}

ما يجمع بين كافكا وأبي حيان التوحيدي

باسم المرعبي 3 نوفمبر 2018
آراء ما يجمع بين كافكا وأبي حيان التوحيدي
كافكا وابي حيان، تصميم باسم المرعبي

عادةً ما يتبادر إلى القارئ عند الاطلاع على عنوان كهذا، هو أن أن واقعة حرق كتب أو مخطوطات كافكا وأبي حيان سواء بواسطتهما مباشرة أو عن طريق آخرين هو، فقط، ما يجمع بين الإثنين. وعلى أهمية هذا المشترَك، بوصفه تعبيراً عن موقف، له أسبابه العميقة والمتشعبة لدى كلٍّ منهما، لكنه يبقى ملمحاً خارجياً، قياساً إلى ما سيعنى به المقال ويعقده من مقارنات تتقصى ما يمكن تقصّيه مما هو داخلي يحاول تلخيص جوهر شخصيتي الكاتبين وسبر ما بينهما من وشائج عبر أكثر من ملمح من ملامحهما كالإغتراب والعزلة واليأس والإيمان. وتقتضي الإشارة هنا إلى أن هذا المقال ينطلق أساساً من دراسة متفردة ومبكرة للكاتب والمفكر المصري عبد الرحمن بدوي صدّر بها تحقيقه لمخطوطة كتاب أبي حيان التوحيدي، "الإشارات الإلهية والأنفاس الربانية" وقد وضع لدراسته عنواناً لافتاً، هو "أديب وجودي في القرن الرابع الهجري"، ولا شك أن التوحيدي يستجيب لهذا الوصف في أكثر من ناحية، ومن غير المستغرب أن يصفه بدوي بذلك وهو المعني بالوجودية والمبشّر بها عربياً، ترجمةً وتنظيراً وبحثاً. والتوحيدي، في لمحة من تعريف ياقوت الحموي له في معجم الأدباء، هو: "فيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام، ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء، وفرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاءً وفطنة، وفصاحة ومكنة، واسع الدراية والرواية". غير انه في الوقت ذاته، "كان سخيف اللسان، قليل الرضا عند الإساءة والإحسان، الذم شأنه والثلب دكّانه". أما الكاتب التشيكي فرانز كافكا، يكفي تعريفاً به اقتران اسمه بالرواية الحديثة، ريادةً وتأسيساً، ومن دلائل فرادته أنه أنجز كل أدبه خلال أقل من اثني عشر عاماً، "وقد كُتب عن هذا الأدب في ألمانيا وحدها ستة عشر ألف دراسة بين مقالة وكتاب، منها أكثر من ألفي اطروحة دكتوراه". فرانز كافكا: الآثار الكاملة، المجلد الأول، ترجمة ابراهيم وطفي. وقد شاع مفهوم الكافكوية، شأنه شأن أي مصطلح، ينفتح على دخائل النفس والنص مما يأخذ من كافكا، الإنسان والأديب، في أطوار حياته الموسومة بالمعاناة والأزمات، فضلاً عن تعيّنها كدمغة اسلوبية وطريقة كتابة. ذكر ماركيز بعد قراءته "المسخ"، أنه لم يكن يعرف بإمكانية كتابة الرواية بهذه الطريقة، من قبل. وقبل الخوض في جوانب التقاء الكاتبين في جملة خصائص، يُستحسن، أولاً، معرفة أسباب إحراق التوحيدي لكتبه واتلافها وهو ما يمكن تبيّنه من رسالته التي كتبها للقاضي أبي سهل علي بن محمد وقد لامه على ما أقدم عليه ووصفه بالخطأ والفعل الشنيع. في هذه الرسالة التي ترد في معجم الأدباء، يقدّم صاحب المعجم لها بقوله "وكان أبو حيان قد أحرق كتبه في آخر عمره لقلة جدواها وضنّاً بها على من لا يعرف قدرها بعد موته". وإجمالاً، يتضح أنّ سبب ما أقدم عليه أبو حيان ذو شقين، ديني ودنيوي، أما الأول، يمكن عدّه زهداً، فهو يستشهد بالأية القرآنية "كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه تُرجعون" كما الآية "كلُّ مَن عليها فان" منوهاً أن لا فائدة من عمل ليس فيه منجاة، أي في الآخرة، خشية أن تكون "أعماله"، تلك، غلاً في رقبته، مثلما أفصح. وقبل ذلك قال انه قد استخار الله، فرأى في المنام ما يوحي إليه بإمضاء ما عزم عليه. أما الشق الدنيوي، فيتمثل بخيبته بمتلقّي علمه وعدم تحقيقه المنزلة التي كان يطمح. يقول: "ثمّ اعلم ـ علّمك الله الخير ـ أن هذه الكتب حَوَت من أصناف العلم سره وعلانيته، فأما ما كان سراً فلم أجد له مَن يتحلى بحقيقته راغباً، وأما  ما كان علانية، فلم أُصب من يحرص عليه طالباً، على أني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم ولعقد الرياسة بينهم ولمدّ الجاه عندهم، فحُرمت ذلك كلّه". وشأنه شأن كافكا في عدم رضاه عن بعض أعماله، كان التوحيدي يخشى تسقّطَ أخطائِه في كتبه والتشنيع عليه. أما بخصوص حرق كتب كافكا، فثمة لبس شائع يتعلق بحقيقة وصيته لصديقه ماكس برود، إذ مِن بين دارسيه مَن يذهب إلى أنّ كافكا كان قد عهد إليه بحرق بعض مخطوطاته التي لم يكن راضياً عنها، ولم يوصه بحرق كامل نتاجه غير المنشور، وإلا فكما ترجح هذه الآراء، لقام كافكا بنفسه بإحراق مخطوطاته، سيما وأنه قد سبق له أن فعلها إبان اقامته في برلين بمساعدة صديقته دورا ديامنت، بين العامين 1923 و 1924، أي في أواخر حياته، كما عند التوحيدي، غير ان الخلط وعدم الدقة، عربياً، يحضران في كثير من الأحيان، عند تناول نتاج كافكا الذي نُشر بعد وفاته، وكأنه لم ينشر شيئاً في حياته، في الوقت الذي كان قد نشر ستة كتب، من بينها "المسخ" وهو واحد من بين أهم أعماله وأوسعها شهرة، كما شاعت في الترجمة العربية على يد منير البعلبكي ـ 1957، أو "التحوّل"، لاحقاً كما في ترجمة الشاعر مبارك وساط، وإن كان المترجم ابراهيم وطفي مترجم الأعمال الكاملة لكافكا والمهتم به، يرى ان "الإنمساخ" هي التسمية الأدق وفقاً لما يبينه في مراجعته وتصحيحه لترجمة البعلبكي. وعلى أهمية ما نشره كافكا في حياته، غير أنّ لم يكن لذلك من أثر عدا استجابات معينة. وهو هنا يلتقي ايضاً مع أبي حيان في تعرضه للإهمال وهو ما قاد مع عوامل أُخرى إلى اليأس، فهل وجد كافكا في نتاجه عبثاً لا طائل تحته ليقع في حال من العزوف والزهد والانصراف المطلق، كما يعبّر بدوي في دراسته؟ وبالمجمل، فالفضل يعود لصديقه ماكس برود، في تقديمه للعالم وإن دارت بعض الشبهات حوله والاتهامات بتزوير وصيته أو استغلال اسمه، إلّا أن الدور الحاسم كان له "في فرض كافكا على الوعي العالمي" كما يفيد الكاتب ميلان كونديرا في كتابه "الستارة"، ترجمة معن عاقل. وهو نفسه قد قال من قبل تقريضاً مشابهاً بحقه، ما يدحض فكرة استغلال وتآمر برود على كافكا، فمما جاء في كتابه "خيانة الوصايا"، ترجمة لؤي عبد الإله: "لولا ماكس برود، لما كنا عرفنا كافكا اليوم. بعد وفاة صديقه ... قام برود بطبع روايات كافكا الثلاث. ـ المقصود بها: المحاكمة، القلعة، أمريكا ـ لكن لم يكن هناك أي رد فعل. آنذاك أيقن، بأنه كي يوطد أعمال كافكا، عليه أن يخوض حرباً حقيقية وطويلة. فتوطيد مجمل أعمال أدبية يتطلب في البدء تقديمها، وشرحها". وإذا كان كافكا قد شُغل بسؤال الهوية، كما يرى روجيه غارودي في "واقعية بلا ضفاف"، كونه يهودياً ناطقاً بالألمانية في بلد تشيكي ـ مسيحي، يتبع لإدارة نمساوية ـ هنغارية. فإنّ قلق الهوية هو الآخر انتاب التوحيدي، وقد تضاربت الآراء في أصله، فثمة من قال بأصله الفارسي، وآخر سعى لإثبات نسبه العربي، وهو ما فعله التوحيدي في "الرسالة البغدادية"، بانتحاله اسماً آخر منسوباً إلى الأزد. وعلى محبته لبغداد التي نشأ وتعلم وكسب علمه فيها، وتفضيله لها على غيرها مما عرف من مدن وبلدان، إلا أن بدوي لا يستبعد احتمال انطوائه كما كافكا على "تجربة أو شعور أليم يبلغ حد المأساة، لأنه شعور عنصر بأسره في كفاح حضاري مع عناصر قوية أُخرى كانت لها عليه مكانة السيادة". ولو صحّ هذا الافتراض فقد يفسّر شيئاً من فقدانه كلّ مؤنس وصاحب، ومرافق ومشفق، كما يقول في مقدمة رسالة "الصداقة والصديق"، التي منها أيضاً  "ووالله لربما صليت في الجامع، فلا أرى جنبي من يصلي معي، فإن اتفق فبقال أو عصّار، أو ندّاف أو قصاب... فقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنساً بالوحشة". وبالمعنى ذاته يقول كافكا، انه كان يمد يده بكل ما بوسعها الى الأشياء والأحياء إلا انها كانت قصيرة لا تبلغهم. على ان غربة التوحيدي لم تكن غربة عنصر "أجنبي" في محيط آخَر، بل هي اغتراب وجودي شامل علا فوق كل "أعراض" الغربات المعهودة، بعد ان لم تعد به طاقة على الإستيطان مثلما عبر هو ذاته، ليتفاقم هذا الشعور ويتطور إلى أن يكون غريباً عن الغربة ذاتها: "قد قيل الغريب من جافاه الحبيب. وأنا أقول بل الغريب من واصله الحبيب. بل الغريب من في غربته غريب". أما كافكا فكان يشعر بالانفصال عن اليهود والألمان والتشيك على المستوى النفسي، لهذا تساءل: ما هي القواسم المشتركة بيني وبين اليهود؟ إنه لا يكاد يوجَد قواسم مشتركة بيني وبين ذاتي. يوميات فرانتس كافكا 1910ـ 1923، تحرير ماكس برود. ترجمة، خليل الشيخ. ومما يجمع بينهما أيضاً، أنّ كلا منهما قد نشأ في أُسرة تشتغل بالتجارة. ونتيجة لتعارض الثقافة بمعناها الرفيع، مع التجارة فقد نشأ التعارض الحاد بين الابن "الضال" والوالد الذي لاتدور في ذهنه سوى أرقام ومعادلات الربح والخسارة. فآباء من هذا النوع لا يرون في أي نشاط فكري أو ثقافي سوى مظاهر قِشرية هامشية مطروحة، في الوقت الذي يرى الابن أنّ ذلك هو عين وجوده وسرّه، لذا "يبغض كل واحد ما يعدّه الآخر قيمة حقيقية". وإذا كان الأب قد توعّد ابنه، ذات مرة، بقوله: "سأمزقك كالسمكة"، وهو ما جعل من أصداء هذه الصيحة تتردد في جنبات نفس كافكا، ليرسم الخوف علاقته بالأب، حتى النهاية، وهو ما تبيّنه بتفصيل "رسالة إلى الوالد" هذه الوثيقة التي توصف بأنها أهم وأشمل ما كتبه كافكا عن سيرة حياته، كما يرى يواخيم أونزلد ـ ابراهيم وطفي: مصدر سابق. بالمقابل يرجّح  بدوي أن علاقة سيئة كانت قد حكمت التوحيدي بعائلته، بدليل صمته عن كل ما له صلة بذلك على الرغم مما كان يستدعي الافصاح عن شيء من هذه العلاقة في أكثر من مناسبة، مرجِعاً هذا الصمت إلى خيبة أمل بهذا الشأن. وعلى صعيد الإيمان والمعتقد تضاربت الآراء بشأن ذلك لدى التوحيدي، فقد وُصف برقيق الدين أو قليل الدين والورع وعدّه ابن الجوزي من زنادقة الإسلام الثلاثة إلى جانب ابن الراوندي والمعرّي. وعمد عبود الشالجي محقق الرسالة البغدادية إلى نزع "الإيمان"عنه. وإذا ما كان التوحيدي، على الأقل، يؤمن بسلطة عليا فوق الكون، كما يقول بدوي، إلا ان كافكا لم يكن ليسلم بوجود هذه السلطة إلا بعد جهاد طويل مع النفس. مع ملاحظة أن محقق الإشارات الإلهية قد يعمد أحياناً إلى ليّ عنق الحقائق من أجل المواءمة بين الإثنين، في بعض المواضع. لكن ما لا يُختلَف عليه هو أنّ "التصدّع" و"الإنسداد" في ذات كل منهما هو ما قد يكون الملمح الأهم والأعمق بين الإثنين، لدوره الحيوي في إنجازهما الأدبي. و باللمحتين اللتين سنختتم بهما المقال نتبيّن مدى تماهيهما في سوداويتهما أو بعبارة أُخرى كافكويتهما أوحيّانيّتهما! يقول كافكا: أنا من حجر، بل أنا حجرٌ لقبر نفسي، لا منفذ فيه للشك أو للإيمان، للحب أو للنفور، للشجاعة أو للقلق، على وجه التخصيص أو وجه التعميم: كلا بل ثَمّ أمل واحد غامض يحيا، لكنه من نوع شواهد القبور. ويقول أبو حيان: طريقي حسك، وعطائي خديعة، وظاهري حسرة، وباطني حيرة، وحالي سراب، وبنياني خراب، وجرفي هائر، وصوابي خطأ، وبقائي حلم.

مع وصف كهذا للذات أو "تشخيص" يمتاز بالفرادة من قبل الكاتبَين، روحاً ولغةً، نكون أمام آفاق محرّضة على استنطاق المزيد من عوالمهما، سيرةً ونصاً، إذ أنّ نقاط التقائهما تتسع وتتعدد مع كل قراءة جديدة.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.