}

هذه السنة أيضًا بلا رأس

ميسون شقير 31 ديسمبر 2017
آراء هذه السنة أيضًا بلا رأس
لوحة للفنان السوري نهاد ترك

في محاولة بائسة لفهم المطلق، أو للسيطرة عليه، حاول الإنسان مذ بداية وعيه لذاته، أن يقنع نفسه بأنه قادر على التحكم بالزمن، وأنه قادر على الإمساك بذلك الوحش الضاري/ الحمل الوديع، السيد/ العبد، وذلك من خلال تقسيمه وإعطائه أسماء وأرقاما تجعلنا نتوهم بأننا قادرون على صناعة التاريخ، وعلى دراسته، وحفظه، وأننا أيضا قادرون على رشوة القدر من خلال التخطيط للزمن القادم، وإعطائه مواعيد وتواريخ تشغل الزمن عن اللعب بنا قليلا.

هكذا وجد مفهوم الساعة، ووجد مفهوم اليوم، ومفهوم الشهر، ووجدت السنة.

وفي محاولات أخرى اخترع الإنسان مفهوم العيد، كي يصنع من هذا الوحش حالة فرح مفتعلة، تتكرر وتعيد ذاتها ضمن دورية مرتبطة بالتقسيم الذي اخترعه للزمن، حالة فرح تعطي للحياة بهاراتها الناقصة.

وهكذا اعتاد العالم أن يشتري الأمل، وأن يدفع الكثير من تعبه مقابل تجديد أحلام انتهت مدة صلاحيتها.

هكذا صنع العالم للسنة رأسا تطل بها على حياتنا، وجعل هذه اللحظة عيدا، وجعلنا نعتاد أن نستقبلها بالكثير من الرقص والابتهاج، بالحب والألفة، بطعام شهي نحرم منه أنفسنا أيامًا كثيرة كي نعتقد أننا نرضي هذه القادمة الجديدة علها تترك لنا بعضا من آمالنا على طاولة أيامنا قبل أن ترحل.

هكذا صنع العالم فكرة بابا نويل، الرجل الذي يأتي مع العيد، والذي يحمل للأطفال الفرح، والخرافة المحببة، والخيال، وكي يجعل برد كانون الأول دافئا بأنفاس الأطفال وهم يمضون أيامهم بانتظار الهدية تحت شجرة علقت عليها الألوان والنجوم.

هكذا ينتظر العالم، كل العالم، عيد رأس السنة ذات العيون الخضراء والشعر الطويل الجميل.

 لكن السوريين الخارجين عن هذا الكوكب، الذين ارتكبوا حلما عاليا، وعاقبهم العالم، كل العالم، على جرمهم الذي لا يحتمل، لم يعودوا قادرين على فعل الانتظار، وصاروا عاجزين تماما عن فعل الأمل.

السوريون الذين تجرؤوا على الهتاف، الذين حملوا أرواحهم على أصابعهم وذهبوا بها إلى الشوارع والساحات، السوريون الذين أصيبوا بوباء الحرية، الذين كسرهم العالم كقطعة حطب، وحرقهم يابسين، هم الذين الآن يكسرون كل نظريات العالم حول مفهوم الزمن، وهم الذين يعدون الوقت بعدد الشهداء، ويقسمون السنوات على عدد الضحايا، وعدد الذين لم يزالوا معلقين على حافة الموت.

منذ سبع سنوات، سبعة أعياد، وبابا نويل، يمر من أمام بيوتهم، حاملا على ظهره أطفالهم الباردين، الهادئين، الميتين، ويمضي بهم مع كل الهدايا، مع كل الأحلام وكل الأنفاس، والملابس المعلقة في خزائنهم، إلى المقبرة.

منذ سبع سنوات والأمهات يعددن العشاء لأسماء رحلت لكنها بقيت معلقة في قلوبهن، ولأرواح تحولت لصور تسند جدرانهن من الانهيار، ولشرائط سوداء مربوطة على زوايا الصور المعلقة كي تدل على سكناهم الجديد تحت التراب.

سبع سنوات والأمهات واقفات على أبواب بيوتهن ينتظرن أولادهن الذين تموت الحياة معهم تحت التعذيب، ربما يعرفن أنهم لن يعودوا، لكنهن ينتظرن.

الكراسي الفارغة تملأ طاولة العيد، والبيوت الفارغة تملأ المدن، والمدن الفارغة تملأ البلاد، والبلاد تنزح مع الراحلين، وتصل المخيمات مدمية الكاحل والروح.

البحر يشكو للشواطئ الغريبة ملح دموع غرقاه، وملح المناديل التي بقيت هناك، ثم يضرب رأسه بصخور الشواطئ ويقول لها إن الطفل الذي غرق كان يصرخ يا أمي، لو ربطني بحبل إليك، يا أمي.

البلاد التي نجت من الغرق، ونجت من شرطة الحدود، البلاد التي وصلت إلى بلاد الثلج، تبهجها هناك الأضواء الكثيرة، لكنها تفقد نفسها، وتعرف جيدا أنها لم تنج أبدا.

وحدهم الشهداء الذي نجوا من الحياة، ينتظرون السنة القديمة كي تكمل موتها ثم تأتي إليهم مكفنة بالأحلام الممزقة.

ويسخرون من السنة القادمة، يسخرون من مراهقتها، من أضوائها، من فرط زينتها، ومن مكياجها السخيف.

وحدهم هناك، في آخر الأرض، وآخر الوقت، يقيمون احتفالهم الخاص، وحدهم يعرفون أن الزمن هو اللحظة التي صرخ فيها ذاك الشاب بأعلى صوته: حرية، حرية. وأن العيد هو ذاك الزلال الذي عمرته آخر الكلمات لمعتقل مات بين يدي سجانه، الزلال الذي بدأ من قوله لن توقفوا الزمن، لن تعتقلوه، لن تستطيعوا أن تقتلوه تحت التعذيب، والعالم، كل العالم، لن يستطيع أن يقتل القادم برصاصه الأحمق.

وحدهم الشهداء اكتشفوا أنه لا رأس لهذه السنة، ووحدهم وجدوا رأسها المقطوع، وها هم هناك، في آخر الوقت، يركلونه بينهم، رأس مقطوع بشعر أشعث، وعيون لم تزل مفتوحة على مصاريعها.   

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.