}

برغسون في قلب الثقافة الإسلامية: حداثة الفكر وحركية الوجود

فريد الزاهي 6 نوفمبر 2018
آراء برغسون في قلب الثقافة الإسلامية: حداثة الفكر وحركية الوجود
هنري بيرغسون

جرت العادة أن نعتبر أن ماركس، وبعده سارتر، المفكران الأكثر تأثيرا في فكر التحرر في العالم الثالث. وإليهما تنضاف أسماء مؤثرة من قبيل ولهلم رايش وأنطونيو غرامشي وغيرهما... وبما أن العالم العربي والإسلامي والإفريقي كان بحاجة لنظريات مرجعية سياسية، فإن الأولوية طبعا تعود لأكثر هذه الأسماء التزاما بقضايا التحرر الوطني والاجتماعي. ولا أحد منا فكر يوما في أن يكون برغسون (الذي لا يردّد المفكرون العرب عنه إلا كتابيه عن الضحك وعن المعطيات المباشرة للوعي) قد مارس تأثيرا كبيرا على مفكريْن علميْن من مفكري التحرّر، أحدهما مسلم هو محمد إقبال، والثاني مسيحي إفريقي هو ليوبولد سيدار سنغور. لنقارب الأول في هذه المغامرة الفكرية الطريفة، في انتظار أن نفاتح الثاني في هذا الاستيحاء الاستثنائي.

محمد إقبال، برغسون، وولادة الفرد المسلم

كانت قراءات محمد إقبال لبرغسون سابقة على معرفته له وزيارته بباريس عام 1931. وبالرغم من مرض الفيلسوف الفرنسي، فقد أبى إلا أن يستقبل ضيفه الهندي، ويجالسه لمدة ساعتين. يحكي ماسينيون هذا اللقاء في رسالة بعث له بها محمد إقبال: " عرف محمد إقبال برغسون سابقا قبل لقائه. وبالرغم من الترجمة الإنكليزية الخائبة جدا (التي أنكرها المؤلف) فقد أحس إزاء برغسون بتآلف روحي "سامٍ". وانتهى به الأمر إلى زيارة باريس للتحادث معه. لكنه أيضا أراد أن يتحدث معي  بباريس بصدد الحلاج. فقد كتب لي من لاهور في 18 فبراير 1932: "أبعث إليك طيه نسخة من كتابي الأخير جافيد نامه الذي أتمنى أن يحوز على اهتمامك، خاصة القسم الذي يقيم علاقة بين الحلاج ونيتشه  (...) لقد مكّنتُ الأول من توضيح رأيه، أما الثاني فسعيت إلى توضيح كيف يمكن أن يُنظَر إليه متصوف مسلم. الكتاب عبارة عن "كوميديا إلهية" للإسلام. كان مؤسفا حقا ألا أستطيع ملاقاتك في لندن. وأنا الآن أفكر في القيام بزيارة للمغرب الإسباني وربما المغرب الفرنسي. وهو ما سيمنحني الفرصة للقاء بك بباريس". و لقد التقيته فعلا في بيتي في فاتح نونبر". هكذا كان محمد إقبال يحاور في بدايات القرن الماضي مفكرين كبارا في قضايا لم يصل صداها الثقافة العربية إلا عقودا طويلة بعد ذلك...

حين أصدر برغسون كتابه التطور الخلاق عام 1907، كان قد تُرجم للإنكليزية، واطلع عليه الشاعر الهندي (آنذاك)، وهو يهيئ أطروحته في جامعة كمبردج بلندن  عن تطور الميتافيزيقا في بلاد فارس، ومن ثم بدأت رحلة محمد إقبال في التشبّع بمقولاته. فقد كان هذا الشاعر والمفكر فيلسوفا منفتحا على الفكر الإسلامي والغربي، تواقا إلى تجديد الفكر الإسلامي عبر مفهوم الاجتهاد في وقت قلّ فيه من كان يمنح قيمة للفكر والفلسفة، عدا جمال الدين الأفغاني.



بنى إقبال بشكل ذكي فلسفته على مفهوم الفرد، الذي يغيب في التصور الإسلامي للوجود باعتبار أن الذات الوحيدة هي الذات الإلهية.  الصيرورةُ فردًا لدى إقبال استقاها من برغسون وطورها في منحى فكري جديد. إنه مبدأ برغسوني أساس سوف يجعله محمد إقبال يستند أيضا إلى التجربة الصوفية للإنسان الكامل، التي يُعتبر نبي الإسلام نموذجها الأسمى. وبذلك فإن فلسفة إقبال تنظم اللقاء بين الفكر البرغسوني للصيرورة فردا، من جهة، وذلك التقليد الصوفي الذي يبني هوية الفرد في استقلاله الوجودي من جهة ثانية. بذلك لا يكون الفرد كذلك إلا لأنه يدخل في الدَّفَق الحيوي الذي يجعل الكون خلقا متجدِّدا. وهو لن يكون كذلك إلا إذا كان فيه الفرد المتحددةُ هويته فاعلا في هذه الصيرورة المستمرة للوجود، والتي بناها برغسون في كتابه مصدريْ الدين والأخلاق (1932).

الاجتهاد حرية فلسفية

لم يستسغ محمد إقبال أبدا الطريقة التي بها تحجرت الثقافة الإسلامية. فإيمانه الفلسفي والفكري بالإبداع والتجديد الحيوي المتدفق الذي استقاه من برغسون، كما حواره المستمر مع جدلية الحلاج ومفهوم الكمال الإنساني لدى عبد الكريم الجيلي وغيره، جعله يحول الفكر الفلسفي والتصوف إلى منظور سياسي قابل للتطبيق والعيش وجوديا وحياتيا. لذا فقد اعتبر بشكل صارم أن المتحجرين من المفكرين المسلمين المنددين بالاجتهاد والمعتبرين "للإبداع ضلالة"، هو خرق سافر للحركية التي يلزم أن تخترق التحولات الحيوية الدائمة التي من دونها يصبح الوجود مشدودا للماضي لا إلى المستقبل.

تلك هي المنظومة التي مكّنته الفلسفة الحيوية البرغسونية من الخروج منها، إذ إن النموذج لم يعد فيها هو التعارض بين النفس والجسد ولا بين الله والفرد، وإنما الاخْتمار الحيّ والدفعة الحيوية التي لا تكف عن الاشتغال طالما الحياة ظلت تنبض بالوجود. فبما أن الحياة ابتكار وإبداع (بما أن الله كلٌّ في خلق متجدد)، فإن الفعل الإنساني يغدو  مضاهاة مستمرة لحركة الحياة نفسها. هذه الحركية هي ما مكّنت المفكر محمد إقبال من صياغة مفهوم دينامي للحداثة قبل أن تبلغ جذوته للثقافة العربية بوقت طويل.

ذلك ما يعنيه للإسلام نشر الحداثة التي يحملها في أحشائه أصلا.  إنها حداثة لا علاقة لها بالتقنية أو استِقاء شيء خارجي عن الذات ويسمى "حداثة". الحداثة لدى إقبال يلزم ضخها من قوة الخلق المتجدد باعتباره تصورا وجوديا للدين والحياة معا. ومن ثم فإن  مفهوم "إعادة بناء الفكر المسلم" لا يلزم فهمه كتكييف  أو محاكاة  (لنموذج خارجي أو محاكاة النفس، ورغبة في تكرار الذات)، وإنما كاستعادة لمبدأ حركة جارف موجود في الفرد نفسه وفي معتقده. إنه خروج من التحجّر الذي حصل في القرن الثالث عشر الميلادي والذي أدى إلى انحطاط العالم الإسلامي. بل هو  التحديد الواسع والكوني الذي يجاوِز الدلالة الشرعية الوحيدة للاجتهاد. وهو السبب الذي يجعلنا نقول حينها بأن المجتهد، أي الشخص الذي ينتج جَهد التأويل، ليس مخالفا للمجاهد، أي الشخص الذي يجدّد ويحقق النهضة والانبعاث. الاجتهاد أمر حاسم يحول الفكر إلى قوة فعالة في التاريخ والماضي والمستقبل. والمجاهد ليس محاربا بالسيف بقدر ما هو حامل للحداثة والاجتهاد.  من ثم فالحداثة أمر لا يتعلق بالأفراد أو بـ"أبطال" للتاريخ، بقدر ما يتعلق بحركات سوسيوسياسية، أي بحركات ثقافية.

انطلاقا من الفلسفة الحيوية لبرغسون، يحيل محمد إقبال إلى "عفوية الحياة" بحيث يمكننا أن نستشف ما يوجد في لبّ فكره، والتأثير الذي مارسه مفهوم الدفعة الحيوية البرغسوني. وطبعا، كان من اللازم وجود شيء من داخل الإسلام يجعل هذا التأثير ممكنا، وهذا الشيء هو الحيوية والفكر التطوُّري الذي عثر عليه مثلا لدى الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي، الذي يعتبره محمد إقبال أحد شيوخه. فلقد أدرك محمد إقبال باكرا، قبل الكثير من أنداده وتلامذته، أن الفكر الصوفي متفلسف، ويسمح بممارسة الحياة (والسياسة حتى) بمنظور متجدد يمكِّننا من التمييز بين التجربة وبين أصولها العقدية. ومن ثمَّ كان درس إقبال هو: الإنسان حرّ في الحياة كما أمام ربه، لأنه بحريته تلك ووجوده يساهم في الخلق المستمر للحياة (التطور، الحداثة)، وليس ثمة ما يجعل الفرد إسلاميا لأن الإسلام ليس منهجا بقدر ما هو قوة حركية متحولة. الفرد فقط مسلم لأنه طاقة حرة تنبعث من خلال الإيمان بأخلاقيات الحرية والحياة.     

ليس علينا إذن أن نروح بعيدا لمواجهة العقَدية المتحجرة للإسلامويين. فإضافة إلى المعتزلة والمتصوفة والفلاسفة العرب المسلمين، ثمة مفكرون قريبون منا، أدركوا قبل الأوان أهمية التلاقح الفكري في بلورة تجربة فكرية متجذّرة في تربتها. فمحمد إقبال، بغض النظر عن تجربته السياسية، يمنحنا انفتاحا لا نزال بعيدين عنه. فهو حين يتحدث عن انسحاب الرب، يدعو إلى إعادة قراءة حيوية لعلاقة الإيمان بالحرية والفردية والاجتهاد والعمل والحركية. وهي أمور تجعلنا نتساءل: أليس إسلاميونا الراهنون في مجملهم أشد تخلفا في الزمن والمفاهيم والفكر عن هذا الهرم الفكري، الذي يدعونا لإعادة قراءته بمرح وعمق فكري لا يضاهى؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.