاء الإسلام الحسيّ القائم على الطّقس، ذلك أنّ العبادة لدى غير العارف لا يمكن أن تكون في رأيهم (معاملة ما كأنّه يعمل في الدّنيا لأجر يأخذها في الآخرة، هي الأجر والثواب) كما يقول ابن سينا، أمّا العارف لديهم فهو (الذي يريد الحقّ الأوّل لا شيء غيره، ولا يُؤثِر شيئاً على عِرفانه، وتعبّده له فقط، ولأنّه مستحقّ العبادة، ولأنّها نسبة لا لرغبة أو رهبة) كما يقول البسطامي، ولأنّ من ينشغل بطلب الجنّة في رأيهم يرغب عن لقاء الذّات الإلهيّة، ولا يحصل على التّناسق الدّاخليّ أو الاتّساق الكامن في روح التّفكير والممارسة الصّوفيّيْن المعبَّر عنها جليّاً بما يُسمّى التّجربة الصّوفيّة التي تطمح للوصول إلى معرفة الذّات الإلهيّة معرفة مباشرة وغير طقسيّة والتّحلّي بالفهم، وألّا نقيس هذه التّجربة الرّوحيّة الفريدة بفوائدها العمليّة والاجتماعيّة، أي بروح النّفعيّة الجامدة بعيداً عن المنطق المعرفيّ والرّوحيّ لها، ولعلّ عبارة إبراهيم بن أدهم تلخّص هذه الفكرة إذ قال: (اللهمّ تعلم أنّ الجنّة لا تزنُ عندي جناح بعوضة إذا آنسْتَني بذكركَ، ورزقْتَني حبّك، وسهّلْتَ عليّ طاعتكَ، فاعطِ الجنّة لمنْ شئْتَ).               

وفضلاً عن ذلك أولى المتصوّفة الجانب الأخلاقيّ والممارسة السُّلوكيّة أهميّة كبيرة، وقرنوا الأخلاق بالدّين والجمال، وعملوا على ترسيخ القيم العامّة منتقدين التّدهور الأخلاقيّ في مجتمعهم، ودعوا إلى درء المفاسد ومواجهتها، واشتكوا من انهيار القيم الأخلاقيّة، وحذّروا من الزّمن القادم كأنّهم يستشفّون عصر الانحطاط الذي نعيشه في زمننا هذا، يقول أبوعلي الثقفيّ: (يأتي على هذه الأمة زمانٌ لا تطيب فيه المعيشة لمؤمن إلّا بعد استناده إلى منافق).

وفي رأي الباحث أنّ التّصوُّف تجربة وجوديّة روحيّة تقوم على التّبصُّر القائم على الإبداع حسب الاستعداد والفطرة والاجتهاد والقدرة على الصّبر والتّأمُّل ووميض الحَدْس، أو ما سمّاه المتصوّفة بالذَّوق وصولاً إلى الموضوع والتّماهي الكليّ به، ولهذا لم يخرج المتصوِّفة عن الدِّين، ولكنّهم في الوقت نفسه لم يكونوا يتمتّعون بالعِصْمة أو القداسة، ولذلك وصلوا إلى الطُّرُقية في مراحلهم الأخيرة، حين استنفد التّصوُّف لديهم وظيفته التّاريخيّة ومسوِّغه الواقعيّ، وأصبح اتّباعاً وتقليداً شأنه في ذلك شأن الفقه، وانتهج أصحابه الدّروشة والكذب وادِّعاء معرفة الغيب، وتحوّل منهجهم العرفانيّ الغنوصي إلى نظام اجتماعيّ وسلوكيّ عمل على التّصالح مع الواقع أو الهرب منه، أو تقبّل الخنوع فيه وقبوله على علّاته، وقد كان لموقفهم السّلبيّ من بعض القضايا المصيريّة التي ألمّت بمجتمعاتهم (الغزو الصّليبيّ مثلاً) دورٌ في الكشف عمّا وصلوا إليه من مساندة للسّلطة القائمة ومسايرة للفقه السّلفيّ المهيمن ممّا آذن بانتهاء دورهم التّاريخيّ.

6- في نظريّة المعرفة

يكاد هذا القسم يشكِّل أهمّ ما أضافه الباحث في كتابه لدراسة التّصوّف، بشكل يُغايِر فيه كلَّ من سبقه في دراسة هذه الظّاهرة، وتفكيك بنيتها المعرفيّة والكشف عن ثيماتها القابعة داخل هذه البنية. وقد نبّه في البداية إلى أنّه كان واعياً للعلاقة بين الذّات والموضوع في فعل المعرفة، وأنّه عُنِي خلال دراسته لها بإبراز آليّة حصول المتصوِّفة على معرفتهم وفق رؤيته وأدواته من دون أن يحرص على إصدار حكم قيمة على طريقتهم في تحصيل هذه المعرفة وفق منهج لاحق اتّبعه في مقاربة الظّاهرة، ثمّ انتقل بعد ذلك مؤكّداً أنّ نظريّة المعرفة لم تُطرَح عند الصّوفيّين إلّا في بداية القرن الثّالث الهجريّ مع عبدالعزيز بن أبي رواد، وأنّ المتصوّفة سمّوا أنفسهم بـ(أصحاب علم المعرفة الذّوقيّة)، أي المعرفة التي تحصل بالكشف بعد الرّياضة الرّوحيّة (المجاهدة)، وأنّ المعرفة التي تحصل بالذّوق والمجاهدة وملَكَتُها (القلْب) تُسمَّى (العِرفان)، وتنهض على المعرفة لا على الإيمان فقط وإلّا وُسِمتْ بالضّعف، واستشهد على ذلك بقول الرّسول (صلى الله عليه وسلم): (دِعامة كلّ بيت أساسُه، ودعامة الدّين المعرفةُ)، مُستخلِصاً أنّ المعرفة أقوى من الإيمان، (فلا معنى للتّصوُّف دون معرفة) كما يقول ابن العربيّ، وهذا ما شهدناه منذ عصر الانحطاط حتّى يومنا هذا؛ حيث تحوّل الإيمانُ المقرون بالجهل إلى قوّة تدمير عمياء بسبب العمى المعرفيّ، مما دفع بأغلب المتصوّفة إلى كتم ما شاهدوه في حالة الكشف، والتّستّر على المواجدات التي أوصلتهم إلى مشاهدة الحقّ ذاته، أو ما خُيِّل إليهم أنّه كذلك، ولم يجرؤوا على التّصريح بها؛ لأنّها في رأيهم نتاج رياضة ومجاهدة شاقّة تكلّلت بحالة كشف، فإذا باحوا بها لن تُفهَم من قبل العامّة الذين لم يختبروا هذه الحالة، ولن يفهموا معنى هذه الجواهر النّفيسة، فهناك في رأيهم معرفة للخاصّة وأخرى للعامّة، ويجب أن تُعطى كلٌّ منها لمستحقّيها دون سواهم.

 أمّا النّفسُ فهي في رأيهم مصدرٌ للشّهَوات ولا بدّ من محاربتها، وقد ميّز قليلون منهم النّفسَ من الرّوح، والنّفسَ النّاطقةَ من النّفس الشّهوانيّة، في حين ميَّز جلُّهُم النّفسَ من القلب، وجعلوا القلبَ مقصوراً على معرفة الله، وعدُّوا النفسَ النّاطقة نفْحةً إلهيّةً وجوهراً إلهيّاً نورانيّاً ممتدّاً من العالم العلويّ ومتّصلًا بالإنسان، ولكنّه غير منفصل عن عالمه النّورانيّ.

وفي رأي الباحث أنّ المتصوّفة اختلفوا حول مفهوم العقل، ورفضوه، وحرّموا البرهان العقليّ واعتبروه قاصراً عن معرفة الله، والمرجَّح أنّ هذا الرّفض، في رأيه، يعود إلى خوفهم من الاعتراف بقدرة العقل على الوصول إلى الحقيقة، أي وجود الله، مما يؤدِّي إلى إلغاء الوحي باعتباره ضرورةً لذلك، وقد التقوا في رفضهم للعقل مع نقيضهم من الفقهاء، واستدعى ذلك رفضَهم للمنطق أيضاً بوصفه علمَ قواعد العقل والتّفكير، ووصل بمناوئيهم السّلفيّين الحالُ إلى وصف كلّ من اعتمد على المنطق بـ(الزّنديق)؛ إذ قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: (من تفلسف فقد تمنطق، ومن تمنطق فقد تزندق)، كما أدّى بهم ذلك إلى الاتّفاق مع النّحويّين الّذين نظروا إلى المنطق على أنّه علم ألفاظ وقواعد اللغة اليونانيّة لا علم قواعد العقل والتّفكير الصّحيح. وقد أفضى بهم ذلك كلُّه إلى رفض الفلسفة كما قلنا؛ لأنّها اعتمدت على العقل والمنطق أيضاً. وقد كان الغزالي في رأي الباحث على أشعريّته الأداة الرّسميّة للدّفاع عن الفقه الجاهل ومحاربة الفكر التّنويريّ عموماً في كتابه الشّهير (تهافت الفلاسفة) الذي دشّن به مرحلة التّكفير التي لاتزال مستمرّة حتّى يومنا هذا؛ إذ إنّه أوّل فقيه سلفيّ كتب كتاباً بمجمله بطلب من الخليفة المستظهر للوقوف ضدّ الاتجاه العقلانيّ المستنير الذي كان يمثّله الفلاسفة بالطّبع، وقد عبّر بصراحة عن هذه المسألة حين ذكر أنّ غايته في كتابه هي التّشويش على الفلاسفة وأفكارهم كي لا ينقاد النّاس إليهم، وينخدعوا بأقوالهم، واستمرّ على تكفيرهم في (المنقذ من الضّلال).

وفي تفكيكه المنظومة المعرفيّة للتّصوّف أشار الباحث إلى أنّ التّصوُّف في رأي معتنقيه هو (خُلُق) قبل كلّ شيء، وهذا الخُلُق يجب أن يقترن بالحكمة كشرط ضروريّ، إذ لا معنى للتّصوُّف دون معرفة، والأخلاق في التّصوُّف ليست سلوكاً اجتماعيّاً وحسب، بل هي ممارسة تخدم تلك الرّياضة والمجاهدة التي من خلالها يصل الصّوفيّ إلى الله. وقد عبّر المتصوّفة عن ذلك عمليّاً حين احترموا الإنسان كإنسان بغضّ النّظر عن عِرْقه ولونه وجنسيّته، وحين مارسوا الأخلاق المنفتحة على الإنسانيّة دون تعصُّب أو انغلاق، ولم ينل من أخلاقهم ضعفٌ أو يخترق منظومتَهم الأخلاقيّةَ خللٌ إلّا بعد انحطاط المجتمع العربيّ الإسلامي، وتحوُّل الصّوفيّة إلى طُرُقيّة بائسة آذنت بنهايته.

 وقد ربط المتصوّفة الأخلاق والخير بالجمال على طريقة أفلاطون قبل أن يطّلعوا على مثاليّاته وجمهوريّته، فجمال الحضرة الإلهيّة وبهاء النّور هما مصدر كلّ خير في رأيهم، ولا بريق للخير من دون جمال، وقد عبّروا عن هذا الجمال عبر تغزُّلهم بالذّات الإلهيّة وتجليّاتها في الوجود ممّا جعل هذا الغزل حداثة في الشّعر العربيّ، واللّافت في فهمهم للجمال هو نقل موضوعه من المحسوس إلى المجرَّد، فهم وإن توسّلوا المحسوس في الحبيب (الله) أو الحبيبة (الذّات الإلهيّة) فوسيلتهم في التّعبير هي اللغة، وهي ماديّة ومرتبطة بالمحسوس، والصّور ذات طابع حسيّ، إلا أنّهم وصفوا المعاني، وحاولوا تصويرها بصور بديعة تفيض سموّاً، وتشرق نوراً كاشفاً لهذه المعاني الماورائيّة ممّا يجعلها قريبةً من هذا الفهم والتّصوُّر، لقد أسّسوا لمعايير جماليّة لم يعهدها العرب قبلهم، كما لم يصل إليها فكر صوفيّ سبقهم، ممّا يجعل دراسة الخيال في شعرهم أمراً بالغ الأهميّة وعملا شاقّاً قد يؤسّس لاتّجاه جديد في علم الجمال، وهو ما فتح له الباب أدونيس في كتابه اللّامع (التّصوُّف والسّورياليّة).

7- منهج المتصوفة في معرفة الله

 وقد خصّص الباحث القسم الأخير من كتابه للإجابة عن السّؤال الرّئيس الذي طرحه في ثنايا سطوره أكثر من مرّة، وعدّه الهدفَ الرئيس من تأليفه، وهو: كيف عرف المتصوّفة الله، وما هي وسيلتهم في ذلك، وما الأداة التي اعتمدوها لتحقيق هدفهم، وما الطّريقة التي سلكوها للوصول إلى هذا الهدف؟

وفي إجابته عن هذه السُّؤال أكّد أنّ بعض المتصوفة تحدّثوا عن نظامين معرفيّين: أحدهما نظام العقل (المنطق)، وهو ما اتُّفِق على تسميته اليوم بـ(الأبستمولوجيا) كنظريّة للمعرفة، والثّاني نظام الرّوح، وهو ما عُبِّـِر عنه بـ (الغنولوصوجيا) أو (العِرفانيّة)، ولكنّه رأى أنّ المتصوّف لا يملك طريقة واحدة للوصول إلى معرفة الله، بل هناك شرط واحد لتحقيق ذلك هو الوجْد حتّى الفناء للقاء الذّات الإلهيّة والتّمتُّع بجمال الحضرة، وهذا ما عبّر عنه ابن العربيّ بقوله: (إنّ الطّرق لمعرفة الله على عدد أنفاس الخلائق)، ومن هنا فمناط الأمر لديهم في تحصيل المعرفة متوقّف على عدّة متحوّلات كالنّيّة، والإقبال، والتّعلُّم والمجاهدة، والاستعداد الفطريّ، والمستوى الشّخصيّ في كيفيّة السّيطرة على الجسد، وتوليف القوى النّفسانيّة والرّوحيّة (الوجدانيّة) نحو الموضوع، أمّا القواعد فيضعها الشّخص كما يشاء فيعدّل ويُضِيف، ويختبر استبطانيّاً عبر التّجربة معتمداً على حسّه الدّاخليّ في معرفة القرب والبعد وطريق الوصول، فضلا عن أنّ المعرفة المتحصّلة من هذه التّجربة ليست معرفة عقليّة منطقيّة خاضعة لمنطق العقل ومقولاته وأدواته، بل هي معرفة ذوقيّة وجدانيّة روحيّة تحصل بالكشف والتّواصل الرّوحيّ بين الذّات والموضوع من الدّاخل، ولذلك فليست كشفاً لعلاقة خارجيّة بين اثنين متخارِجَين (ذات / موضوع) و(موضوع / ذات ) كما يقول الباحث بل هي معرفة شعوريّة تقوم على استبطان الموضوع في قلب الذّات العارفة؛ ومن هنا فالتّصوُّف في رأيه لا يشكّل قطيعة معرفيّة مع الفقه؛ إذ ينطلق كلاهما من الوحي، ويسلّم بالشّريعة، إلّا أنّ المتصوِّفة يقرّرون وجود وجه آخر للحقيقة هو الباطن الذي يشكِّل اللّبّ الأساس للحقيقة الإلهيّة؛ ولذلك تغدو القطيعة هنا قطيعة منهجيّة تُفضي إلى اختلاف في مستوى المعرفة، وتتجاوز المحسوس والمرئيّ الذي يقف الفقه عند حدوده؛ إذ يظلّ الفقه في رأي الباحث واقفاً على باب الموضوع، وماثلًا أمام الذّات باعتباره موضوعاً محرّماً وغير قابل للمعرفة، أمّا التّصوّف فإنّه يقفز نحو الدّاخل ساعياً لإزالة هذا التّعارض بين الذّات والموضوع بإقامة علاقة من نوع جديد؛ حيث يصير جزءاً من الموضوع؛ فتنعدم الثُّنائيّة في المعرفة، ثنائيّة الذّات والموضوع، ويحدث تغيُّر في بنية المعرفة والعارف معاً؛ فالذّات لم تعد هي نفسها قبل الذّوبان (الفناء) في الموضوع، والموضوع لم يعد موضوعاً مقابل الذّات، بل داخل الذّات العارفة، وبهذه العمليّة الذّهنيّة الدّيالكتيكيّة تُحَلُّ وحدة النّقيضين في عملية تآلف واندماج، أو انصهار كليّ لا يترك فسحة بين مكوِّني هذه الوحدة، إلا أنّ الموضوع يغدو هنا هو الله المطلق في كلّ شيء، وبهذا تصل المعرفة إلى نهايتها.

وإذا كان مقتل نظريّة المعرفة الصوفيّة هو المطلق ذاته كما يقول الباحث؛ فإنّ الصّوفيّ يتجاهل هذا السّؤال، إذ إنّ المعرفة لديه ليست زائدة على الذّات بل هي حالة الذّات نفسها التي جاهدت إلى أن أصبحت هي الموضوع، واكتفت بهذا الانغماس أو الذّوبان الكليّ بالمطلق، بحيث صار المتصوّف هو ما هو، في هذا المطلق الذي هو هو، وتوقّف كلّ شيء على كلّ شيء، ولم يعد هناك شيء متمايز لأنّ التّمايز حجاب، كما لم يعد هناك شيء محدّد؛ لأنّ كلّ تحديد سلب، أمّا الزّمن الفيزيائي فلا ضرورة له، بل لا مُسوِّغ له في الدّيمومة. 

 وهنا يصل الباحث إلى أنّ المتصوّفة توصّلوا جميعاً إلى خطاب يكاد يكون واحداً في معرفتهم لله، وإن عبّروا عن ذلك بصيغ مختلفة، وقد أفضى بهم هذا إلى وحدة الوجود بصيغتها العقلانيّة لا الماديّة كما فهمها السّطحيّون من الفقهاء والنّاس، وإذا كان ابن العربيّ يمثّل في رأيه الذّروة في هذا الاتّجاه فإنّ الحلّاج وعبدالقادر الجيلاني وابن الفارض وغيرهم قبله قد عبّروا عن هذا تصريحاً أو تلميحاً، وإن استمرّت الإرهاصات التي ظهرت في نتاج ابن العربيّ مع معاصريه وأتباعه كجلال الدّين الرّومي وشمس التّبريزي وعبدالكريم الجيلي، وشهدناها متجلّيةً بآليّة أخرى لدى المكزون السّنجاريّ، وهو من تلامذة الحسين بن حمدان الخصيبيّ فكريّاً، ومع الحسن بن حمزة الشّيرازيّ، وهو من مريدي حلقة محيي الدّين بن العربيّ في دمشق ومن تلامذة الخصيبيّ نفسه.

وفي رأي الباحث أنّ المتصوِّفة جميعاّ آمنوا بالقدرة على الوصول إلى الله من خلال التّجربة الوجوديّة ذات الطّابع الوجدانيّ الفرديّ، وأنّه ليس هناك من تصوُّف سنيّ وآخر شيعيّ كما ذهب بعض الباحثين، والدّليل على ذلك موقفهم الموحَّد من الفقه والمذاهب الفقهيّة، وقولهم الواحد في الله والذّات الإلهيّة، على الرّغم من وجود بعض الاختلافات الهامشيّة التي لا تمسُّ جوهر الموضوع.

 وقد خلص الباحث في كتابه إلى أنّ غاية التّصوُّف هو التّوحيد أي معرفة االله، والتّوحيد هو جوهر العقيدة الإسلاميّة، وذلك تلبية لقوله تعالى: (وما خلقتُ الأنس والجنّ إلا ليعبدونِ) أي: ليعرفوني، كما انتهى إلى اتّفاق الصّوفيّين جميعهم بشكل عفويٍّ حيناً، وبوضوح حيناً آخر على أن ( الله لا يُعرَف إلا بجمعه في الأضدّاد في الحكم عليه ) كما يقول أبوسعيد الخرّاز، أو (بالجمع بين الأضداد في الإشارة إليه) كما يقول يحيى بن معاذ الرّازي، وهذا الجدل تجلّى في أقوال المتصوّفة جميعاً، وقد استنبطها الباحث، وأجملها في الخطوات الآتية، وبمنهج جدليّ ثلاثيّ:

 

- الخطوة الأولى: الحبّ، أي دائرة الحبّ والعشق والتّعلّق بالمحبوب المتجسِّد بالذّات الإلهيّة. وهذا الحبّ صدر عن الذّات الإلهيّة قبل أن يصدر عن الإنسان، فقد جاء في القرآن الكريم: (فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه)، وعلى الرّغم من أن الحبّ هنا هو نفي للخلاف والاختلاف إلى أنه يشير إلى الأثينينيّة (حبيب ومحبوب)، ولكنّه هنا عود إلى المبدأ الذي صدر عنه الوجود، أي إلى الوجود الأوّل، فالحبّ بكل درجاته هو توق إلى الوحدة والذّوبان في المحبوب.

- الخطوة الثّانية: طلب المشاهدة واللقاء، أي: مقولة الفناء. فالحبّ يدفع بالحبيب للقاء محبوبه، ولن يستقرّ له حال، أو يطمئنّ له بال دون مشاهدته. وهذه غاية قصوى يجنيها المؤمن في الآخرة لقوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة). وعلى الرّغم من المشكلات الفكريّة النّاتجة عن التّصريح بمشاهدة الله في الحياة الدُّنيا إلا أنّهم بالإجمال يتّفقون على إمكانيّة رؤيته مع اختلافهم في صيغة هذه الرُّؤية من مشاهدة مباشرة إلى مشاهدة من وراء حجاب كرؤية الصّورة في المرآة، إلا أنّ هذه الخطوة هي من المراحل التي يسعى الصّوفيّ إليها، فالبعد يقتضي لنفيه القرب ، والفراق ينفيه اللّقاء.

- الخطوة الثّالثة: مقولة الوحدة والتّحقّق في المطلق، والفناء بالنّور الكليّ، أي الذّات الإلهيّة الذي هو البقاء، التي تُعدُّ أبعد من الجنّة وأسمى من الفردوس؛ حيث الخلود، وزوال الذّات البشريّة في حضرة الذّات الإلهيّة، أي اتّحاد الجزء في الكلّ، وعودته إلى  أصله وأسّه.  

8- تركيب

 وقد أكّد الباحث في خاتمة كتابه أنّ التّصوُّف شكّل ثورة روحيّة عميقة في الإسلام بتمرُّده على الطّقسيّة التي كرّست كهنوت رجال الدّين في الإسلام، أولئك الذين نصّبوا أنفسهم وسطاء بين الإنسان وخالقه، وكان إلغاءُ هذه الحلقة الوسيطة ضرورةً ماسّة للانتقال من العبوديّة الطّقسيّة وتحجُّرها إلى فضاء الحريّة الذي توفّره علاقة المسلم بربّه، كما قدّم التّصوُّف بثورته الرّوحيّة فهماً ديموقراطيّاً رحباً للإسلام وعمقاً إنسانيّاً قلّ نظيره، تمثّل في هذا الفضاء الدّيموقراطيّ المتمدين القائم على احترام الإنسان في إنسانيّته مهما كان معتقده، فضلا عن أنّ التّصوُّف شكّل ردّاً على المذاهب الإسلاميّة التي بدأ يُكفِّر بعضُها بعضاً، وعبّر عن وحدة الإسلام في وجه المذاهب المتناحرة التي مزّقته، وفهمته حسب مصلحة الفئات الاجتماعيّة والسّلطات القائمة هنا وهناك، فتجاوز ضيق أفقها، وأخرج الإسلام من الحرفيّة النّصيّة المتّصفة بالسّطحيّة والتّحجُّر إلى آفاق جديدة لفهم الكون والعالم من النّاحية الرّوحيّة، وشكّل الاستمراريّة الأصيلة لثقافة المنطقة الرّوحيّة ذات التّوجُّه التّوحيديّ، ولم تكن مأثرته في أنّه منحى من التّفكير مختلف وحسب، بل شكّل منهجاً سلوكيّاً ومعرفيّاً جديداً وأصيلا، وكان أساساً ومنطلقاً لفلسفات إنسانيّة وأخلاقيّة كبرى في الغرب والعالم شكّلت لبَّ الفلسفة الغربيّة الحديثة، وكشفت عن إمكانيّة ارتقاء الإنسان معرفيّاً وروحيّاً إلى مستويات سامية.    

ولا بدَّ في الختام من الإشارة إلى أنّ كتاب الباحث غانم هو كتاب للباحثين وعامّة القرّاء في الوقت نفسه، وفيه نظرات ثاقبة وجهد خلّاق وكبير، وقراءة فلسفيّة وفكريّة (عموديّاً وأفقيّاً) للفكر الفلسفيّ عموماً، كما أنّه اتّكأ على المصادر الأساسيّة للفلسفة والفكر العربيّ والإغريقيّ والأوروبيّ، وأضاف جديداً إلى موضوعه على كثرة ما كتب عنه في مشرق الوطن العربي ومغربه، كما أنّه أحسن الرّبط بين هذا الموضوع وبين ما يجري على السّاحة السّياسيّة العربيّة من توظيف خاطئ للأيديولوجية والتّراث، وقد يبدو في بعض الأحيان أنّ لغة الباحث اقتربت من الشّعبويّة أحياناً، ومالت إلى التّبسيط، أو اقتربت من لغة الصّحافة أحياناً، كما تجلّى ذلك في الفصل الأول بشكل خاصّ، ولكنّه في رأيي السّهل الممتنع الذي أحسن الكاتب الإمساك به، إذ في الوقت الذي يظنّ فيه القارئ أنّ مستوى الكتاب تدنّى، أو أنّ لغته اقتربت من اللّغة الصحافيّة التي تتناسب مع لغة القارئ العاديّ، ما تلبث الآليّة التي يقرأ بها الكاتب مدوّنته الفلسفيّة، والمنهج الذي يتّكئ عليه، والنّتائج التي ينتهي إليها أن تجعلك تتيّقن من أنّ هذه اللغة المبسّطة ليست سوى نتاج لقدرة الكاتب على تمثُّل موضوعه وهضمه وقتله فهماً، وجعله في متناول القارئ العاديّ، وعرضه في الوقت نفسه بلغة علميّة بعيدة عن التّقعّر والتّعالُم والمتح من لغة الآخر ومصطلحاته حتّى لو لم يكن الموضوع يقتضي ذلك، أو يتطلّبه، أو يُفضِي إليه.

* كاتب سوريّ

  

     

 

 

 

  

                   

----------------------------------------------------------

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.