}

معجم الدوحة التاريخي للّغة العربية:الشراع والعاصفة والربان العنيد

صقر أبو فخر صقر أبو فخر 18 ديسمبر 2018
آراء معجم الدوحة التاريخي للّغة العربية:الشراع والعاصفة والربان العنيد
معجم الدوحة

 

اصطلح المؤرخون على تقسيم التاريخ العربي إلى ست مراحل هي: ما قبل الإسلام (أو الجاهلية، مع أن العرب عرفوا حضارة رفيعة في تلك الحقبة)، وصدر الاسلام (الخلافة الراشدة)، والدولة الأموية في دمشق، والدولة العباسية في بغداد، وعصر الانحطاط الذي بدأ بسقوط بغداد تحت جحافل هولاكو في سنة 1258، وعصر النهضة الذي دشنه نابليون بونابرت في مصر وفلسطين في سنة 1798. ومع أن تحفظات كثيرة تشوب هذا التقسيم الكلاسيكي، إلا أن ما يهمنا في الأمر هو أن عصر الانحطاط لم يكن كله انحطاطاً، ولا سيما في ميدان اللغة؛ ففي تلك الحقبة صاغ إبن منظور القاموس الأشهر، أي "لسان العرب"، ثم تبعه "القاموس المحيط" للفيروزأبادي، ولحقه "تاج العروس في شرح القاموس" لمرتضى الزبيدي، وانتشرت إلى جانب تلك القواميس "ألفية ابن مالك" و "الأجرومية" لابن آجرّوم، فضلاً عن "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" و "قطر الندى وبل الصدى" و "شذور الذهب في معرفة كلام العرب"، والكتب الثلاثة هي لجمال الدين بن هشام، وكذلك "بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة" (المزهر) لجلال الدين السيوطي. غير أن تلك القواميس كلها، وما جاء بعدها مثل "محيط المحيط" للمعلم بطرس البستاني، و"الجاسوس على القاموس" لأحمد فارس الشدياق، و "المنجد في اللغة" للأب لويس المعلوف، لم تلتفت كثيراً إلى النصوص العربية القديمة، بل كان كل مؤلف من هؤلاء المؤلفين يلجأ إلى مَن سبقه، فينقل عنه، ويزيد ويُنْقص على طريقة "نقل اللاحق عن السابق". ومهما يكن الأمر فإن المعجم يختلف كثيراً عن القاموس؛ فالقواميس تعرض المعاني من دون تحديد تاريخ ظهور لفظ ما وتطور دلالته. أما المعاجم فتتميز بتسجيل ذاكرة كل لفظ، فتدوّن تاريخ استعمال اللفظ ودلالته الأولى وتحولاته الدلالية والبنيوية، وتوثق ذلك كله بالنصوص العربية القديمة. وبهذا المعنى فإن القواميس، على أهميتها، ربما تشرنق اللغة، بينما تنحو المعاجم إلى فهم الماضي بأدوات عقلانية. وفي هذا السياق أكد الدكتور عزمي بشارة في خطبته أمام احتفالية إطلاق بوابة معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، الدوحة، 10/12/2018). "أن المعاجم اللغوية تلتفت إلى التاريخ لتقبل فكرة التغير والتطور، وعلى أساس هذه النظرة اهتم النهضويون في أوروبا بأصول اللغة، وبحثوا في العائلات اللسانية، إذ إن النهضة، أي نهضة، لا تكتمل من دون الوعي بتطور ألفاظ اللغة ودلالاتها ومعانيها ومبانيها، فالماضي في منظور النهضة عملية مستمرة من التبدل والتطور خلافاً للهويات التي تمثل نوعاً من الثبات".






قصة ولادة المعجم

  في هذا الحقل من المعرفة تداعى عدد من علماء اللغة العربية في سنة 2012 بينهم رمزي بعلبكي ورشيد بلحبيب ومحمد العبيدي وعزالدين البوشيخي إلى لقاءات متعددة خرجوا في إثرها باقترح يدعو إلى الإسراع في تأليف معجم تاريخي للغة العربية. وعُرض الأمر على الدكتور عزمي بشارة الذي تحمس لهذه الفكرة، وسعى إلى تأسيس هيئة علمية لهذا الغرض، وعمل بلا كلل في سبيل إطلاق هذا المعجم الذي جرى تتويج سعيه في 25/5/2013 بإعلان انطلاق العمل فيه بأيدٍ ثابتة وبأقدام راسخة وبإقدام علمي جريء. وقد شارك في إنجاز المرحلة الأولى من هذا المعجم نحو 300 معجمي وباحث وحاسوبي وإداري. والمرحلة الأولى تغطي 700 سنة من تاريخ اللغة العربية، أي منذ النقوش الأولى حتى نهاية القرن الثاني الهجري. وقد استغرق إنجاز المرحلة الأولى ثلاث سنوات كاملة، وجرى رصد 100 ألف مدخل معجمي. ومن المتوقع أن تستغرق المرحلة الثانية نحو خمس سنوات فتغطي الفترة ما بين القرن الثاني الهجري والقرن الرابع الهجري، وربما امتد العمل في هذا المعجم نحو 15 سنة أو أكثر حتى الانتهاء من آخر مدخل فيه، وهو عمل مضنٍ بلا شك، خصوصاً إذا علمنا أن في اللغة العربية أكثر من عشرين ألف جذر، وكل جذر يُشتق منه نحز 40 كلمة، فيكون عدد الكلمات نحو 800 ألف كلمة، عدا الكلمات التي دخلت على العربية منذ القرن التاسع عشر فصاعداً، وهي كثيرة جداً، ولا سيما في مجال العلوم الحديثة. وبحسب الدكتور رمزي بعلبكي، وهو رئيس المجلس العلمي للمعجم، فإن أهمية المعجم تكمن في المواءمة بين المعرفة التراثية والمعرفة الإنسانية الحديثة، خصوصاً في مجال العلوم اللغوية وعلم صناعة المعاجم (أنظر كلمته في حفل إطلاق البوابة الالكترونية للمعجم،الدوحة، 10/12/2018). أما الدكتور عز الدين البوشيخي مدير المشروع فرأى أن هذا المعجم يؤكد أن الأمة العربية قادرة على جمع تراثها الأدبي والعلمي والثقافي والديني جمعاً واحداً (راجع كلمته في الاحتفال المشار إليه أعلاه).

ما هو المعجم؟

            ليس هذا المعجم فريد عصره ووحيد زمانه، إنما هو شوط علمي غير مسبوق في اللغة العربية. وعلى سبيل المثال فإن المعجم التاريخي لألفاظ اللغة الألمانية بدأ العمل فيه في سنة 1838، وأنجز الباحثون ستة حروف في 16 عاماً ثم توقف إلى أن أعاد بسمارك العمل فيه في سنة 1868، واكتمل في سنة 1961، أي أنه احتاج إلى 120 سنة كي يغطي 400 سنة من تاريخ اللغة الألمانية. وبدأ العمل في المعجم التاريخي لألفاظ اللغة الإنكليزية في سنة 1857، وتتبع 1250 عاماً من عمر اللغة الإنكليزية، واستغرق العمل فيه نحو ثمانين عاماً، وأُنجز في سنة 1928. وبدأ العمل في معجم اللغة الفرنسية في سنة 1778، وفي سنة 1858، أي بعد ثمانين عاماً، نُشر الحرف الأول منه في أربعة مجلدات، ولم يقيض أن ترى خاتمته النور إلا في سنة 1992. وعلى هذا المنوال معجم ألفاظ اللغة الهولندية الذي بدأ العمل فيه في سنة 1849 ولم يكتمل


إلا في سنة 1998 (راجع كلمة الدكتور عزمي بشارة المشار إليها) وبالتأكيد لن يستغرق إنجاز المعجم العربي ما استغرقته المعاجم الأوروبية من الزمن، وسترى خاتمته النور على الراجح في سنة 2035.

 

أشرعة البحّار العنيد

  اللغة هي مخزن المعارف أو مرآة العقل لأي شعب من الشعوب. وقد خضعت أفكار التطوير  اللغوي في العالم العربي، خصوصاً في مصر والشام، لعوائق جمّة. وكان مفهوم الفصاحة من بين العوائق التي أعاقت ذلك التطوير لأنه يعتبر كل تغيير في اللغة إخلالاً بها وفساداً مذموماً تجب مقاومته. غير أن المعجم التاريخي لألفاظ اللغة العربية سيتيح لنا معرفة ثقافة العرب وكيفية إدراكهم العالم المحيط بهم، وكيف كانوا يستعملون الألفاظ في التعبير عن أفكارهم وعواطفهم وحاجاتهم، كما يقدم لنا معلومات مهمة عن حضارة العرب كالأطعمة والأشربة والأنبذة والألبسة والأسلحة والعمارة، وعن تطور معاني تلك الألفاظ على مر العصور. وسيُشتق من هذا المعجم معاجم فرعية كمعجم ألفاظ الحضارة (العمران والحرف والصناعات) ومعجم مصطلحات العلوم (الطب والفلك والفيزياء والجغرافيا والرياضيات... وحتى الفلسفة). وطريقة ترتيب المعجم تتلخص في تسجيل الجذر اللغوي لكل لفظ، وأقدم استخدام له، والشاهد الذي ورد فيه ذلك اللفظ كالنصوص والنقوش والقصائد والخطب، ومصادر ذلك كله، ومعاني اللفظ مرتبة تاريخياً بحسب ظهورها في النصوص الموثقة، وكذلك عملية الاقتراض من اللغات المجاورة، أو ما يسمى "التأثيل". وبهذا العمل الجبار سيتمكن المشتغلون باللغة العربية من فهم لغتهم في تطوراتها الدلالية على امتداد نحو 1800 سنة. وسيساهم هذا المعجم، بلا ريب، في بلورة الهوية العربية لسكان هذه البلاد بما هي هوية جامعة ومتعالية على الهويات البدائية والعصبوية كالهويات المذهبية والإثنية والعشائرية والجهوية.

            هذا المعجم الذي بات يسمى رسمياً "معجم الدوحة التاريخي للّغة العربية"، هو مغامرة معرفية فذة تشبه الإبحار في اللجج العميقة وبين الأمواج العاتية، لكن الإقلاع قد بدأ ونُشرت الأشرعة. وهذا الإنجاز ليس غريباً على بحار من طراز عزمي بشارة المناضل والمفكر وباني المؤسسات العلمية والمنفي عن وطنه في الوقت نفسه؛ وهذا هو نفي المنفى وتحدي مرارة العيش خارج الوطن.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.