}

عن الشريعة والتقدّم

شكري المبخوت شكري المبخوت 21 نوفمبر 2018
آراء عن الشريعة والتقدّم
حروفيات عثمان

كثيرا ما تستعيد الشعوب رموزها في لحظات الأزمة والبلبلة الفكريّة، لذلك لا نستغرب عودة المفكّر التونسي الطاهر الحدّاد هذه الأيّام بقوّة واستعادته من الذاكرة الإصلاحيّة المدنيّة بعد ما يناهز الثمانين عاما من وفاته.

عاد الطاهر الحدّاد (ولد في 1899 وتوفّي في 1935) مرّة أولى من خلال المعركة الفكريّة والسياسيّة التي نشبت منتصف هذه السنة 2018 في تونس حول المساواة في الميراث بين النساء والرجال. كانت حجّته التأويليّة مهمّة، بقطع النظر عن معارضتها للتأويليّة التقليديّة حول العلاقة بين النصّ المقدّس والواقع المتحوّل. كان الرجل يرى حاجة حيويّة إلى التمييز بين ما جاء به الإسلام إقرارا منه، مع بعض التعديل أحيانا، بخصائص العصر الذي تنزّلت فيه الرسالة (كالعبودبّة والزواج بأربع وللذكر مثل حظّ الأنثيين)، وما جاء من أجله الإسلام كالمساواة والعدل والإنصاف. فأدرج بذلك النصّ في التاريخ لتُستصفى من متنه النواة الروحيّة والقيميّة والأخلاقيّة الخالدة، أمّا نواته التشريعيّة، مهما كانت قطعيّة دلالتها، فهي قابلة للنسخ تاريخيّا، إيذانا بتجلّي المقاصد الربانيّة في التاريخ البشريّ على التدريج.

وبين بساطة الفكرة والمبدأ الذي نظر به الحدّاد إلى النصّ من ناحية وتعقّد الذهنيّات والإرث الفقهي والتشريعي من ناحية ثانية مسافة للتفاوض أكّدت الأيّام صحّة رأيه وإن جادل الجامدون القابعون في المتون الصفراء القديمة.

لكنّ عودة الحدّاد الثانية في سنة واحدة، وبين العودتين شهر أو يزيد قليلا، كانت من خلال اكتشاف مخطوط له لم يرد في أعماله الكاملة المنشورة منذ عقدين تقريبا. فقد نشر المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون كتيّبا له بعنوان "الجمود والتجديد في قوّتهما". ومن الصدف (هل هي صدفة؟) أن يبدو النصّ معاصرا راهنا كأقوى ما تكون المعاصرة والراهنيّة، سواء في السياق الثقافيّ التونسيّ أو في السياق العربيّ والإسلاميّ، رغم أنه كتب بعد سنة 1930 تاريخ صدور كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" وما أثاره من ضجّة انتهت بتكفير شيوخ الزيتونة لصاحبه والقضاء على فكر نقديّ وقّاد ومصلح من طراز رفيع مات كمدا وقهرا.


محاكاة ساخرة

 من طريف أسلوب هذه الرسالة التي كتبها الحدّاد أنّه استعار فيها لسان رجال الدين في ردّهم على المضلّلين والملاحدة والمناحيس والدجالين والمارقين والمموّهين والزنادقة المفسدين... إلخ. (كما يصفهم في الكتاب). فهم ينطلقون من موقع الغيرة على الإسلام ضدّ "المخدوعين بزخارف المدنيّة الفاجرة" (ص 21) الذين يعملون على أخذ الناس إلى الإلحاد بالتدريج بعد التدريج في نسخ الشريعة ومحقها "لتحلّ محلّها المدنيّة الغربيّة" (ص 24).

فنرى هؤلاء الشيوخ "الجامدين" يبرّرون مثلا تعدّد الزوجات وملك اليمين والحقّ في الطلاق وعدم التساوي في الميراث وغيرها من القضايا الجادّة بلغة ممجوجة وبحجج ذكوريّة واهية تصل إلى حدّ الإسفاف. من ذلك أنّ "الدين الحنيف" والشريعة السمحاء يختصران عندهم في تمكين الرجل من "رغد العيش" و"حبّ التنويع في اللذّة" (أي الزوجات وملك اليمين) (ص 12)، في حين أنّ المرأة ناقصة عقلا ودينا "يجب أن تكون خادمة للرجل"، فهي "من الرجل وهو علّة وجودها وكما سخّر الله ما في الأرض جميعا للإنسان كذلك سخّر المرأة للرجل تعيش له ومن أجل حاجته تحيا" (ص 13).

وقد بني الكتاب كلّه على هذا التقابل وهذا الضرب من الحجاج القائم على مسلّمات اجتماعيّة تتخفّى بالدين من أجل إدامة تفوّق الرجل والحطّ من المرأة.

ولا يخلو الكتاب في عرض هذه الحجج التي ينطق بها لسان الشيوخ من مبالغة يقتضيها أسلوب المحاكاة الساخرة (الباروديا) وقلب حجج المجدّدين على أصحابها لمزيد بيان التقابل بين تيار الجمود وتيّار التجديد. فوراء هذه المبالغة وهذا القلب دفع لمنطق الحجج المستخدمة إلى أقصاها، كي يصبح خطاب الشيوخ على ما فيه من جدّ ظاهر متهافتا يدعو القارئ إلى الضحك منه ومن مسلّماته التي لم تعد تناسب الواقع. فمأتى السخريّة هو التقابل الحادّ والتباين البارز بين منطوق خطاب الشيوخ ومقتضياته من جهة وتحوّلات الواقع المعيش مع تغيّر الذهنيّات وإن قليلا في مجتمع يشهد تناقضا حادّا بين نمط الحياة القديمة المؤمثل باسم الدين ونمط الحياة المدنيّة الجديدة وما شهده عالم ما بعد الحرب العالميّة الأولى من تغيير كبير.

لقد أحسن الطاهر الحدّاد في هذا الكتاب استغلال ما تقتضيه استراتيجيّة المحاكاة الساخرة من توظيف خطاب الآخر المناقض ولغته ومصطلحاته لردّه على صاحبه بتعريته والكشف عن وجاهة الخطاب النقيض الذي يتبنّاه المحاكي ولبيان ضعف حجيّته وتجريده من وجاهته وإفراغه من قوّته الحجاجيّة.


في أنّ التقدّم يهدّد الشريعة

إنّنا أمام خطاب ساخر ينكّل بالخصم تنكيلا وإن بدا في سطحه متبنّيا له ولمنطقه الداخليّ وآليّات اشتغاله. لكنه في واقع الأمر يشتغل على نتوءاته وتضاريسه بردّها إلى بسائطها المفرغة من كلّ قوّة فكريّة. إذ يتبيّن أنّ تلك الحجج التي يعتقد الشيوخ أنّها من الدين لا تعدو أن تكون قراءة سطحيّة مصلحيّة أنانيّة ضيّقة لنصّ يحتمل من وجوه التأويل ما لا يرغب الشيوخ في فهمه وتبنيّه. فهم واعون بالتمييز بين الدين الكلّيّ المجاوز للتاريخ والشريعة الجزئيّة الملابسة لأحوال الحياة المتطوّرة باستمرار، بيد أنّهم يتعمّدون عدم الأخذ بهذا التمييز. فيقول الحدّاد على لسانهم مثلاً: "أمّا دعوى التفرقة بين الدين والشريعة وتطوّر الحكم بتطوّر الحياة فتلك زندقة يراد بها حرب هذا الدين وتعويضه بالمدنيّة الغربيّة" (ص 18).

وهنا يبيّن الحدّاد بطريقة غير مباشرة أنّ الصراع الحقيقيّ بين أهل التحديد وأهل الجمود إنّما هو واقع في مستوى التأويل. إذ يدّعي الشيوخ أنّ مذهبهم في فهم النصّ لاستنباط الأحكام الشرعيّة وإجراء القضاء الشرعيّ إنّما هو "مذهب أهل السنّة المؤيّد المنصور" الذي "يستكنه الحقيقة". غير أنّ الحدّاد في تداخلٍ متعمّدٍ بين أصوات المجدّدين والجامدين يتدرّج إلى دور العقل في التأويل ومراعاة مصالح الناس ليؤكّد في ضرب من الاستفهام الإنكاري أنّ "أيّ أمة تمسّكت بالتقليد قائدا وحرمت من مجتهدين من أبنائها يسنّون لها طرق الحياة بما علموا وبما عرفوا من أحوالها الحاضرة، أيّ أمة وصلت إلى هذا الحدّ ولم تسقط إلى الحضيض والتعاسة والهوان؟".

فمن مكوّنات هذه المحاكاة الساخرة أنّ مواقف المجدّدين لا يطّلع عليها القارئ إلّا من خلال ردود الجامدين من الشيوخ عليها. وهو ما يكشف في النصّ الطابع السجاليّ الجداليّ الحادّ الذي بُني عليه. وهو سجال يجعل صوت المحافظين هو الأعلى في منطوق النصّ ولكنّه الأضعف في مضمونه فيضع خطابهم المطمئنّ موضع شكّ بما يقوم عليه من توتّر وتردّد وما يدفعهم إليه من الوقوف في مقام المدافع عن رأي متهافت ضعيف لا يصمد أمام الوقائع العنيدة. فلا يجد خلاصا لذلك إلّا بالحضّ على نصرة الدين والإغراء بالدفاع عنه ("فالله الله أيها المسلمون في دينكم فلا يفرّنكم فيه هؤلاء المخدوعون بزخارف المدنيّة الفاجرة")، علاوة على الالتجاء إلى ذمّ الخصوم والاعتصام بمقولة عودة الإسلام غريبا. 

إذ تنتهي المحاجّة بضرب من التفاؤل يستند إلى حديث نبوي يحمّل المسلمين الصادقين مسؤوليّة إصلاح ما فسد بناء على معنى الفرقة الناجية الوارد في حديث آخر. "إنّ الدين غريب وسيعود كما بدأ ولقد صدق نبيّنا الأمين فها هي طلائع غربته قد بدأت تظهر في عزوف أبنائه منه وعقوقهم له وطعنهم إيّاه في الصميم".

بيد أنّ الطاهر الحدّاد يردّ بوعي تاريخي قويّ على هذا التصوّر المحافظ ينطق به الشيوخ ناسبين إيّاه إلى أعداء الدين: "إنّ فكرة التقدّم إذا نضجت في أبناء الأمّة تستأصل الشريعة من أصلها كما صار في تركيا اليوم ويصير في غيرها من البلدان التي لم تقبل مبدأ التطوّر في شريعتها حسب تطوّر المصلحة التي جعلتها تلك الشريعة، فلنختر نحن الإفريقيّين (يقصد التونسيّين) أحد أمور ثلاثة، إمّا الجمود على ما نحن فيه من التأخّر وإمّا قبول التطوّر مع الشريعة وإمّا قبوله بقطع الصلة معها".

ولعلّ في هذا القول وما يقدّمه من ممكنات بعض ما يفسّر راهنيّة هذا الكتيّب الذي وضعه الحدّاد في صيغة محاكاة ساخرة وإن كانت جادّة أكثر مما يعتقد. وهل لمفكّر معزول منبوذ بعد تكفيره من مؤسّسة الزيتونة وشيوخها إلّا السخرية سلاحا يهدم به خطابا جامدا عاجزا عن إدراك الواقع في تحوّلاته؟ فما أشبه اليوم بالبارحة كأنّنا لم نتقدّم خطوة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.