}

قضية زياد دويري: أدلجة التساذج

أنطوان شلحت أنطوان شلحت 15 سبتمبر 2017
آراء قضية زياد دويري: أدلجة التساذج
زياد دويري في مهرجان بمراكش

تقف في جوهر الضجة الأخيرة المُثارة حول مسلك المخرج اللبناني زياد دويري قضية لا تزال صفحتها مفتوحة ترتبط بالتسويغات التي نشرها على الملأ لدى قيامه قبل أكثر من خمسة أعوام بزيارة دولة الاحتلال الإسرائيلية والإقامة في تل أبيب ردحًا من الزمن لتصوير فيلمه السابق "الصدمة" من طريق التعاون مع ممثلين وتقنيين إسرائيليين.

مهما تكن تلك التسويغات لا بُدّ من الإشارة إلى بعضها. أولها مجاهرته بأنه ضد حملة المقاطعة لدولة الاحتلال. وثانيها أنه بهذه الطريق، المشقوقة من طرف مبدعين عرب قبله (هل تذكرون مثلًا الكاتب المصري علي سالم؟)، يمكن الصعود إلى سكة بناء "رواية تاريخية" مشتركة لطرفي الصراع تكون بديلًا للروايتين المتقابلتين. وثالثها أن الخطاب السياسي العربي المتعلق بفلسطين الذي يصوّر الإسرائيلي بأنه المُحتل ويصوّر الفلسطيني بأنه الواقع تحت الاحتلال، بات خطابًا أكل الدهر عليه وشرب، وحان الوقت لتصوير كليهما على قدم النديّة والمساواة. وبالطبع ثمة تسويغات أخرى عدا كل ما تقدّم، وجميعها مُستقى من تصريحات أدلى بها دويري إلى وسائل إعلام إسرائيلية، سواء أثناء وجوده في دولة الاحتلال، أو بعد الانتهاء من تصوير فيلمه وعرضه في "مهرجان القدس للأفلام" الذي قال إنه كان يرغب بحضوره لكنه عدل عن رغبته هذه في آخر لحظة.  

لا تشفّ هذه التسويغات عن سذاجة إنما عن تساذج يصل إلى حدّ الأدلجة وإلغاء الذات. وبالأساس ترمي ليس إلى معارضة حملة مقاطعة دولة الاحتلال بل أيضًا إلى التطبيع معها. وهو في العمق تطبيع مع روايتها التاريخية الصهيونية. ولا تنفك هذه الرواية التاريخية تستمد مصلها الواقي من محو الرواية التاريخية الفلسطينية.

عند هذا الحدّ سأقتبس من ركام التعليقات التي كتبت أثناء قيام دويري بزيارته التطبيعية عبارة ورد فيها: "لا شكّ في أن اختيار دويري الوصول إلى إسرائيل واستئجار شقة في تل أبيب والعمل مع ممثلين إسرائيليين من الصف الأول هو اختيار جسور. وفي خضم ذلك اختار كذلك تقديم شخصية الإسرائيلي على نحو يندر العثور عليه في السينما العربية المعاصرة، وهي شخصية الإنسان الهشّ القابل للانكسار والذي يمارس البطش في الآن نفسه".

في الجانب الأبعد مدى، يتساوق هذا التقديم مع مشروع الصهيونية الرامي إلى إنتاج هذا الإسرائيلي باعتباره صاحب البلد- فلسطين- في وعيه التام. وفي حالة دويري تحديدًا يأتي مخرج عربي لأداء مهمة أشدّ وأدهى: إنتاج الإسرائيلي باعتباره صاحب البلد في وعي من بقي في وطنه ولم يُطرد، أو في وعي من أفلح في العودة أو حاول العودة من الفلسطينيين.

ليس هذا التقييم من باب اتخاذ موقف سياسي فقط- مع أن اتخاذ موقف كهذا يجب ألا يعيب أحدًا- إنما أيضًا من منطلق ثقافي. فغالبية الثقافة الإسرائيلية، بما في ذلك تلك المُستأنفة على احتلال أراضي 1967، غير منفصلة عن أقانيم الرواية التاريخية الصهيونية، حسبما بيّنا في أكثر من مقام. وأثبتت كثير من الدراسات أن ممارسة الحركة الصهيونية عملية التهويد العنيفة لفلسطين ما كان من المُمكن أن يُكتب النجاح لها لولا تجنّد  النخبة اليهودية المثقفة، وليس المؤسسة السياسية وحدها، من أجل تنفيذها.

ونقول للعرب أصحاب نزعة إلغاء الذات إنه تتراكم العديد من الوثائق الإسرائيلية التي تتحدث عن هذا الموضوع بصريح العبارة، ويُماط عنها اللثام عامًا بعد آخر، بما بات في الإمكان اعتباره "دليلًا علميًا" إلى عملية محو عروبة فلسطين.

من نافل القول إنّ غاية هذا المحو هي، في الوقت عينه، سحب البساط من تحت أقدام الرواية التاريخية الفلسطينية. وبالتالي فإن المعركة من أجل هذه الرواية ما تزال في أوجها، ويكمن أحد معايير خوضها في مقاومة التطبيع، انتصارًا لفلسطين وقضية شعبها.

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.