}

جائزة "البوكر" العربية ومنطق الدولة القُطرية

ياسر سليمان ياسر سليمان 3 مايو 2017
آراء جائزة "البوكر" العربية ومنطق الدولة القُطرية
شعار الجائزة

أكتب من داخل عوالم الجوائز الأدبية العربية، بصفتي رئيس مجلس أمناء الجائزة العالمية للرواية العربية، المعروفة بـ "البوكر العربية"، ليس بهدف دحض مقولات المؤامرة التي تكتنف هذه الجائزة منذ ولادتها، وما أكثرها وما أبعدها عن الحقيقة، بل لأشير إلى تجذّر النظرة القُطرية في الخطاب الذي يدور حول هذه الجائزة، في الفضاءات الثقافية العربية، من حيث تلقيها من وسائل الإعلام والنقاد وجمهور القراء على طول الوطن العربي وعرضه، فعلى الرغم من الغياب المتعمد من أي بعد قُطري في اسم الجائزة، وإلى أنها تشير صراحةً إلى بعديْها العربي والعالمي في اسمها، إلا أن الوصول إلى قائمتيها الطويلة والقصيرة، ومن ثمّة الفوز فيها، عادة ما يُحال إلى جنسية روائييها من المتلقي العربي، فهذا مصري وذلك مغربي وتلك سعودية؛ لتصبح الرواية موضع الحديث رواية مصرية أو مغربية أو سعودية. ومن النادر ما يقال إن النص الفائز بالجائزة ينتمي إلى الثقافة العربية بمجملها، بصورة تعكس نظرة "البوكر" العربية إلى نفسها بأنها جائزة للرواية العربية بلا حدود قُطرية، وإن الفوز فيها يكون لنصٍّ أدبي، لا لكاتب ذي جنسية معينة على مجمل أعماله.

لهذه النظرة القُطرية إلى الجائزة تبعاتٌ تطل علينا من خلال مقولات المحاصصة التي لا تنتهي عند كل إعلان عن القائمتين، الطويلة والقصيرة، أو عند الإعلان عن الرواية الفائزة في نهاية المطاف. نرى هذا النظرة تتردّد عاماً بعد عام، في عناوين توصيفية في وسائل الإعلام، تروج سبق هذه الدولة أو تلك في تصدُّرها القائمة الطويلة أو القصيرة، أو الاثنتين معاً، وكأن معيار الوصول إلى هاتين القائمتين يحكمه منطق الدولة القُطرية. وإن فازت روايةٌ عربيةٌ لكاتبٍ من دولةٍ ما في دورة ما، ترتفع الأصوات أن الفائز في الدورة اللاحقة يجب أن لا يكون من الدولة نفسها، حفاظاً على مبدأ المحاصصة، مع أن الوقائع تثبت حصول غير ذلك؛ فقد فازت رواية "واحة الغروب" للروائي المصري بهاء طاهر بالجائزة في دورتها الأولى، ولحقتها رواية "عزازيل" للكاتب المصري يوسف زيدان في الدورة الثانية، من دون أي التفاتٍ إلى مبدأ المحاصصة. وتكثر الأقاويل كل عام عن أن الفوز لا بد أن يكون لهذه الدولة أو تلك لأنها لم تفز بالجائزة حتى حينه، وكأن المحصاصة تأتي تراتبياً؛ لأن من حق كل دولةٍ أن يكون لها نصيبها من الفوز بالجائزة. وإنْ فازت رواية ما لا يعتقد بعضهم أنها تستحق الجائزة، ترتفع التأويلات أن سبب ذلك وجود عضو أو أكثر من بلد كاتبها في لجنة التحكيم؛ ما يفسّر في آن واحد اختراق مبدأ المحاصصة وتدخل الدولة القُطرية، بصورةٍ أو بأخرى، في أعمال اللجنة المعنية بصورة تنسف مصداقية الجائزة.   

والمفارقة المشاكسة التي لا بد أن ننتبه إليها، في هذا السياق، هي أن هذا التلقي القُطري للجائزة ومخرجاتها تسقط عنه جنسية الدولة، عندما تترجم روايةٌ من الروايات "البوكرية" إلى لغة أجنبية. في هذه الحال، تسقط عن الرواية المترجمة قُطريتها؛ فتسمو الرواية إلى مساحةٍ أرحب لتصبح رواية عربيةً بتصنيفها، على الرغم من الإشارة الصريحة إلى جنسية صاحبها القُطرية في إحدى عتبات الكتاب، كما هو معمول في العادة. بمعنى آخر، عند الترجمة ينفصل ما يمكن أن نسميه هوية النص الأدبي عن هوية الروائي القُطرية. وبهذا المنطق، يصبح فعل الترجمة ثورياً في مواجهة الدولة القُطرية التي تحاول دائماً أن تُلحق المنتَج الروائي فيها بفعل مبدأ التصنيف الذي تحتكره لنفسها عن طريق التطبيع السياسي والاجتماعي لمواطنيها وإعلامها ومؤسساتها. وانطلاقاً من هذه المفارقة المشاكسة، يمكن الإشارة إلى مشاكسةٍ أخرى أكثر غرائبية، مفادها أن العمل الروائي العربي، بحلته القُطرية، يصبح عربياً عندما ينسلخ عن لغته، ويتلبس لغةً أخرى بفعل الترجمة، مع أن اللغة الأصلية للعمل الروائي هي، في الواقع، أهم علامة سيميائية لهويته، إن جاز لنا أن نتحدّث عن هوية للعمل الأدبي. لذلك، أرى أن الترجمة من العربية إلى لغاتٍ أخرى فعل تحرّري، يقاوم هيمنة الدولة القُطرية، بإخراج العمل المُترجم من دائرة القاسم المشترك الأصغر، الذي ينصبّ على جنسية الكاتب القُطرية، إلى قاسم مشترك أعظم، ينطلق من لغة النص الأصلية، بكل ما فيها من طاقةٍ إبداعيةٍ ومسوغاتٍ تصنيفيةٍ جامعةٍ نمنمات سياسية وثقافية متناثرة.

أُنشئت جائزة "البوكر" العربية لتكون جائزة للرواية العربية، بلا أي تلويناتٍ قُطرية للأعمال الأدبية، وعلى الجميع أن يستقبلها بهذه الصفة، حتى تستمر في أداء رسالتها، في إحداث اختراقٍ روائي عربي، يتجاوز حدود الدولة القُطرية على أفضل وجه. حصل هذا فعلاً، ونريد له الاستمرار، لتجاوز عوامل الفرقة التي تنخر في الجسد العربي الواحد. نريد للنصوص الروائية المغاربية أن تشقّ طريقها إلى المشرق العربي. ونريد للنصوص الروائية المشرقية أن تشقّ طريقها إلى بلدان المغرب العربي. ولكم سعدت عندما قال لي صاحب أحد النصوص الفائزة من أحد بلدان المغرب العربي إنه، وبفضل "البوكر" العربية، انعتق من حدود جغرافيته القُطرية الكابحة، وأصبح قرّاؤه في دول الخليج العربي يفوقون، في عددهم، قرّاءه في بلده الأصلي بأضعافٍ، وإن معظم هؤلاء القراء من النساء.
لكني حزنت، في الوقت نفسه، عندما قال لي، إن عدد النسخ التي باعها من روايته في ترجمتها إلى إحدى اللغات الأوروبية يفوق عدد النسخ العربية التي باعها في كل بلدان الوطن العربي. شكَّكْتُ في ذلك، لأني أعرف أن قرصنة النشر في البلاد العربية لا تدخل في حِسبة عدد قراء روايات "البوكر" الفائزة؛ ما يجعلني أخمّن أن ما قاله لي صديقي عن تفاوت المبيعات بالعربية واللغات الأجنبية قد يكون غير صحيح، وكأني كنت ألوذ بالسرقة لأسوّغ رغبتي بالقول، إن الرواية العربية أكثر تعافياً مما نتوقّع.



*رئيس مجلس أمناء جائزة البوكر العربية

 

 

 

    

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.